الرد على الجوع والعطش عند الصوفية (1)

الرد على الجوع والعطش عند الصوفية (1)



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يعد الجوع والعطش عند الصوفية هما لا خطوة العملية الثانية في تطبيق الطريق الصوفي، وقد اهتم بها شيوخ الصوفية عامة والأوائل منهم خاصة اهتماما كبيرا، لأنهما نتيجة طبيعية لموقفهم من الدنيا، ودعوتهم إلى الخلوة الصوفية، ولأنهما الخطوة العملية الضرورية التي تدخل الصوفي في صراع عنيف مع أمعائه وأعصابه وكل كيانه قصد بلوغ غاية العبادة الصوفية التي يتحدث عنها معظم الصوفية بالإشارة لا بالعبارة.

وردا على هؤلاء أقول:

أولا: بما أنه تبين من أقوال هؤلاء الصوفية وأحوالهم أن الجوع عندهم ليس هو الجوع العادي، وإنما هو الجوع الشديد المضر بالإنسان: نفسا وعقلا وجسما، فإن موقفهم هذا مخالف للشرع مخالفة صريحة، لأن الله تعالى لم يأمرنا بترك الأكل والشرب إلى درجة الجوع المضر بنا، ولا أمرنا بالإسراف فيهما، وإنما أمرنا بالاعتدال فيهما، على أن يكونا من الطيبات لا الخبائث، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 32]، و قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

وأما من السنة النبوية فإن الأحاديث التي تذم الجوع الصوفي كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة"[1].

فهو صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجوع المضر بالإنسان، كجوع الصوفية، ولم يتعوذ من الجوع العادي والشرعي، أي: الصوم.

ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم:" إن لأهلك عليك حق، ولنفسك عليك حقا"[2]، والجوع الصوفي يحرم النفس من حقها في الأكل والشرب، ويلحق بها أضرار كثيرة وخطيرة جدا تنتهي به في النهاية إلى الهلاك.

ومنها أحاديث ذكت الصوف الصوفي، فعن عبد الله بن عمرو قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا صام من صام الأبد"[3]، وقال صلى الله عليه وسلم:" يا عثمان، إني لم أومر بالرهبانية أرغبت عن سنتي؟" قال: لا يا رسول الله، قال:" إن من سنتي أن أصلي وأنام وأصوم وأطعم وانكح وأطلق، فمن رغب عن سنتي، فليس مني"[4].

ومنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يحرم نفسه من أكل مختلف أنواع المأكولات الطيبة، ولا كان يكثر منها أيضا، لا يحرم نفسه منها، ولا يجبرها على أكل الطين، أو الحشائش، لكنه إذا لم يجد، أو صام كان جوعه جوعا شرعيا، وليس جوعا صوفيا، ومن الأحاديث الدالة على ذلك، حديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل"[5]، وعن أنس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فانطلقت معه فجيء بمرقة فيها دباء-قرع- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من ذلك الدباء ويعجبه، قال فلما رأيت ذلك جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه، قال أنس:" فما زلت بعد يعجبني الدباء"[6].

وقد لخص ابن القيم الجوزية ما كان يأكله النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم، وسيرته في الطعام، لا يرد موجودا، ولا يتكلف مفقودا، فما قرب إلي شيء من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافه نفسه، فيتركه من غير تحريم، وما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، كما ترك أكل الضب لما لم يعتده ولم يحرمه على الأمة، بل أكل على مائدته وهو ينظر، وأكل الحلوى والعسل، وكان يحبها، وأكل لحم الجزور، والضأن، والدجاج، ولحم الحباري، ولحم حمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر، وأكل الشواء، وأكل الرطب والتمر، وأكل الخزيرة، وهو حساء يتخذ من اللبن والدقيق، وأكل القثاء بالرطب، وأكل الأقط، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل الثريد، وهو الخبز باللحم، وأكل الخبز بالإهالة، وهي الودك، وهو الشحم المذاب، وأكل من الكبد المشوبة، وأكل القديد، وأكل الجبن، واكل الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرطب، وأكل التمر بالزبد، وكان يحبه، ولم يكن يرد طيبا، ولا يتكلفه.

بل كان هديه أكل ما تيسر، فإن أعوزه، صبر حتى أنه ليربط على بطنه الحجر من الجوع، ويرى الهلال والهلال والهلال، ولا يوقد في بيته نار، وكان معظم مطعمه يوضع على الأرض في السفرة، وهي كانت مائدته، وكان يأكل بأصابعه الثلاث، ويعلقا إذا فرغ، وهي أشرف ما يكون من الأكلة، فإن المتكبر يأكل بأصبع واحده، والجشع الحريص يأكل بالخمس، ويدفع بالراحة، وككان لا يأكل إلا متكئا"[7].

وبذلك يتبين أن الجوع الشرعي إن لم يكن صياما فهو قائم على الاعتدال في الأكل والشرب، وإن كان صوما فهو أيضا محكوم بالاعتدال في الأكل والشرب، وبمدة زمنية حددها الشرع طاعة لله تعالى، وهذا خلاف الجوع الصوفي الذي لا يلتزم بالصوم الشرعي زمنيا، ولا يقوم على الاعتدال في الأكل والشرب، وإنما يقوم على الغلو والمبالغة في الجوع والطش التزاما بالعبادة الصوفية.

وثانيا: إن مما يدل على أن موقف الصوفية من الجوع والعطش غير صحيح هو أنه توجد شواهد كثيرة تبين أن موقفهم مضر بالإنسان، ترتبت عنه آثار خطيرة ومدمرة للفرد والمجتمع.

منها: أنه أوقع الصوفية في مخالفات شرعية مكشوفة، وأدخلهم في رهبانية كرهبانية النصارى والبوذيين، وأفسد عقولهم ونفسياتهم، من ذلك مثلا ما ذكره الذهبي عن أبي بكر الشلبي فقال:" كان يحصل له جفاف دماغ وسكر، فيقول أشياء يعتذر عنه، فيها[8]... وله مجاهدات عجيبة انحرف منها مزاجة"[9].

والشاهد الثاني: ما ذكره المؤرخ قطب الدين اليونيني عن الصوفي أبي محمد بن شكر اليونيني كان لقلة ماله:" يصبر على خشونة العيش وكثرة الجوع إلى أن حصل يبس، أورثه تخيلات فاسدة، فتارة يتخيل أن جماعة عزموا على اغتياله وقتله، وتارة يتخيل أنه اطلع على أماكن فيها كنوز وأموال جليلة، واتصل ذلك ببعض الولاة ببعلبم فأحضره وسأله عن ذلك، فذكر أنه يعرف أماكن فيها مدافن تحتوي على أموال جمة فسأل عنه، فقال من يعرفه هذا من الأولياء الأفراد ولا يتجوز في القول وإنما لكثرة الجوع والمجاهدة حصل له يبس أفسد مزاجه"[10].

والشاهد الثالث: يتعلق بوصف علمي دقيق قال الذهبي في الجوع الصوفي وما يترتب عنه، فقال:" إن هذا لا جوع المفرط لا يسوغ، فإذا كان سرد الصيام والوصال قد نهي عنهما، فما الظن؟ وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم:" اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع" ثم قل من عمل هذه الخلوات المبتدعة إلا واضطرب، وفسد عقله، وجف دماغه، ورأى مرأى، وسمع خطابا لا وجود له في الخارج، فإن كان متمكنا من العلم والإيمان، فلعله ينجو بذلك من تزلزل توحيده، وإن كان جاهلا بالسنن وبقواعد الإيمان، تزلزل توحيده، وطمع فيه الشيان، وادعى الوصول، وبقي على مزلة قدم، وربما تزندق وقال: أنا هو نعوذ بالله من النفس الأمارة، ومن الوى ونسأل الله أن يحفظ علينا إيماننا، آمين"[11].

وثالثا: إن مما يشهد على عدم صحة موقف الصوفية في غلوهم في الجوع والعطش أن كثيرا من متقدمي الصوفية وأكثر متأخريهم لم يلتزموا به، حتى أصبح كثرة الأكل عندهم هو الأصل، وقلته و الاستثناء.

فمن ذلك: ما ذكر القاضي عياض أن عبد الله بن يوسف التنيسي الدمشقي قال:" كنا عند مالك بن أنس وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين: عندنا قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيرا ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون، فقال مالك: أصبيان هم؟ فقال: لا، قال: أمجانين هم؟، قال: لا هم مشايخ وعقلاء، قال:" ما سمعت أن أحد من أهل الإسلام يفعل هذا"[12]، فهؤلاء الصوفية من المتقدمين لأن مالك بن أنس توفى سنة 179هـــ.

والشاهد الثاني: يصف حال الصوفية مع الأكل واللهو في القرن الرابع الهجري وصفة الشاعر الطاهر الجزري سداد أبو النجيب بقوله:

أرى جيل التصوف شر جيل فقـــــــل لهــــــم وأهـــــون بالحـــــــلول

أقال الله حين عشـــقتــــمــــــوه كلوا أكل البهائم وأرقصوا لي

وقال فيهم أيضا:

لا تثق بالسكوت من كل صوفي واحترز منهم وكن في سدف

بالعكاكيز والخابر والصحف وجمع كمثل جمع الزحوف

ويل داعي وحق له والويل إذا ما أتى بألف خروف

وصنان فإن هم بايتوه أكلوا بيته بحشو السقوف

أترى ربهم يقول ارقصوا ليوا تركوا ما افترضت من معروف

شر جيل تراه في عالم الحشر        إذا أوقفوا لـــــيــــــوم مــــخـــــــوف[13]

والشاهد الرابع: مفاده أن المؤرخ الصوفي قطب الدين اليونيني ذكر عن نفسه أنه كان يسمع بأن الأمير حسام الدين لاجين الجوكندرا يعقد مجالس الصوفية، وينفق عليهم أموالا طائلة، فكان يحمل على المبالغة والمجازفة، فما حضر مجلسا للصوفية دعاهم إليه هذا الأمير، وجد أن الأمر أكثر مما وصف له[14]، وموجوزه: بعد صلاة المغب مد سماط عظيم فيه أنواع كثيرة من المأكولات، منها: مائة خروف، وتسعمائة طير من الدجاج، وبعد صلاة العشاء افتتح مجلس الغناء والرقص، واستمر إلى قرب صلاة الفجر، وقد قسم المجلس إلى ثلاث نوبات، في الأولى غنوا ورقصوا، ثم توقفوا لتناول الحلويات ثم نهضوا للنوبة الثانية، فغنوا ورقصوا، ثم جلسوا لتناول الفواكه النادرة والمتنوعة، ثم قاموا للثلاثة فغنوا ورقصوا ثم مد لهم سماط فيه البندق والفستق، والزبيب والكعك، وغيرها من المأكولات، ثم أدخلهم الأمير إلى الحمام، وأعطى لبعضهم ملابس جديدة حسنة، لأنهم كانوا قد خلعوا قمصانهم في الرقص، ثم أخذهم إلى داره وسقاهم الأشربة وأعطاهم الحلويات[15].

كل ذلك رواه قب الدين اليونيني هو شاهد عيان من باب المدح والإعجاب ولم يستنكره، مع أنه أخبرنا أن أسعار القمح واللحم والدجاج كانت غالية جدا[16].

والشاهد الأخير الخامس: مفاده أن طائفة من متأخري الصوفية لما تركوا الجوع الصوفي أصبحوا يتعاطون الحشيش المخدر منذ القرن السادس الهجري وما بعده، واهتموا به ومدحوه، فقال فيه بعضهم:

فحشيشة الأفراح تشفع عندنا للعاشقين ببسطها للأنفس

وإذا هممت بصيد ظبي نافرفا جهد بأن يرعى حشيح القنبس

واشكر عصابة حيدر إذا أظهروا لذوي الخلاعة مذهب المتخمس

ودع المعطل للسرور وخلني من حسن ظن الناس بالمنمس[17]

فدل كل ذلك على أن موقف الصوفية من الجوع والعطش لا يتفق طبيعة البشر، وأنه مضر وفسد لها، فلو كان موافقها لها لالتزام به هؤلاء.

فمنهم من ترك الجوع وأسرف في الأكل، ومنهم من تعاطى المخدرات كوسيلة سهلة وخفيفة لبلوغ غاية التصوف بدلا من الجوع والصوفي المنهك للمريد، لكن الجميع انحرف عن الشرع وأضر بنفسه وعقله وجسده.

رابعا: لا شك أن كثيرا من الصوفية مارسوا الطريق الصوفي، فجاعوا وعطشوا، وحملوا أنفسهم ما لا تطيق، وداوموا على ذلك عدة أيام، لكن المشكوك فيه، بل وغير الصحيح من أحوالهم أن الروايات بلغت وخرجت عن الحد المعقول في ذكر طول مدة جوعهم وعطشهم كما سبق أن بيناه، فقيل أن منهم من لم يشرب الماء أربعين يوما، وآخر سنة وآخر اربعة أشهر، وآخر سبع سنين، وآخر لم يشرب ولم يأكل ستة أشهر، وآخر ظل سبع سنوات لم يذق فيها طعاما ولا شرابا، وهذه أخبار لا تصح إسنادا ولا متنا لأنها تضمنت أمورا مستحيلة الحدوث في الواقع.

فمن ناحية أسناديها، فهي لا تصح لأن متونها مستحيلة، ولأن الرواية الصوفية ضعيفة من داخلها، بحكم أن رواتها يتعمدون التحريف لقولهم بالتقية، ولأنهم يرون الأخبار المخالفة للشرع والعقل والعمل، ولأنهم لا يحرصون على تحصيل صحيح الأخبار ولا يحققونها لتمييز صحيحها من سقيمها.

وأما متونها فهي لا تصح قطعا لأنها تضمنت ما يخالف حقائق الواقع والعلم، فإذا كان بعض الناس يستطيعون الامتناع عن الأكل ثلاثة أشهر مع شربهم للماء وتدهور صحتهم وقدراتهم العقلية والنفسية، فإنهم لن يستطيعوا أن يبقوا نفس الفترة دون أكل وماء ولا أن يبقوا في تلك الحالة ستة أشهر، ولا سنة، ولا أكثر من ذلك، لأنه من الثابت علميا أن الماء هو أحد ضروريات الحياة، يمثل من وزن الإنسان نحو:65%، وتقدر احتياجات الجسم يوميا من الماء ما بين: 2-3 لترات، ويستطيع الإنسان أن يتحمل نقص الماء عن احتياجاته بمقدار2%، ولا يتحمل النقص إذا قرب من 10%[18]، وأن أي نقص كبير للماء في جسمه سيؤدي إلى موته و"الإنسان يستطيع أن يبقى على قيد الحياة لمدة أسبوع واحد فقط بلا ماء، ويموت إذا فقد جسمه أكثر من 20% من الماء".

ولذلك فنحن لا نترك حقائق الواقع والعلم ونصدق روايات صوفية ظنية منكرة، بل ومستحيلة الحدوث، ومن يصدقها فقد داس على الشرع والعقل والعلم وارتمى في احضان خرافات الصوفية وأباطيلهم، ونحن برفضنا لها لا نخسر شيئا، لكننا سنخسر عقولنا وحقائق الواقع والعلم إن صدقنا بها، ومع أن تلك الحكايات مستحيلة لكنها من جهة أخرى تشير إلى موقف القوم من الجوع وغلوهم فيه، كعبادة صوفية موصلة إلى كبرى غايات التصوف التي يدندن حولها الصوفية ويخفونها عن الناس.

وخامسا: إن تبريرات هؤلاء الشيوخ لما كانوا عليه من جوع وعطش شديدين معظمها تبريرات لا تصح، وهي من المغالطات والتلبيسات والشبهات استخدموها تعضيدا وانتصارا للتصوف وليس التزاما بالشرع وغيره عليه، فمن ذلك قول الجارية لداود الطائي ورده عليها، فقالت له:" أما تشتهي الخبز؟ فقال: يبن مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية"[19].

وأقول: تبريره لا يصح، وفي غير محلة، لأن أكل الخبز قد يكون عبادة، هو زاد للقيام بالعبادات، والشرع أمرنا بالأكل والشرب مطلقا، بشرط عدم الإسراف، والأكل نفسه فيه جانب تعبدي من جهة مصدره، والتسمية وحمد الله وشكره على الأكل، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فإن نسي أن يقول بسم الله في أوله فليقل بسم الله في أوله وآخره"[20]، و" إذا أكل أحدكم طعاما فليقل بسم الله فإن نسي أن يقول بسم الله في أوله فليقل بسم الله في أوله فليقل بسم الله في أوله وآخره"[21].

فالشرع كما امرنا بقراءة القرآن أمرنا بالشرب والأكل الحلال فالكل مأمور به شرعا، وعليه فلا يصح تبرير الرجل.

وأما تعليه فهو عليه لا له، لأن القرآن الكريم أنزل للتدبر والتطبيق قبل قراءته، لقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، ومن يتدبر فيه لا يمكنه قراءة ذلك العدد الكبير من الآيات، بل آية واحدة يتطلب تدبرها وقتا أطول من مضغ الخبز وشرب الماء، علما بأنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل قراءة القرآن على الأكل ومضغه، الطعام من أجل قراءة القرآن ونسي أو تناسى أن القرآن نفسه يأمره بالشرب الأول والثاني وفي الثالث أيضا لأنه قرأه في غير مكانه، ومن دون تدبر كما أمر الشرع، فالرجل هنا خالف الشرع مخالفة صريحة، وتقدم عليه برغباته وأحواله انتصارا للتصوف وتسترا بالشرع.

ومنها: قول بعضهم:" الجوع سحاب، فإذا جاع العبد مطر القلب الحكمة"[22].

وأقول: نعم إن الجوع الشرعي والصحي ينفع الإنسان، ويفتح له بابا من أبواب التقوى والعلم والحكمة، لكن الجوع الصوفي الذي تكلم عنه هؤلاء فهو مفسد للقلب والعقل والجسم، ويورث أصحابه الأوهام والأمراض والهلوسات، كما سبق أن بيناه، ولا يورث علما نافعا، ولا حكمة صحيحة.

ومن الثابت شرعا وعقلا وعلما أن العلم يكتسب أساسا بالتعليم والعمل، والإيمان الصحيح يكتسبه المؤمن بإخلاصه وتقواه وطاعته الكاملة لله تعالى، والجوع الشرعي هو جزء من العبادات الشرعية ويختلف كلية عن جوع الصوفية.

فالعلم بمعناه الواسع لا يكتسب بالجوع الصوفي، وإنما يكتسب أساسا بالتعلم، ولهذا قيل:" إنما العلم بالتعلم" وهذا ثابت شرعا وعقلا واقعا، فقد أمرنا الشرع بالتعلم، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالقول والممارسة، وحثهم على طلب العلم، وجعل من يخرج في طلبه فهو في سبيل الله حتى يرجع، مع أنهم كانوا يصومون رمضان، ويكثرون من صوم التطوع لكن مع ذلك فقد عملهم بنفسه، وحثهم على طلب العلم، فلو كان الجوع يغني عن طلب العلم، ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بطلبه.

ولكن الجوع الشديد يوث العلم والحكمة ما أمرنا الشرع بالأكل وعدم الإسراف، ولا أمرنا بقراءة القرآن والتفكر في الكون والبحث فيه لاكتشاف أسراره وسننه، تسخير خيراته لصالح الإنسان.

الشاهد على عدم صحة قولهم أيضا: هو أنه من الثبات أن العلوم الحديثية من فيزياء وكيمياء، وطب وفلك، كلها اكتشفت بالتعلم والبحث والتجريبي، ولم تكتشف بالطريق الصوفي، فلماذا لم يكتشفها الصوفية، وهم كثيرون جدا بالجوع وممارساتهم التعبدية؟؟

ومما يبطل زعمهم أيضا هو أن حصيلة ما عند الصوفية من علم صحيح قليلة وهزيلة جدا بالمقارنة إلى ما عندهم من أخطاء وأباطيل وخرفات وأوهام، فأين هذا العلم المزعوم الذي تحصلوا عليه من الجوع الصوفي؟؟

ولا يصح القول: بأن الله تعالى جعل في الشبع: المعصية والجهل، وفي الجوع: العلم والحكمة[23]، فالله عز وجل لم يجعل في الشبع العادي من دون إسراف، الجهل ولا المعاصي، فلو كان كذلك ما قال لنا: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف: 31]، وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 32].

والأكل والشرب دون إسراف، هما من الشبع العادي الذي ينفع الإنسان ولا يضره.

ومن جهة أخرى لم يجعل الله تعالى في الجوع الشديد علما ولا حكمة، وإنما جعل في الجوع الشرعي الصوم، وسيلة ومن وسائل التربية الإيمانية لتحقيق جانب من التقوى، قال سبحانه: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

وليس صحيحا أن الله جعل المعصية والجهل في الشبع، فهذا أمر نسبي فقد يحدث وقد لا يحدث، ونفسه يصدق على الجوع، فقد يكون الجهل والمعصية في الجوع، فكم من جائع عصى الله تعالى وارتد وكفره، وكم من شبعان عالم وحكيم وطائع للتعالي، وكم من جائع أورثه جوعه السخط والانتقام والاعتداء على أملاك الغير، وكم من شعبان اعتدى على غيره، وأكل أموال الناس بالباطل، وكم من شبعان كثير الصدقات والإحسان إلى الفقراء، والعكس صحيح.

علما بأن الإيمان هبة وجائزة ربانية يرزق ويجازي بها الله تعالى عبادة المؤمنين، وليس نتيجة حتمية للجوع وتعذيب النفس، فما ينتج من ذلك ليس من الإيمان الشرعي الذي يرزق الله به عباده المتقين، وإنما هو انعكاسات لذلك الجوع والتعذيب للجسم، فالإيمان الصحيح يناله المؤمن بإخلاصه والتزامه بشرع الله، فيأكل ويشرب، ويصوم ويجوع التزاما بدين الإسلام، وليس اتباعا للعبادة الصوفية التي هي امتداد لبرهبانية البوذيين والنصارى.

وعليه فكما أن الأكل الكثير يضر بالإنسان في كل جوانبه، فكذلك الجوع الشديد والدائم يضر بالإنسان ويفتك به عقلا وروحا وبدنا، فكل منهما ضرورة أكثر من نفعه، فإن ورثا قليلا من العلم والحكمة، فإنهما بال شك يورثان كثيرا من الأمراض، والجهالات والجنونيات.

وأما ما روي عن عبد الله قشاع بأنه وقف ليلا على شط دجلة وهو يقول: يا سيدي أنا عطيشان يا سيدي أنا عطشان، يا سيدي أنا عطشان، حتى أصبح قال: يا ويلتي تبيح لي شيئا وتحول بيني وبينه، وتخطر على شيئا وتخلي بيني وبينه، فأيش أصنع ورجع ولم يشرب منه"[24].

فإن صح الخبر فهو نموذج من جنونيات الصوفية ومهازلهم، وتعمدهم مخالفة الشرع والعقل، لأن الله تعالى قال لنا: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، فلماذا لم يشرب من النهر التي يرتوي، ثم يحمد الله تعالى على ذلك؟ فهو الذي حرم نفسه حقها في الشرب وتركها وتتعذب وليس الله تعالى هو الذي حال بينه وبين الماء ولا حظره عليه، وإنما هو مفتر على الله سبحانه وتعالى.

ولعل الرجل كان ينتظر أن يخرج الماء من النار ليدخل في فمه!!!

فعندما لم يتحقق له ذلك بدعوى التوكل ترك الشرب وزعم أن الله تعالى هو الذي حال بينه وبين شرب الماء، وهذا زعم باطل قطعا، وإنما الرجل هو الذي خالف الشرع وسنة الحياة بأن الإنسان هو الذي يسعى متوكلا على الله تعالى في طلبه للرزق، فكما أن خرج من بيته وجاء إلى شاطئ النهر كان عليه أن ينزل إلى النهر ويشرب الماء بيده، وإلا كان عليه أن يبقى في بيته أحسن له من أن يخرج إلى النهر ويحرم نفسه من شرب الماء.

 

الهوامش

[1] أبو داود: السنن، (1/288)، رقم(1368)، وابن ماجه: السنن، (3/393)، رقم(1113)، والحديث حسنه الألباني: صحيح أبي داود،(1/288)، رقم: (1368).

[2] الألباني: السلسلة الصحيحة (1/238)، رقم(3345).

[3] الألباني: (1/393)، رقم: (394).

[4] ابن ماجه: السنن، (1/544)، رقم:(1705)، والألباني: صحيح ابن ماجه (1/285)، رقم (1385).

[5] البخاري: الصحييح، (7/110)، رقم:(5614).

[6] مسلم: الصحيح(6/121)، رقم:(5447).

[7] ابن القيم: زاد المعاد، (1/148).

[8] ذلك هو رأي الذهبي في موضع الاعتذار للصوفية في أحوالهم الغربية والسكرية.

[9] الذهبي: السير، (15/367، 369).

[10] قطب الدين اليونيني: ذيل مرآة الزمان(1/392).

[11] الذهبي: سير أعلام النبلاء (17/577).

[12] القاضي عياض: ترتيب المدارك (1/124).

[13] ابن شاكر الكتبي: فوات الفوات (2/222).

[14] المرجع السابق (2/301).

[15] المرجع السابق(2/301، 302).

[16] المرجع السابق (2/303).

[17] المقريزي: المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار(2/291).

[18] سعد أحمد حلابو: الغذاء ومكوناته، مؤسسة الشروق الدولية (75).

[19] القشيري: الرسالة القشيرية، (1/54).

[20] مسلم: الصحيح (8/79)، رقم (7069).

[21] ابن ماجه: السنن (3/367)، رقم(1087)، والألباني: صحيح ابن ماجه (30)، (2641).

[22] أبو يزيد البسطامي: المجموعة الصوفية الكاملة، ويليها كتاب تأويل الشطح، (84).

[23] القشيري: الرسالة القشيرية (48).

[24] الكلاباذي : التعرف لمذهب أهل التصوف (148).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الرد على الجوع والعطش عند الصوفية.doc doc
الرد على الجوع والعطش عند الصوفية.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى