بسم الله الرحمن
الرحيم
عرض طريقة الاحتفال
بالمولد
الحمد لله وحده،
والصلاة والسلام على
من لا نبي بعده، محمد
وعلى آله وصحبه وبعد:
فسنعرض في هذه السطور
طريقة إحياء المولد
منقولة من كلام
العلماء المؤرخين،
الذين رأوا تلك
الاحتفالات بأعينهم،
فنقلوها كما هي..
وبعد ذلك ندعك -أيها
القارئ الكريم- لتحكم
عليها بنفسك..
قال المقريزي في
(الخطط) يصف جلوس
الخليفة في الموالد
الستة:
"فإذا كان اليوم
الثاني عشر من ربيع
الأول، تقدَّم
الخليفة بأن يعمل في
دار الفطرة عشرون
قناطراً من السكر
اليابس حلواء يابسة
من طرائفها، وتعبأ في
ثلاثمائة صينية من
النحاس، وهو مولد
النبي صلى الله عليه
وسلم، فتفرق تلك
الصواني في أرباب
الرسوم من أرباب
الرتب، وكل صينية في
قوارة، من أول النهار
إلى ظهره، فأول أرباب
الرسوم قاضي القضاة،
ثم داعي الدعاة،
ويدخل في ذلك القراء
بالحضرة والخطباء،
والمتصدرون بالجوامع،
وقومة المشاهد....
فإذا صلَّى الخليفة
ركب قاضي القضاة
والشهود بأجمعهم إلى
الجامع الأزهر، ومعهم
أرباب تفرقة الصواني،
فيجلسون مقدار قراءة
الختمة الكريمة، ثم
يستدعى قاضي القضاة
ومن معه، وقد كنست
الطريق، ورشت بالماء
رشاً خفيفاً، وفرش
تحت المنظرة الرمل
الأصفر، فيقربون من
المنظرة ويترجلون قبل
الوصل إليها بخطوات،
فيجتمعون تحت المنظرة
دون الساعة الزمانية
بسمت وتشوف لانتظار
الخليفة، فتفتح إحدى
الطاقات، فيظهر منها
وجهه الخليفة وما
عليه من المنديل،
وعلى رأسه عدة من
الأستاذين المحنكين،
وغيرهم من الخواص،
ويفتح بعض الأستاذين
طاقة ويخرج منها رأسه
ويده اليمنى في كمه،
ويشير به قائلاً:
أمير المؤمنين يرد
عليكم السلام.
فيسلم بقاضي القضاة
أولاً بنعوته، وبصاحب
الباب بعده
كذلك،وبالجماعة
الباقية جملة جملة من
غير تعيين أحد،
فيستفتح قراء الحضرة
بالقراءة، ويكونون
قياماً في الصدر،
وجوههم للحاضرين،
وظهورهم إلى حائط
المنظرة، فيقدم خطيب
الجامع الأنور
المعروف بجامع
الحاكم، فيخطب كما
يخطب فوق المنبر، إلى
أن يصل إلى ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم،
فيقول: وإن هذا يوم
مولده إلى ما من الله
به على ملَّة الإسلام
من رسالته، ثم يختم
كلامه بالدعاء
للخليفة، ثم يؤخر،
ويقدم خطيب الجامع
الأزهر، فيخطب كذلك،
ثم خطيب الجامع
الأقمر فيخطب كذلك،
والقراء في خلال
خطابة الخطباء،
يقرءون!!
فإذا انتهت الخطابة،
أخرج الأستاذ رأسه
ويده في كمه من
طاقته، وردّ على
الجماعة السلام،ثم
تغلق الطاقتان فتنفض
الناس، ويجري أمر
الموالد الخمسة
الباقية على هذا
النظام، إلى حين
فراغها على عدتها من
غير زيادة ولا نقص"
ا.هـ.
وقال ابن خلكان في
وصف احتفال مظفر
الدين أبي سعيد
كوكبوري، صاحب إربل
بالمولد النبوي:
"وأما احتفاله بمولد
النبي صلى الله عليه
وسلم، فإنَّ الوصف
يقصر عن الإحاطة به،
لكن نذكر طرفاً منه:
وهو أن أهل البلاد
كانوا قد سمعوا بحسن
اعتقاده فيه، فكان في
كل سنة يصل إليه من
البلاد القريبة من
إربل خلق كثير من
الفقهاء والصوفية
والوعاظ والقراء
والشعراء، ولا يزالون
يتواصلون من المحرم
إلى أوائل شهر ربيع
الأول، ويتقدم مظفر
الدين بنصب قباب من
الخشب، كل قبة أربع
أو خمس طبقات،ويعمل
مقدار عشرين قبة أو
أكثر، منها قبة له،
والباقي للأمراء
وأعيان دولته لكل
واحد قبة، فإذا كان
أول صفر زيَّنُوا تلك
القباب بأنواع الزينة
الفاخرة المستجملة،
وقعد في كل قبة جوق
من المغاني، وجوق من
أرباب الخيال، ومن
أصحاب الملاهي، ولم
يتركوا طبقة من تلك
الطباق في كل قبة حتى
رتبُوا فيها جوقاً،
وتبطل معايش الناس في
تلك المدة، وما يبقى
لهم شغل إلا التفرج
والدوران عليهم...
فكان مظفر الدين ينزل
كل يوم بعد صلاة
العصر، ويقف عليها
قبة قبة إلى آخرها،
ويسمع غناءهم، ويتفرج
على خيالاتهم، وما
يفعلونه في القباب،
ويبيت في الخانقاه،
ويعمل السماع، ويركب
عقيب صلاة الصبح
يتصيد، ثم يرجع إلى
القلعة قبل الظهر.
هكذا يعمل كل يوم إلى
ليلة المولد.
وكان يعمله سنة في
ثامن الشهر، وسنة في
الثاني عشر؛ لأجل
الاختلاف الذي فيه،
فإذا كان قبل المولد
بيومين أخرج من الإبل
والبقر والغنم شيئاً
كثيراً زائداً على
الوصف، وزفها بجميع
ما عنده من الطبول
والمغاني والملاهي،
حتى يأتي بها إلى
الميدان،ثم يشرعون في
نحرها، وينصبون
القدور، ويطبخون
الألوان المختلفة،
فإذا كانت ليلة
المولد عمل السماعات
بعد أن يصلي المغرب
في القلعة، ثم ينزل
وبين يديه الشموع
المشتعلة شيء كثير،
وفي جملتها شمعتان أو
أربع -أشك في ذلك- من
الشموع الموكبية،
التي تحمل كل واحدة
منها على بغل، ومن
ورائها رجل يسندها،
وهي مربوطة على ظهر
البغل، حتى ينتهي إلى
الخانقاه. فإذا كان
صبيحة يوم المولد
أنزل الخلع من القلعة
إلى الخانقاه على
أيدي الصوفية على يد
كل واحد منهم بقجة،
وهم متتابعون، كل
واحد وراء الآخر،
فينزل من ذلك شيء
كثير لا أتحقق عدده،
ثم ينزل إلى الخانقاه،
وتجتمع الأعيان
والرؤساء، وطائفة
كبيرة من بياض الناس،
وينصب كرسي للوعَّاظ،
وقد نصب لمظفر الدين
برج خشب له شبابيك
إلى الموضع الذي في
غاية الاتساع، ويجتمع
فيه الجند، ويعرضهم
ذلك النهار، وهو تارة
ينظر إلى عرض الجند،
وتارة إلى الناس
والوعاظ، ولا يزال
كذلك حتى يفرغ الجند
من عرضهم، فعند ذلك
يقدم السماط في
الميدان للصعاليك،
ويكون سماطاً عاماً
فيه من الطعام والخير
شيء كثير لا يحد ولا
يوصف، ويمد سماطاً
ثانياً في الخانقاه
للناس المجتمعين عند
الكرسي، وفي مدة
العرض ووعظ الوعاظ
يطلب واحداً واحداً
من الأعيان والرؤساء
والوافدين لأجل هذا
الموسم، من الفقهاء
والوعاظ والقراء
والشعراء، ويخلع على
كل واحد، ثم يعود إلى
مكانه، فإذا تكامل
ذلك كله حضروا
السماط، وحملوا منه
لمن يقع التعيين على
الحمل إلى داره، ولا
يزالون على ذلك إلى
العصر أو بعدها، ثم
يبيت تلك الليلة
هناك، ويعمل السماعات
إلى بكرة...
هكذا يعمل في كل سنة،
وقد لخصت صورة الحال،
فإن الاستقصاء يطول،
فإذا فرغوا من هذا
الموسم تجهز كل إنسان
للعودة إلى بلده
فيدفع لكل شخص شيئاً
من النفقة" اهـ.
وقال ابن كثير في
ترجمة المظفر
كوكبوري: "قال السبط:
حكى بعض من حضر سماط
المظفر في بعض
الموالد: كان يمد ذلك
السماط خمسة آلاف رأس
مشوي، وعشرة آلاف
دجاجة، ومائة ألف
زبدية، وثلاثين ألف
صحن حلوى، قال: وكان
يحضر عنده في المولد
أعيان العلماء
والصوفية فيخلع عليهم
ويطلق لهم، ويعمل
للصوفية سماعاً من
الظهر إلى الفجر،
ويرقص بنفسه معهم،
وكان يصرف على المولد
في كل سنة ثلاثمائة
ألف دينار، وكانت له
دار ضيافة للوافدين
من أي جهة على أي
صفة، فكان
يصرف على هذه الدار
في كل سنة مائة ألف
دينار" ا.هـ.
وقال السندوبي في
وصف الاحتفال بالمولد
النبوي في القاهرة
سنة (1250هـ): في
هذا العهد كان العالم
الإنجليزي (ادوارد
وليم لين) يزور
القاهرة فشاهد
الاحتفال بالمولد
النبوي، فوصفه وصفاً
شيقاً...
قال وليم لين: (في
أول ربيع الأول
والشهر الثالث من
شهور السنة الهجرية،
يبدأ الاستعداد
للاحتفال بمولد النبي
صلى الله عليه وسلم،
وأكبر ساحات هذا
الاحتفال شأناً:
الجزء الجنوبي الغربي
المعروف ببركة
الأزبكية، وفي هذه
الساحة أقيمت صيوانات
كثيرة للدراويش،
وفيها يجتمعون كل
ليلة للقيام بحلقات
الذكر ما دام
الاحتفال بالمولد،
وبين هذه الصيوانات
ينصب صاري يثبت
بالحبال ويعلق فيه من
القناديل اثنا عشر أو
أكثر، وحول هذا
الصاري تقوم حلقة
الذكر، وهي تتكون
عادة من نحو خمسين أو
ستين درويشاً.
وفي اليوم الثاني من
الشهر ينتهون من
إقامة معالم الاحتفال
ومعداته -في العادة-
ثم يشرعون في اليوم
التالي في مظاهر
الاحتفال ليلاً
ونهاراً إلى الليلة
الثانية عشرة من
الشهر، وهي ليلة
المولد الكبرى... ففي
النهار يتسلى الناس
في الساحة الكبرى
بالاستماع إلى
الشعراء، والتفرج على
الحواة ونحوه.
أما الغواني فقد
أكرهتهن الحكومة من
عهد قريب على التوبة
وترك مهنتهن من رقص
ونحوه، فلا أثر لهن
في احتفال هذه السنة،
وكن في الموالد
السابقة من أكثر
العاملين في الاحتفال
اجتذاباً
للمتفرجين!!!
أما في الليل فتضاء
الشوارع المحيطة
بساحة المولد بقناديل
كثيرة، تعلق غالباً
في فوانيس من الخشب،
ومن دكاكين
المأكولات، ونصبات
الحلوى ما يبيت
مفتوحاً طوال الليل،
وكذلك القهاري التي
قد يكون في بعضها،
وفي غيرها من الأماكن
شعراء ومحدثون، ينصت
إليهم كل من أراد من
المارة.
أما في الليلتين
الأخيرتين فيكون
المولد أكثر زحاماً،
وأسباب التفرج
والمسليات أعظم منها
في الليالي السابقة.
ثم وصف المؤلف
الإنجليزي (ادوارد
وليم لين) مجلساً
كاملاً من مجالس
الذكر التي تعمل في
الموالد وغيرها فقال:
وفي ليلة المولد
الكبرى ذهبت إلى
الساحة الرئيسة،
فرأيت ذكراً قوامه
ستون درويشاً
حول صاري، وكان ضوءاً
كافياً لإنارة
الساحة، وكان الدرويش
حول الصاري من طوائف
مختلفة، وكانوا
يقولون: (يا الله) ثم
يرفعون رءوسهم،
ويصفقون جميعاً
بأيديهم أمام وجوههم،
وكان داخل حلقة الذكر
خلق كثير قد جلسوا
على الأرض، ولبث
الذكيرة يذكرون على
هذا النحو مقدار نصف
ساعة، ثم انقسموا
جماعات، كل جماعة من
خمسة أو ستة، ولكنهم
بقوا يكونون حلقة
واسعة، ثم أمسك أفراد
كل جماعة بعضهم ببعض
كل منهم، ما عدا
الأول قد وضع ذراعه
اليمنى على ظهر من
يليه يساراً، ويده
على الكتف اليسرى
-كتف من يليه- ثم
اتجهوا إلى
النظارة-المتفرجين-خارج
الحلقة، وأخذوا
يذكرون (الله) بصوت
أجش عميق، وهم في هذه
الحالة يتقدمون إلى
الأمام خطوة، ثم إلى
الوراء خطوة، مع تحرك
كل منهم قليلاً إلى
اليسار، فكانت الحلقة
كلها تدور ولكن ببطء
شديد، وكان كل منهم
يمد يده اليمنى نحو
النظارة خارج الحلقة
مشيراً بالتحية،
وهؤلاء أو أغلبهم
كانوا يردون السلام
على الذكيرة،
وأحياناً كان بعضهم
يقبل اليد الممتدة
إليه إذا قابلت وجهه
متى كانوا قريبين
منهم... ومن العوائد
المتبعة عندهم أن
يسكت من في الصواوين
من الذكيرة، متى كان
الذكر حول الصاري"اهـ.
فما تقدم من النصوص
التي وصفت طريقه
إحياء المولد النبوي
في عصور مختلفة، يؤكد
لنا أن هذه
الاحتفالات ليست إلا
تلبية لشهوات ورغبات
النفوس المريضة من
الناس، ومراسم هذه
الاحتفالات من الأكل
والشرب وإنشاد
القصائد، واختلاط
النساء بالرجال،
وأعمال اللهو، وما
يؤول على القائمين
على هذه الاحتفالات
من الأموال والعطايا
والهدايا، خير شاهد
على ما ذكرت.
فليس القصد كما
يدعُون تعظيم النبي
صلى الله عليه وسلم،
والفرح بذكرى مولده،
وإحياء ذكره، وإثبات
محبتهم له صلى الله
عليه وسلم بتلك
الاحتفالات المبتدعة.
وكون هذه الاحتفالات
أمر محدث مبتدع فهذا
كاف في ذمِّها،
والتحذير منها،
لاسيما وأن من
ابتدعها إنما ابتدعها
بسوء نية.
وربَّما شذَّ عن هذه
القاعدة أناس فعلوا
ذلك عن حسن نية، ولكن
حسن النية لا يبيح
الابتداع في الدين،
فمن قبلنا من الملل
كانوا يبتدعون في
دينهم أموراً بقصد
التعظيم وحسن النية،
حتى صارت أديانهم غير
ما جاءت به رسلهم،
ولو تساهل سلفنا
الصالح كما تساهلوا،
وكما تساهل الخلف
الذين اتبعوا سننهم
شبراً بشبراً وذراعاً
بذراع؛ لضاع أصل
ديننا، لاسيما وأن
هذه الاحتفالات لا
تخلو من الشرك الأكبر
وهو التوسل بالرسول
صلى الله عليه وسلم
والاستغاثة به،
ودعاؤه، واللجوء
إليه، ومن المعلوم أن
الشرك الأكبر
مُخْرِجٌ من الملة.
ولكن الله تكفل بحفظ
هذا الدين، وجعل
السلف الصالح من تبع
نهجهم وآثارهم سبب
هذا الدين. ومحبة
الرسول صلى الله عليه
وسلم الحقيقة
والصادقة هي طاعته
فيما أمر، وترك ما
نهى عنه وزجر، وأن لا
يعبد الله إلا بما
شرع، وتعظيمه يكون
بالصلاة عليه،
والالتزام بسنته،
والعمل بها، والذبِّ
عنها. والله أعلم.
اقتبس
هذا المقال من بحث
بعنوان: (بدعة
الاحتفال بالمولد
النبوي)، من كتاب
البدع الحولية، للشيخ
عبد الله بن عبد
العزيز بن أحمد
التويجري.
* * * * *
|