بسم الله الرحمن
الرحيم
مظاهر الغلو في قصائد
المديح النبوي
** للشيخ: سليمان بن
عبد العزيز الفريجي
**
منذ أن انتشر الإسلام
أقبل الأدباء على مدح
نبيه محمد -صلى الله
عليه وسلم- بمدائح
كثيرة، حفظ لنا
التاريخ شيئاً منها،
ومن أقدمها ما جاء عن
أم معبد -رضي الله
عنها- من وصفها للنبي
-صلى الله عليه وسلم-
بعدما حل بخيمتها في
طريق هجرته إلى
المدينة، وكان من
وصفها: (إن
صمت فعليه الوقار،
وإن تكلم سماه وعلاه
البهاء، أجمل الناس
وأبهاه من بعيد،
وأحسنه وأجمله من
قريب، حلو المنطق،
لا نزر ولا هزر)
كما كان لشعراء
الرسول -صلى الله
عليه وسلم- كحسان بن
ثابت وعبد الله بن
رواحة وكعب بن زهير
وكعب بن مالك والعباس
بن مرداس وغيرهم
قصائد عدة في مدحه
ورثائه، منها قصيدة
حسان بن ثابت - رضي
الله عنه - التي
مطلعها:
بطيبة رَسْم للرسول
ومَعهد
منير وقد تعفو الرسوم
وتهْمَد
ولا تنمحي الآيات من
دار حُرْمة
بها
منبر الهادي الذي كان
يصعد
ومنها قصيدة كعب بن
زهير - رضي الله عنه
- التي قالها عند
إسلامه، واعتذر بها
لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، وألقاها
بين يديه في مسجده
وسط صحابته، ومطلعها:
بانت سعاد فقلبي
اليوم متبول
مُتَيَّم إثرها لم
يُجْزَ مكبول
وفيها يقول:
أنبئت أن رسول الله
أوعدني
والعفو عند رسول الله
مأمول
مهلاً هداك الذي
أعطاك نافلة
القرآن فيها مواعيظ
وتفصيل
لذاك هيب عندي إذ
أكلمه
وقيل إنك مسبور
ومسؤول
من ضيغم من ضراء
الأُسْد مُخْدرة
ببطن
عثَّر غيل دونه غيل
إن الرسول لسيف
يُستضاء به
مهند
من سيوف الله مسلول
بل إن هناك من شعراء
الكفار من مدحه وأثنى
على أخلاقه الكريمة،
كعمه أبي طالب في
قصيدته المشهورة،
ومنها قوله:
وأبيض يُستسقى
الغمامُ بوجهه
ثمالُ
اليتامى عصمة للأرامل
وكالأعشى الكبير
ميمون بن قيس الذي
مدح النبي -صلى الله
عليه وسلم- بقصيدة
رائعة، وجاء بها
ليسلم عنده ويلقيها
بين يديه، ولكن
قريشاً أغرته بالدنيا
فعاد ومات كافراً.
ومن قصيدته قوله:
نبيٌ يرى ما لا ترون
وذكره
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صَدَقاتٌ ما
تُغِبُّ ونائل
وليس عطاءُ
اليوم مانعه غدا
وهكذا اتصل مدح النبي
-صلى الله عليه وسلم-
في حياته ورثائه بعد
مماته، وذكر أخلاقه
وأوصافه عند أصحابه
والتابعين دون غلو أو
تجاوز لحدود المشروع.
وبعد قيام دولة بني
أمية والحوادث التي
جرت لآل بيت علي بن
أبي طالب - رضي الله
عنه وتشيع من تشيع
لهم، بدأت المبالغة
في مدحهم والثناء
عليهم، حتى اشتهر
شعراء بذلك، وأكثروا
منه، كالكميت الأسدي،
ودعبل الخزاعي،
والشريف الرضي،
ومهيار الديلمي،
وهؤلاء جاءت مبالغتهم
من غلوهم في رجالات
آل البيت، وتفضيلهم
على من يرونهم أعداء
لهم من الأمويين
وغيرهم؛ فموقفهم في
الحقيقة سياسي أكثر
من كونه معتمداً على
اقتناعاتهم الشرعية؛
فلهذا جاء كلامهم على
آل علي بن أبي طالب -
رضي الله عنه - دون
غيرهم، حتى النبي
-صلى الله عليه وسلم-
قل مديحهم له في
مقابل مديحهم لآل بيت
علي بن أبي طالب -رضي
الله عنه-.
ومن أشعارهم "هاشميات
الكميت" وأشهرها:
البائيتان واللامية
والميمية، يقول في
إحدى البائيتين:
إلى النفر البيض
الذين بحبِّهم
إلى
الله فيما نالني
أتقرِّب
بني هاشم رهط النبي
فإنني
بهم ولهم أرضى مراراً
وأغضب
وما جاء عن هؤلاء من
المدح الخاص بالنبي
-صلى الله عليه وسلم-
يكاد يكون مدحاً
معتاداً لا نجد فيه
ما سنجده في مدائح
الصوفية في القرن
السابع.
ومن ذلك قول الكميت:
وأنت أمين الله في
الناس كلهم
عليها
وفيها احتار شرق
ومغرب
فبوركت مولوداً
وبوركت ناشئاً
وبوركت
عند الشيب إذ
أنت
أشيب
وبورك قبرٌ أنت فيه
وبوركت
به
وله أهـل لذلك يثرب
لقد غيَّبوا بِراً
وصدقاً ونائلاً
عشية واراك الصفيح
المنصَّب
ومع ذلك كان مدح من
مضى لآل البيت أكثره
صادقاً، لأنهم
يمدحونهم والدنيا
ليست بأيديهم، خلاف
شعراء الدولة
العبيدية المنتسبة -
زوراً - إلى فاطمة
الزهراء - رضي الله
عنها - التي كان
الشعراء يتزلفون إلى
حكامهم بمدحهم ومدح
آل البيت ومنه مدح
النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وهذا المدح
غير داخل في حقيقته
في المدائح النبوية،
لأنه مدح من أجل
الدنيا، لا لحبهم أو
التقرب إلى الله
بمدحهم، ولهذا وصل
الأمر ببعضهم إلى حد
الشرك كابن هانئ
الأندلسي، حيث يقول
في مدح المعز لدين
الله الفاطمي:
ما شئتَ، لا ما شاءت
الأقدار
فاحكم
فأنت الواحد القهار
ويقول:
ولك الجواري المنشآت
مواخراً
تجري
بأمرك والرياح رخاءُ
ولهذا كان مدح هؤلاء
منصباً على حكام
الدولة العبيدية ومن
يزعم هؤلاء الحكام
محبتهم من رجالات آل
البيت، ويقل فيه مدح
النبي -صلى الله عليه
وسلم-.
وتستمر المدائح
النبوية دائرة حول
أوصاف النبي -صلى
الله عليه وسلم-
الخُلُقية والخَلْقية
المعروفة، ولا نجد
ذلك الغلو الذي يخرج
بالمدائح النبوية إلى
رفع النبي -صلى الله
عليه وسلم- فوق مقامه
البشري، وإضفاء بعض
الصفات الإلهية عليه
إلا في القرن السابع
الذي يعرف في التاريخ
الإسلامي بانتشار
التصوف فيه إلى حد
كبير، مما أثر
تأثيراً كبيراً على
الشعراء الذين
تسابقوا في مضمار
المدائح النبوية،
بنَفَسٍ يخالف
المدائح السابقة،
ويوافق الفكر
التصوفي.
وكانت البداية
الفعلية لهذه المدائح
بهذا النَفَس الصوفي
المتميز على يد محمد
بن سعيد البوصيري،
المتوفى في
الإسكندرية سنة
(695هـ)، فقد نظم عدة
قصائد في المدائح
النبوية، وأشهرها
قصيدتان: الأولى
الميمية، وهي على
رواية الديوان (160)
بيتاً ومطلعها:
أمن تذكُّر جيرانٍ
بذي سلم
مزجت دمعاً جرى من
مقلة بدم
والأخرى الهمزية،
ومطلعها:
كيف ترقى رقيَّك
الأنبياء
يا سماء ما طاولتها
سماءُ
والميمية أشهر وأذيع
عند عامة المتصوفين
ومقلديهم، وقد نسجت
حولها المنامات
والأساطير، ابتداء
بناظمها الذي جاء عنه
أنه بسبب استشفائه
بهذه القصيدة مسح
النبي -صلى الله عليه
وسلم- في المنام عليه
فبرئ من فالج كان
أبطل نصفه وألقى عليه
بردة، فسميت القصيدة
لذلك بالبردة، ونسجت
الأساطير لكل بيت من
أبياتها، وشاع التبرك
والاستشفاء بها،
فصارت تسمى أيضاً:
البُرْأَة، والبُروة،
وقصيدة الشدائد،
وغالى المتصوفة
وأتباعهم فيها (حتى
عملوها تميمة تعلق
على الرءوس، وزعموا
فيها مزاعم كثيرة من
أنواع البركة، وهم
على ذلك إلى يومنا
هذا).
ويظهر أن كل هذه
التسميات كانت بعد
موت البوصيري، أما هو
فسماها: (الكواكب
الدريَّة في مدح خير
البرية).
وقد أجمع معظم
الباحثين على أن
ميمية البوصيري أفضل
قصيدة في المديح
النبوي من الناحية
الفنية الأدبية -لا
الشرعية- إذا
استثنينا لامية كعب
بن مالك (البردة
الأم)، حتى قيل:
إنها أشهر قصيدة في
الشعر العربي بين
العامة والخاصة.
ومهما يكن من أمر فقد
أثّرت ميمية البوصيري
في المدائح النبوية
تأثيراً عميقاً، حيث
نقلتها مضموناً
وقالباً.
أما من حيث المضمون
فقد نقلت المدائح
النبوية من المدح
المعتاد للنبي -صلى
الله عليه وسلم-
بأوصافه المشهورة
المعروفة إلى أوصاف
غلو ومبالغة (على نحو
إعجازي خارق، بالغ
المثالية، بالغ
الكمال، وبالغ
الجلال... يرقى
بالنبي إلى درجة
ربانية)، ويسمون هذه
الأوصاف: (الحقيقة
المحمدية) التي يدعي
المتصوفة أن غيرهم لا
يعرفونها ؛ ولهذا فهم
يحملون كل غلو في
ميمية البوصيري وغيره
ممن سار على دربه على
أنه من الحقيقة
المحمدية التي
ينفردون بمعرفتها
للنبي -صلى الله عليه
وسلم-.
أما من حيث القالب
فقد جعل المدائح
النبوية تتكون من
ثلاثة أجزاء:
الأول:
يسمى النسيب النبوي،
وهو التشوق إلى
المدينة النبوية التي
تضم قبر النبي -صلى
الله عليه وسلم-
وفيها جرى أغلب أحداث
سيرته، ويتلو هذا
النسيب بعض الحِكَم
التي تحذر من الدنيا
وأهواء النفس، وهذا
الجزء يمثل من ميمية
البوصيري الأبيات من
(1-33)، ومن أجملها
قوله:
والنفس كالطفل إن
تهمله شب على
حب
الرضاع، وإن تفطمه
ينفطم
وقوله:
وخالف النفس والشيطان
واعصهما وإن
هما محَّضاك النصح
فاتهم
ولا تطع منهما خصماً
ولا حكماً
فأنت
تعرف كيد الخصم
والحكم
والجزء الثاني:
مديح النبي -صلى الله
عليه وسلم- وعرض
سيرته، وهذا الجزء هو
غرض القصيدة، وفيه
يذكر الشاعر سيرته من
مولده إلى وفاته -صلى
الله عليه وسلم-،
ويتكلم على معجزاته
وخصائصه...
ويمثل هذا الجزء من
القصيدة الأبيات من
(34-139)، ويبدؤه
بقوله:
محمد سيد الكونين
والثقلين
والفريقين من عُرب
ومن عجم
وفي هذا الجزء أغلب
الغلو المشار إليه من
قبل، وكأن بعض
المتأخرين عن
البوصيري أحسَّ شدة
هذا الغلو فأراد أن
يخففه فزاد في
القصيدة - وما أكثر
ما زيد عليها - بيتاً
ناشزاً ألقاه في مكان
غير مناسب في
القصيدة، وهو قوله:
فمبلغ العلم فيه أنه
بشر وأنه
خير خلق الله كلهم
ولم يرض كثير من
الصوفية هذا البيت
للنص فيه على بشريته
وأنها منتهى العلم
فيه، فغيروه إلى:
مولاي صلِّ وسلم
دائماً أبداً
على
حبيبك خير الخلق كلهم
ونسبوا فيه مناماً
خاصاً للبوصيري، فيه
أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- هو الذي
ألقى بشطره الثاني
على البوصيري.
والجزء الثالث:
هو إقرار الشاعر
بذنوبه وطلب العفو
عنها، ويشمل هذا
الجزء الأبيات من
(140-160) ويبدأ
إقراره بقوله:
خدمته بمديح أستقيل
به ذنوب
عُمْرٍ مضى في الشعر
والخدم
ثم يقول:
لم تشتر الدين
بالدنيا ولم تَسم
فيا
خسارة نفس في تجارتها
ولكن طلبه للعفو كان
موجهاً للنبي -صلى
الله عليه وسلم- وهذا
من أكبر انحرافات
البوصيري، وقد كرر
هذا في عدة أبيات،
منها:
إن آت ذنباً فما عهدي
بمنتقض
من النبي ولا حبلي
بمنصرم
فإن لي ذمةً منه
بتسميتي
محمداً وهو أوفى
الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي
آخذاً بيدي
فضلاً
فقل يا زلة القدم
يا أكرم الرسل ما لي
من ألوذ به
سواك
عند حلول الحادث
العَمِمِ
وعندما ذكر العفو
والرحمة من الله رجا
أن تكون الرحمة
مقسومة حسب العصيان،
لا الإحسان، فقال:
لعل رحمة ربي حين
يقسمها
تأتي على حسب العصيان
في القسم
وفي آخر هذا الجزء
يختم القصيدة بالصلاة
والسلام الدائمين على
النبي - صلى الله
عليه وسلم- وهذا
الجزء يكثر فيه دعاء
النبي -صلى الله عليه
وسلم- والاستغاثة به
وإضافة صفات ربانية
إليه، وإن كان
الجزءان السابقان لا
يخلوان من مثل ذلك،
كقوله:
أقسمت بالقمر المنشق
أن له
من
قلبه نسبة مبرورة
القسم
وقوله:
ما سامني الدهر ضيماً
واستجرت به
إلا ونلت جواراً منه
لم يُضم
هذه هي ميمية
البوصيري التي كان
لها أعظم الأثر في
المديح النبوي،
وتحويلها من مسارها
السليم إلى مسار مليء
بالانحرافات الشرعية،
وقد ساعد المتصوفة
وأصحاب الطرق على
نشرها بغنائها
وانشادها وتلحينها في
كل مناسبة حتى الحروب
فضلاً عن الأفراح
والأحزان والموالد
المبتدعة واحتفالات
الحجيج.
ولم يقتصر أثرها على
العامة، بل تعداه إلى
الخاصة؛ إذ تزاحم
الشعراء العرب وغير
العرب على تقليدها،
وتفننوا في ذلك حتى
أنشئوا فيها فنوناً
أدبية منها:
أ- البديعيات التي
تسير على نهجها وزناً
وروياً ومضموناً
وأجزاءً،
ويكون كل بيت من
أبياتها خاصاً بلون
من ألوان علم البديع
في البلاغة، كبديعية
صفي الدين الحلي (750
هـ) ومطلعها:
إن جئت سلعاً فسل عن
جيرة العلم
واقرأ السلام على عرب
بذي سلم
وبديعية عز الدين
الموصلي ومطلعها:
براعة تستهل الدمع في
العلم
عبارة عن نداء المفرد
العلم
ب- المدائح النبوية
التي فيها التورية
بكل سور القرآن،
ومن أشهرها قصيدة ابن
جابر الأندلسي (780
هـ)، ومطلعها:
في كل فاتحة للقول
معتبرة حق
الثناء على المبعوث
بالبقرة
وقد عارض ابن جابر في
قصيدته هذه عدة شعراء
حتى أُلِّف فيها كتاب
مستقل وهو كتاب:
(المدائح النبوية
المتضمنة لسور القرآن
الكريم لهاشم
الخطيب).
ج - معارضتها
وتشطيرها وتخميسها
وتسبيعها...
ومن أشهر من عارضها
من المحدثين: محمود
سامي البارودي بمطولة
بلغت (447 بيتاً) هي:
(كشف الغمة في مدح
سيد الأمة!)،
ومطلعها:
يا رائد البرق يمم
داره
العلم
واحْدُ الغمام إلى حي
بذي سلم
وأحمد شوقي في قصيدة
في (190 بيتاً)
سماها: (نهج البردة)،
مطلعها:
ريم على القاع بين
البان والعلم
أحل
سفك دمي في الأشهر
الحرم
وقد زاد الغلو في
المدائح النبوية منذ
عهد البوصيري إلى
بدايات العهد الحديث،
ومن أمثلة هذا الغلو
والمغالين محمد بن
أبي بكر البغدادي
الذي صنف ديواناً
كاملاً باسم:
(القصائد الوترية في
مدح خير البرية) نظم
فيه (29) قصيدة، وكل
قصيدة منها (21)
بيتاً.
بحيث تبدأ أبيات كل
قصيدة بحرف وتنتهي به
نفسه، ومن مدحه
الغالي قوله:
أغثني أجرني ضاع عمري
إلى متى
بأثقال أوزاري أراني
أُرزأُ
وقوله:
ذهاباً ذهاباً يا
عصاةُ لأحمد
ولوذوا به مما جرى
وتعوَّذوا
ذنوبكم تُمحى وتعطون
جنة
بها دُرَرٌ حصباؤها
وزمرد
ومن أشد الغالين:
عبد الرحيم البرعي
اليماني، فله ديوان
شعر أكثره مدائح
نبوية، ومن مدحه
الغالي قوله:
سيد السادات من مضر
غوث أهل
البدو والحضر
وقوله:
يا سيدي يا رسول
الله
يا أملي يا موئلي، يا
ملاذي
يوم تلقاني هب لي
بجاهك ما قدمت من زلل
جوداً ورجح بفضل منك
ميزاني
واسمع دعائي واكشف ما
يساورني من
الخطوب ونفِّس كُلَّ
أحزاني
وكذلك أكثر من عارض
البردة قديماً
وحديثاً -وما أكثرهم-
تأثر بما فيها من
غلو.
وقد تأثر كذلك
المتأخرون بهذا
الغلو، فمستكثر
ومستقل، فهذا
البارودي يقول:
أبكاني الدهر حتى إذ
لجأت به
حنا
علي وأبدى ثغر مبتسم
وهذا أحمد شوقي يقول:
فالطف لأجل رسول
العالمين بنا
ولا
تزد قومه خسفاً ولا
تسُمِ
ويقول في إحدى
المدائح الخديوية:
إذا زرت يا مولاي قبر
محمد
وقبَّلت مثوى الأعظم
العطرات
فقل لرسول الله: يا
خير مرسل
أبثك
ما تدري من الحسرات
وهذه شاعرة معاصرة
ألفت كتاباً كاملاً
من شعر التفعيلة
باسم: (بردة الرسول)
من أجل أن تشفى من
مرض عانت منه طويلاً،
ملأته بالغلو، ومن
مثل قولها:
يا سيدي، اسمع دعائي
كن معين
وأجب رجائي يا محمدنا
الأمين
أما هذا الغلو عند
شعراء الصوفية
ومقلديهم فأشهر من أن
أشير إليه هنا.
ومما سبق نستخلص أن
المدائح النبوية
الغالية منذ البوصيري
ومن قلده لا علاقة
لها بالمدائح النبوية
قبلها؛ لأنه شتان بين
التصور الواقعي
البشري كما صوره
شعراء المديح النبوي
الأوائل من أمثال كعب
بن زهير وكعب بن مالك
وحسان بن ثابت،
ومعاصريهم، وبين
التصور المتأخر
للرسول - عليه الصلاة
والسلام - عند شعراء
المديح النبوي
المتأخرين الذين
أحالوا شخصية الرسول
-صلى الله عليه وسلم-
إلى سلسلة طويلة من
الخوارق والمعجزات
والقدرات فوق الطبعية،
حتى بات النبي -صلى
الله عليه وسلم- ذا
طبيعة إلهية لا
بشرية، ومع هذا فقد
بقي كثير من الشعراء
قديماً وحديثاً بمعزل
عن هذا الغلو، ولكن
الحديث الآن ليس
عنهم، والله أعلم.
|