بسم الله الرحمن
الرحيم
* مَوْلِدٌ جَدِيدٌ *
* السيد/ حسن بن علي
البار *
قام من نومه فزعاً!!
إنها الساعة الثامنة
صباحاً. ركض باتجاه
خزانة ملابسه، وأخذ
منها ملابس مُناسِبة.
ثم توقف ونظر في
المرآة، وأصلح من
هندامه، واندفع نحو
الباب يريد الخروج.
يا ألله! تذكَّر أنه
كاد أن يخرج من البيت
وهو لم يغسل وجهه
بعد، نعم! فاليوم هو
مستعجل ومشغول، يحتاج
(مهدي) اليوم أن
يُنجز الكثير من
الأعمال مبكراً كي
يفرغ في المساء،
فالليلة (مولد النبي
صلى الله عليه وسلم)،
وإن لم يُبكِّر في
إنجاز أعماله ربما
حَلَّ عليه المساء
وهو بعدُ في مشاغله،
فيفوته التبكير لحضور
(المولد).
رجع مهدي فغسل وجهه،
ثم خرج واستقل سيارته
متوجهاً إلى عمله،
وانهمك في مهامِّه
ومشاغله. وفي أثناء
ما هو مشغول بإنجاز
أوراق كانت بين يديه
جاءته رسالة جوال!
ترك ما في يده، وفتح
الرسالة فإذا فيها:
"أخي! هل تحب الله؟!
هل تحب الرسول؟!" قال
في نفسه: نعم، وماذا
بعد؟. واصل القراءة:
"إن محبةَ الله
ومحبةَ رسوله أوثقُ
عرى الإيمان" يا
ألله، ما أجملها من
كلمات! تمضي الرسالة:
"إن كانت محبتهما
بهذه المنـزلة؛ فهل
يمكن أن يكون
(المولد) من وسائل
محبة النبي صلى الله
عليه وسلم ثم يتركنا
دون أن يبيّنه لنا؟"
علَّق قائلاً: ما
هذا؟! ما أدري؟! ماذا
يقول هذا الرجل؟! آه
إنه (صالح) هداك الله
يا صالح!
ترك مهدي هاتفه
الجوال متجاهلاً ما
جاء في الرسالة، وعاد
لإكمال ما بيده.
وفجأة تذكر أنه لم
يُصَلِّ الصبح.
توقَّف قليلاً،
وتعجَّب من نفسه ما
الذي ذَكَّره بها
الآن، مع أنه في
أحيان كثيرة لا
يصليها!! قام مهدي
مباشرة وترك ما في
يده، ووجد في نفسه
همة ونشاطاً لأنْ
يصلي الصبح لم يكن
يعرف مثلها من قبل.
وفي آخر اليوم أتم
مهدي جميع أعماله،
واستعد للذهاب إلى
(المولد)، وعندما ركب
سيارته أطلق لفكره
العنان يتذكر ما مر
به في يومه من أحداث.
تذكر الرسالة، وتذكر
صلاته للصبح، وتذكر
استعجاله للخروج حتى
أنه نسي أول الأمر أن
يغسل وجهه! ضحك من
نفسه، ووجد في صدره
راحة وأُنساً
وانشراحاً؛ فحمد الله
على نعمته. رجع مهدي
إلى نفسه يحاسبها على
هذا التقصير في
سنواته الماضية في
الصلوات، وخصوصاً
صلاة الصبح. وبدأ
يحدث نفسه: هل يا
تُرى هذا الاطمئنان،
وهذه الراحة، سأجدها
باستمرار إن داومتُ
على هذه الصلاة؟!
تذكَّر مهدي الشيخ
علي الذي اتصل به
وأكَّد عليه التبكير
للمولد. وهذا ديدن
الشيخ علي -جزاه الله
خيراً- يتصل بي
سنوياً يذكِّرني بهذه
المناسبة المهمة.
نعم -حدثته نفسه-
ولكنَّ الشيخ علي هذا
لم يذكِّرك مرةً
بصلاة الفجر، أو يعرض
عليك أن يصطحبك إليها
مثلما يفعل في شأن
(المولد)! إنه يظل
طوال عامه مشغولاً،
غير مهتم بك، حتى إذا
جاء هذا الوقت من كل
سنة تذكَّرك!
- أعوذ بالله! ما هذه
الخواطر المزعجة! إن
الشيخ علي رجل صالح،
من أولياء الله، وهو
يفعل ذلك حباً للنبي
صلى الله عليه وسلم،
وتعظيماً لمقامه
الشريف.
- حُبَّاً... نعم
حُباً... آه ما أجمل
الكلمات التي قرأتها
في الرسالة اليوم.
عاد مهدي إلى هاتفه
الجوال، واستخرج منه
الرسالة التي جاءته
اليوم من صديقه صالح
وأعاد قراءة ما فيها:
"أخي! هل تحب الله؟
هل تحب الرسول؟... إن
محبةَ الله ومحبةَ
رسوله أوثقُ عرى
الإيمان".
نعم -قال مهدي- ألم
يقل صلى الله عليه
وسلم:
{أوثق
عرى الإيمان الحُب في
الله والبغض في الله}.
وواصل القراءة: "إنْ
كانت محبتهما بهذه
المنـزلة؛ فهل يمكن
أن يكون (المولد) من
وسائل محبة النبي صلى
الله عليه وسلم ثم
يتركنا دون أن يبيّنه
لنا؟".
- (صالحُ) هذا صديق
قديم، عرفتُه منذ
الصغر في أيام
الدراسة، وكنت أعرف
فيه دائماً الجدَّ
والتعَقُّلَ في
الأمور كلها، وهو مع
احترامه للناس إلا
أنه لا يوكل عقله
ومهمة التفكير عنه
لأحد!!
نعم! أتذكر مرة عندما
قال لنا المدرس: إن
الرسول صلى الله عليه
وسلم أخرج يده من
القبر الشريف لمصافحة
أحد الأولياء، وكيف
أنه لم يقتنع؟! وظل
يناقش الأستاذ عن
مصدر هذه المعلومة،
ويؤكِّد أن ذلك لم
يقع مع كبار الصحابة
فكيف يقع للأولياء
بعدهم! وكنا نتعجب
منه، ومن قوة رأيه
وشخصيته!
- نعم صالح رجل عاقل،
ولكني أنا أيضاً
عاقل، ولا أتابع
صالحاً في كل ما
يقول، صالح يمشي مع
مشايخ متشددين لا
يحبون رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
- عجباً! والله كيف
أقول عن صالح وعن
أصحابه: لا يحبون
رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وهو مَن
أرسل لي هذه الرسالة
الرقيقة عن حبه صلى
الله عليه وسلم؟
وأتذكَّر في الشهر
الماضي أني صليت
الجمعة عند أحد هؤلاء
الشيوخ، فوجدته ينافح
ويدافع عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم،
ويطلب من الناس
تحمُّل مسئولياتهم في
مقاطعة كل الدول التي
تُسيء إليه صلى الله
عليه وسلم، ولم يكن
في ذلك الوقت أحدٌ من
الناس يذكر هذه
القضية إلا هؤلاء، ثم
تتابع الناس من بعدهم
في الاهتمام بهذه
القضية. وحتى الشيخ
علي لمَّا زرته لم
يعرج على هذه القضية
أبداً. وكذلك أنا أرى
صالحاً وأصحابه
يهتمون بسيرة النبي
صلى الله عليه وسلم،
حتى أنه مرة أشار لي
إلى واحدٍ منهم،
وأخبرني أنه كتب عن
سيرة النبي صلى الله
عليه وسلم كتاباً ليس
فيه إلا الأحاديث
الصحيحة، وكذلك أذكر
صديقنا سليمان الذي
كتب مجموعة من القصص
النبوي على هيئة قصص
ميسَّرٍ للأطفال. هل
هؤلاء لا يحبون
الرسول صلى الله عليه
وسلم؟
هل يمكن لمسلم يفعل
السنن ويجتنب البدع،
ويجعلُ اتباعَ رسول
الله صلى الله عليه
وسلم هاجسه وشاغله،
ويقدِّر سنته وسيرته
وشريعته حق قدرها ألا
يُحبَّ هذا الرجلَ
العظيمَ والرسولَ
الكريمَ صلى الله
عليه وسلم؟..
واللهِ إن صَدَّقتُ
يوماً أن هناك من
الناس من يكون بهذه
الدرجة من القسوة
وغلظ القلب فلا يمكن
أن أصدِّق أن قاسياً
من الناس يكون أقسى
من أن تؤثِّر فيه
سيرة الرسول العطرة،
وأقسى من أن تُحمد
عقباه إذا اتبع
سننَه، وهديَه صلى
الله عليه وسلم. إي
واللهِ، فبركةُ صلاتي
للصبح اليوم أعقبت لي
هذا الرشد، وهذه
السعادة، فكيف بمن هو
مترسِّمٌ لما جاء به
صلى الله عليه وسلم
في ليله ونهاره؟!
- على كل حال:
الاحتفال بمولد النبي
صلى الله عليه وسلم
فِعلُ خير، وما هو
إلا ذكرٌ، وصلاةٌ على
النبي صلى الله عليه
وسلم، واجتماع على
الخير. وتحريمه،
والقول بأنه بدعة
تشددٌ لا داعي له..
تشدد لا داعي له..
تشدد لا داعي له..
أخذ يكررها متأملاً
في مضمونها.
- لحظة! هل الذي لا
داعي له فعلُ ما تركه
الرسولُ صلى الله
عليه وسلم، وخيارُ
المسلمين من بعده لم
يفعلوه؛ أم أن فعلَ
ما تركوه هو الذي لا
داعي له؟
- ياااه، أشعر والله
بإرهاق من هذا
التفكير.
توقف مهدي، ونزل إلى
حديقة عامة كي يمضي
فيها بعض الوقت،
ويتناول مشروبًا
يُنعشه. جلس مهدي
جانباً، وطلب كوباً
من عصير الليمون
بالنعناع، وشعر
بالاسترخاء، وأعجبته
روعة المكان، وأعجبه
جمال الحديقة، وحُسن
تنسيقها. ولم يكدِّر
عليه صفوه إلا مجموعة
من الأولاد ممن ناهز
الاحتلام، وهم يقومون
بأعمال مريبة.. نظر
إليهم مهدي وإذا
السباب والشتائم هي
تحية بعضهم لبعض.
وبعد قليل وقع بينهم
تشاجر ارتفعت فيه
الأصوات، وانقسموا
على إثره فريقين، ويا
للعجب.. أخرج بعضهم
آلات حادة، وسكاكين
للاعتداء على
الآخرين، وكادت أن
تقع مقتلة لولا لطف
الله حيث وقفت سيارة
شرطة في مكان قريب،
وترجل الشرطي منها
قاصداً الحديقة ليشرب
هو أيضاً كوباً من
العصير؛ فلما رآه
الصغار مقبلاً
ولَّوْا مُدبرين.
- قال مهدي لنفسه:
الحمد لله كادت أن
تقع هنا مقتلة لولا
أن الله سلّم. كان
يجب أن يكون هنا
مراقب لهذا المكان
الجميل؛ لئلا يقع فيه
ما لا تُحمد عقباه،
فإن لم يكن فإغلاق
الحديقة خير من تركها
لتكون مدرسة جريمة
يتأذى المجتمع
بخريجيها في مستقبل
الأيام. نعم الشيء
الذي يغلب شره على
خيره يجب أن يُنظر
فيه إلى ما غلب عليه.
- وهنا عاد مهدي
يناقش نفسه: صحيح؛
وكذا الكثير من
الموالد التي يكثر
فيها الشر والفساد،
والله إنهم يشربون
الخمر والحشيشة باسم
مولد النبي صلى الله
عليه وسلم! وكم يقع
في بعض الموالد من
هتك لحرمات الله زنا
ولواط ورقص واختلاط!
واللهِ ما هذه بمحبة
صادقة.. ولكن الحمد
لله فالمولد الذي
أحضره، والذي يُقام
عند أهلي وعشيرتي
مولدٌ سالمٌ من كل
هذه البدع!
- البدع.. ماذا قلتُ
أنا؟ بدع!!.. كيف
قلتُ هذه
الكلمة!!.... نعم
والله إنها لبدع.
- ولكن يا مهدي! ألا
تظن أن مولدكم الخالي
من هذه المنكرات قد
يتضمن منكرات أخرى لا
تراها أنت بدافع إلفك
لها، وتعوُّدِك
عليها؟ ثم ألا يمكن
أن يتطور مولدكم
يوماً ليلحق بالموالد
التي قلت عنها: إنها
موالد بدع؟!
- بالطبع لا، وهذه
موالدنا، نحن وشيوخنا
وآباؤنا منذ سنين
طويلة لم يتغير فيها
شيء، ولم نصل إلى شيء
من هذه البدع والحمد
لله.
- ألا تذكر يا مهدي
المولد الذي يقيمه
(السيد هاشم)؟ أتذكر
ما الذي كان عليه،
وأنه كان مثل مولدكم
تماماً، أما تشعر
أنهم صاروا الآن
يستخدمون الدفوف ضمن
احتفالهم بالمولد؟
ولقد سمعت أحد أقارب
السيد هاشم يتحدث عن
إدخال الناي في مراسم
المولد..
- نعم هذا صحيح أنا
أذكر ذلك. هم مُخطئون
في ذلك ولا شك.
- ولكن لماذا هم
مخطئون؟ ألا يمكن أن
نكون نحن المخطئين،
وأنه كان يجب علينا
أن نفعل مثلهم؟!
- لا، لا، هم
المخطئون، لا أقولها
تعصباً، ولكن الذي
فعلوه تغيير لما كان
عليه أسلافنا.
- طيب أليس المولد
كله تغيير لما كان
عليه الأسلاف
الأوائل؟!
- نعم - قالها وقد
ضاق بهذا النقاش
ذرعاً - هو كذلك،
ولكنه فعل خير.
هنا بدأ مهدي يشعر
بالضيق، وعدم الرغبة
في الذهاب مبكراً إلى
المولد، وتمنى لو أنه
يلقى صالحاً فيناقشه
في الأمر. ولكن أين
صالح؟ وكيف يمكن
الوصول إليه؟!
قلَّب مهدي في رسائل
هاتفه الجوال، فإذا
رسالة قديمة كان صالح
قد أرسلها له قبل
أيام، وإذا فيها:
"أنت لا تُوَكِّل
غيرك في شراء سيارةٍ
لك، ولا في اختيار
بيت تستأجره مما
تتجمَّل به، ويعبِّر
عن شخصيتك، بل تقوم
بذلك بنفسك.."، تواصل
الرسالة: "فلِمَ توكل
إلى غيرك اختيار ما
تتجمل به أمام الله
تعالى من أمر دينك؟".
لا والله لا أريد أن
أعمل أعمالاً، أصرف
فيها القليل من وقتي
وعمري الذي أجعله
للعبادة؛ ثم لا تكون
هذه الأعمال نافعة،
ولا مرضيَّةً عند
الله!!
أليس في الواضح
الأكيد الصافي من كل
كدر من العبادات غنية
عن كل متشابه؟! قد
يكون بدعة وقد يكون
سنة!!
أما آن لي أن أسمع
ممن اعتدت أن أسمع
لهم من مشايخي، ولكن
لا أَصُمَّ أُذني عن
سماع غيرهم ممن قد
يأتي بالحق بدليله
فينشرح له صدري،
وتقبله نفسي؟!
وهنا بدأت معالم
الصورة تتضح أمام
مهدي، وبدأ يرسم خطة
جديدة لحياته، وإذا
بالقرارات تنثال عليه
وكأنه قد أعدها
مسبقاً:
1- أنا لن أعبد الله
بالمتشابه، الذي لا
أعلم أيرضاه مني أم
لا؟ وفي الدين الواضح
والمحجة البيضاء غنية
وكفاية، وعسى أن أقوم
بحقوقها وتكاليفها،
فإن في ذلك لَشُغلاً.
2- لن أحضر احتفال
المولد اليوم، ولا
بعد اليوم، وقد
أبدلني الله به
مولداً جديداً هو
مولدي أنا!! فأنا من
اليوم إنسانٌ جديد.
ومن اليوم سأحتفل
بالنبي صلى الله عليه
وسلم في كل حين؛
سأحتفل بتطبيق سنته،
سأحتفل بالاقتداء به،
وبالمحافظة على صلاة
الفجر في وقتها، وكذا
بقية الفرائض، سأحتفل
بتحكيمه صلى الله
عليه وسلم في كل شئون
حياتي، ووالله إني
لأشعر بِلَذَّةِ ذلك
من الآن، وكأنها
حلاوة أتطعَّمُها في
فمي، ونِعم المولد
مولدٌ أعيشه، وأتبع
فيه حبيبي صلى الله
عليه وسلم، وأحيا معه
في كل حركةٍ وسكون!
3- أهل العلم يجب أن
نأخذ منهم، وأن
نوقِّرهم، ولكن دون
أن نُلغي عقولنا،
فالحساب يوم القيامة
سيكون فردياً، يجب أن
أفهم أن ما أتَّبعهم
فيه يجب أن يكون سنة
لا بدعة، وأن يكون
مقرِّباً إلى الله،
فالعالم قد يُخطئ،
وقد يتبع العادة أو
الهوى. ولا والله لا
أُنزل أحداً من
العالمين منـزلة
النبي صلى الله عليه
وسلم في اتباعه في
الأمر كله.
4- أرجو أن ينفعني
الله بقول نبيه صلى
الله عليه وسلم:
{ما من شيء يقرب من
الجنة ويباعد من
النار إلا وقد بُيّن
لكم}
فماذا بقي أرجو بعد
هذا؟.
ومضى مهدي شاكراً
لنعمة الله عليه
بالتبصير في الدين،
وركب سيارته، وأدار
المذياع فإذا بالشيخ
سعود الشريم ينساب
صوته عذباً: ((أَفَغَيْرَ
اللّهِ أَبْتَغِي
حَكَماً وَهُوَ
الَّذِي أَنَزَلَ
إِلَيْكُمُ
الْكِتَابَ
مُفَصَّلاً
وَالَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
مُنَزَّلٌ مِّن
رَّبِّكَ بِالْحَقِّ
فَلاَ تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُمْتَرِينَ،
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ صِدْقاً
وَعَدْلاً لاَّ
مُبَدِّلِ
لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ
السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ، وَإِن
تُطِعْ أَكْثَرَ مَن
فِي الأَرْضِ
يُضِلُّوكَ عَن
سَبِيلِ اللّهِ إِن
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ
إِلاَّ يَخْرُصُونَ،
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ
عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ))
[الأنعام:117].
أخي الكريم.. هذه قصة
جرت لرجل من الناس
جعل الله له نوراً
بتحكيمه للسنة على
نفسه، وبتعظيمه هدي
المصطفى، وجَعْلِهِ
إماماً، فقد فاز
والله من اتخذ مع
الرسول سبيلاً بطاعته
واتباعه، وتجنب الحدث
في دينه.
إن معيار الحق والعدل
الذي يحبه الله
ويرضاه لا يُعرف
باستحسانِ ذوق، ولا
بتوارثِ أجيال، ولا
بفعلِ الجم الغفير من
الناس، ولا بالتحاكمِ
إلى عقلٍ لم يستنر
بنور الشريعة، ولا
بتقليدٍ لمن لم يأتِ
ببرهانٍ من الله على
ما يقوله. ولكنْ مَنْ
طَلَبَ الهداية بصدق،
ثم سلك طريقها الذي
أمر اللهُ به وأمر به
رسولُه صلى الله عليه
وسلم، متبعاً لا
مبتدعاً فأحرِ به أن
ينال مراده، فالله
يقول:
{يا عبادي! كلكم ضال
إلا من هديته؛
فاستهدوني أهْدِكم}،
ويقول عن اتباع الطرق
غير الموصلة للحق: ((وَأَنَّ
هَـذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ
تَتَّبِعُواْ
السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ
عَن سَبِيلِهِ
ذَلِكُمْ وَصَّاكُم
بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ))
[الأنعام:153]، ويقول
عن قوم ذامَّاً لهم:
((إِن
يَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ وَمَا
تَهْوَى الْأَنفُسُ
وَلَقَدْ جَاءهُم
مِّن رَّبِّهِمُ
الْهُدَى))
[النجم:23].
إن شأن المولد إذا
تأمل فيه من هو خالي
الذهن، غير مائلٍ
لطرف من آراء الناس
فيه، إذا تأمل فيه
وفي أدلة كمال
الشريعة، علم أنه -أي
المولد- قَصْدُ خيرٍ،
ولكنه ليس بهدى ولا
خير. فإحداث هذا
الاحتفال بحدِّ ذاته
حَدَثٌ في الدين، ثم
إنه غالبا في أكثر
بلدان المسلمين ينضاف
إليه أنواع من الأمور
المستنكرة، والأفعال
القبيحة. وأخفهم
إحداثاً من يقوم
أثناء الحضرة فجأة،
وقد أعدوا العدة
سابقاً لهذا القيام،
فيقومون قومة رجل
واحد، ويُدخلون
الطيب، ويُنشِدون
بصوت مُنَغَّمٍ شجي:
"مرحباً يا نور
عيني.. مرحباً!
مرحباً! مرحباً جد
الحسين.. مرحباً!
مرحباً"، وفي موالد
أخرى يقع ما أشارت
إليه القصة من
المنكرات، وفي بعضها
يقع الكفر الصراح،
كما نقل الشيخ عبد
الرحمن الوكيل -وهو
ممن كان له بالمتصوفة
علاقة- أن بعض العامة
في بعض الموالد أخذوا
يصيحون بالمنشد، وقد
غلب عليهم وجدهم
وسُكرهم، "أيوه كدا
اكفر، اكفر يا مربي"
والعياذ بالله! ولذا
فهذه البدعة -التي
يعدُّها البعض يسيرة
ولا تستحق النقاش-
تئول إلى أن تكون
مجمعاً لبدع كثيرة لا
تقوم إلا بها، ويكون
المولد هو الفلك الذي
تدور حوله، وهو
الموسم الذي تنتشر
فيه، وهذا ما يسميه
أهل العلم بالبدعة
المركبة.
ولمعرفة
جانب مما يقع في
الموالد يمكن مراجعة
كتاب: (الموالد في
مصر)، وهو لجندي
إنجليزي يُدعى (مكفرسون)
نزل مصر واستوطنها،
واهتم بقضية الموالد،
فزار كثيراً منها،
وكتب عمَّا رأى،
ووصف، وهو غير متَّهم
فيما ينقل؛ إذ كان
يتحدث عن ذلك كله
حديث المُعجَب به،
ويعتبره من عادات
المجتمعات الشرقية،
وهو ليس له هوى في
إثبات المولد ولا في
نفيه، وإنما انحصر
دوره في النقل
والوصف. وقد ذكر
موالد كثيرة شاهدها
تستغرق بمجموعها أيام
السنة بكاملها. وبمثل
هذه الدروشات تُستغرق
الأعمار، ويرضى
الشيطان، وتُضَيَّع
حقائق الدين، ولا حول
ولا قوة إلا بالله.
يا أهل العلم، هذه
دعوة للمراجعة
والتصحيح، فلا
يمنعنكم رأي
ارتأيتموه فيما مضى
من الأيام إن استبان
لكم الحق في غيره أن
تراجعوا الحق، فإن
الحق قديم، والحق أحق
أن يُتَّبع. إن
المحبة عمل قلبي تظهر
آثارها بما تنبعث به
الجوارح، وليست
ادعاءات بأن قوماً
يحبون الرسول أكثر من
غيرهم، أو أن من لا
يفعل فعلنا فهو غير
مُحِبٍ للنبي صلى
الله عليه وسلم، فقد
مضى الزمن الذي
يُصدِّق الناس فيه ما
يقال عن (أهل السنة)
دون تمحيص، كيف وقد
ملأوا السهل والجبل،
وأقاموا الدين في كل
ناد، وقاموا في
مقامات الصدق في نصرة
دين الله وحبيب الله
صلى الله عليه وسلم.
وليس على هذا
المعوَّل في التزكية،
ولكنه على الاتباع،
وحُسن التأسي، وإنما
أردنا مخاطبة القوم
بالطريقة التي
يعرفون. وليس أضر على
الإسلام من المنافحة
بالباطل، والتعصُّب
لما يحبه قوم، أو ضد
ما يأمر به قوم
آخرون، وأي لُعبة
يفرح بها الشيطان
ويتلاعب بها بالإنسان
أعظم من هذه؟!
إنَّ مِن إخلاص
العبودية لله أن تقبل
الحق، وإن كان
مُرَّاً، وأن تأخذ به
ولو جاء به أبغضُ
الناس إليك ؛ وكذا أن
ترد الباطل ولو كانت
لك فيه مصلحة أو
شهوة، وأن لا تلتفت
إليه وإن قام به أبوك
وأخوك وأقربوك. وإياك
أن تَضِن بهؤلاء أن
يكونوا أخطأوا الحق،
وأن ذلك يُزري بك
وبهم ؛ فيحملك ذلك
على أن تتابعهم في
الباطل. فإن جدالك
عَن ما هم عليه بعدما
تبيَّن هو الذي يُزري
بك وبهم، ويمد
المستكبر في عمايته،
ويزيده طغياناً
كبيراً، والعياذ
بالله. قال جل شأنه:
((أَمْ
آتَيْنَاهُمْ
كِتَاباً مِّن
قَبْلِهِ فَهُم بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ،
بَلْ قَالُوا إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءنَا
عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم
مُّهْتَدُونَ،
وَكَذَلِكَ مَا
أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ فِي
قَرْيَةٍ مِّن
نَّذِيرٍ إِلَّا
قَالَ مُتْرَفُوهَا
إِنَّا وَجَدْنَا
آبَاءنَا عَلَى
أُمَّةٍ وَإِنَّا
عَلَى آثَارِهِم
مُّقْتَدُونَ، قَالَ
أَوَلَوْ جِئْتُكُم
بِأَهْدَى مِمَّا
وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ
آبَاءكُمْ قَالُوا
إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُم بِهِ
كَافِرُونَ))
[الزخرف:24].
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم:
{أوصيكم بتقوى الله
والسمع والطاعة وإنْ
تَأَمَّر عليكم عبد،
وإنه من يعش منكم
فسيرى اختلافاً
كثيراً، فعليكم بسنتي
وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين،
عضوا عليها بالنواجذ،
وإياكم ومحدثات
الأمور؛ فإن كل بدعة
ضلالة}
رواه أحمد وأبو داود
والترمذي وابن ماجه.
وقال حذيفة بن اليمان
رضي الله عنه: كل
عبادة لم يتعبدها
أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلا
تتعبدوا بها، فإن
الأول لم يدع للآخر
مقالا، فاتقوا الله
يا معشر القراء، خذوا
طريق من كان قبلكم.
وقال ابن الماجشون:
سمعت مالكاً يقول: من
ابتدع في الإسلام
بدعة يراها حسنة فقد
زعم أن محمداً صلى
الله عليه وسلم خان
الرسالة، لأن اللّه
يقول: ((اليوم
أكملتُ لكم دينكم))
[المائدة:3]، فما لم
يكن يومئذٍ ديناً،
فلا يكون اليوم
ديناً.
اللهم رب جبرائيل
وميكائيل وإسرافيل،
عالم الغيب والشهادة،
فاطر السماوات
والأرض، أنت تحكم بين
عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون.. اهدنا لما
اختُلِف فيه من الحق
بإذنك إنك تهدي من
تشاء إلى صراط
مستقيم.
|