بسم الله الرحمن
الرحيم
دمعة على حب النبي
صلى الله عليه وسلم
نظرات متأملة للواقع
في حب النبي صلى الله
عليه وسلم
** للشيخ/ عبد الله
الخضيري **
قلِّب عينيك في
الملكوت ترَ الجمال
بديعاً، وافتح قلبك
لأسرار هذا الجمال
ترَ الحياة ربيعاً،
وخض في معترك الحياة
تكن لك الحياة
جميعاً، واجمعْ لي
قلبك أجمعْ لك عقلي،
وامنحني يدك فإني
لأرجو أن أمنح لك
حياةً هادئة سعيدة
بإذن الله، وافتح
صدرك أملأه دفئاً
ومحبةً وصدقاً. كن
معي لأكون لك وكما
تحب.
وأعطني دمعةً تحيي
بها قلبك، وتسلّي بها
نفسك، فدموعنا مداد
للفكر، وعبراتنا
ثباتٌ على المبدأ،
وبكاؤنا دوامٌ على
النهج والمنهج،
قلوبنا أهديناها
بالحب إلى غير محب
ففقدنا أعزَّ ما
نملك، وإذا بنا نتحسس
أماكنها وقد
تَوَهَّمنا وجودها،
إننا بحاجة إلى أن
نحب ولكن لا نغلو،
ونهوى ولكن لا نفرط،
ونعشق ولكن بتعفف.
إن القلب هو الكنز
الذي لا يقرؤه إلا من
يملكه، وإن راحة
الضمير أنوارٌ تتلألأ
في الغَلَس، وينابيع
متفجرة في الصحاري،
وكنوز داخل البيوت
المهجورة، كم من
الوقت ضاع لأجل الحب
وفي دوّامته؟ وكم من
العقول ذهبت لأجل
الحب وفي دائرته؟
ونغرق يومنا في
أبجديات الحب!! فمحب
يعيش بين الذكرى
والنسيان، ومحب يتيه
بين الوصل والحرمان،
حبٌّ يُسعد في الاسم،
ويُشقي في الرسم،
جمالٌ في الصورة،
وغموضٌ في الحقيقة،
الحب تاجٌ لكنه من
حديد، وكنزٌ لكنه من
تراب، ومعدنٌ لكنه من
سراب، وأي حبٍ
يُدَّعى فإنه ناقصٌ؛
إذ العلاقات بين
الآدميين بنيت على
المصالح في الغالب
وإن تنوعت صور الجمال
أو تجمَّلت الصور.
وإن لكل فؤادٍ نزعةَ
حبٍّ عذريةً تفيضُ
بعذبِ الهوى ونميره،
ولو اطَّلع الناس على
قلوب القساة لوجدوا
فيها أنهاراً متدفقة
من الحب والرحمة،
ولكنها تصب في أرض
قيعان.
وإني أحمل راية بيضاء
لبيض القلوب أن تتوجه
بالحب إلى أصدق الحب
وأبقاه، وأبقى البر
وأوفاه إلى...
أشواقُنا نحو الحجِاز
تطلّعت كحنين مغتربٍ إلى
الأوطانِ
إنّ الطيورَ وإنْ
قصصتَ
جناحها تسمو بهمَّتها إلى
الطيرانِ
لن أقول: (كانت
الحياة قبل البعثة
ظلاماً)؛ إذ لا يجهل
ذلك أحد، ولن أقول:
(كان الظلم، ولم يكن
غيره)؛ إذ لا أحد
يشكُّ في ذلك، ولن
أقول: (كان الحق
للقوة)، و(كانت
الحياة للرجل لا
للمرأة)؛ إذ الناس
أجمعوا على ذلك،
ولكني أقول: مع
البعثة وُلدت الحياة،
وارتوى الناس بعد
الظمأ..
لمّا أطلَّ محمدٌ زكت
الرُّبى واخضرَّ في البستان
كلُّ هشيمِ
وكان من المبشرات
بميلاد الحياة ما
صادف المولد النبوي
من إهلاك أصحاب
الفيل؛ فإنه بشرى
بإهلاك الطاغوت
والطغاة، وولادةٌ
لفجر العدالة
والحياة، كما أن في
إهلاكهم اجتماعاً
لكلمة قريش وتوحدها،
ولذا أنزل الله تعالى
بعد سورة الفيل سورة
قريش، بياناً لسبب من
أسباب إهلاك أصحاب
الفيل وهو أنه لتأتلف
قريش، ومن بعد ذلك
كلِّه ذكَّر قريشاً
بنعمتين عظيمتين:
أُولاهما: أن
أطعمهم من جوع،
وتمثَّل ذلك في رحلة
الشتاء ورحلة الصيف.
وثانيهما: أن
آمنهم من خوف، وهنا
كلمة (خوف) جاءت نكرة
دالة على العموم،
فيدخل في ذلك كلُّ
خوفٍ ألـمَّ بهم
فأمنوا منه، كما في
قصة أصحاب الفيل وأبرهة الأشرم، أو
خوفٍ يحدث لهم بعد
ذلك ظاهراً كبعثة
محمد صلى الله عليه
وسلم، وإنما هو رحمةٌ
وأمنٌ وأمان لهم
ظاهراً وباطناً،
حينما يظهره الله
تعالى، كما أهلك الله
أصحاب الفيل لكي
تتعلق القلوب بربِّ
البيت الذي أهلك
البغاة، وكيف يكون
شكرهم له.
وقايةُ الله أغنت عن
مضاعفةٍ من
الدروعِ وعنْ عال من الأُطمِ
ومما كان ممهِّداً
ومقدِّماً لدعوة
الإيمان التي حملها
محمد صلى الله عليه
وسلم: ما روى البخاري
رحمه الله في صحيحه
عن عائشة رضي الله
عنها قالت:
{كان يوم بُعاث يوماً
قدمه الله لرسوله صلى
الله عليه وسلم،
فَقَدِم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقد افترق مَلَؤُهم،
وقُتلت سرواتهم،
وجُرِّحوا، فقدَّمه
الله لرسوله صلى الله
عليه وسلم في دخولهم
الإسلام}.
ثم ولي ذلك اجتماع
النفوس على نصر
المظلوم، وردِّ
الفضول على أهلها،
وبه سمي الحلف، وفيه
انتصار للعدالة، وإنْ
كان ذلك على نطاق ضيق
لكن (لا شك أن العدل
قيمةٌ مطلقةٌ وليست
نسبيةً، وأن الرسول
صلى الله عليه وسلم
يظهر اعتزازه
بالمشاركة في تعزيز
مبدأ العدل قبل بعثته
بعقدين؛ فالقيم
الإيجابية تستحق
الإشادة بها حتى لو
صدرت من أهل
الجاهلية).
وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم عن
ذلك الحلف:
{شهدت حلف المطيبين
مع عمومتي وأنا غلام،
فما أحب أن لي حمر
النعم وأني أنكثه}،
وسمَّاه: المطيبين؛
لأن العشائر التي
عقدت حلف المطيبين هي
التي عقدت حلف
الفضول، وإنما كان
حلف المطيبين قبل
ميلاد محمد صلى الله
عليه وسلم بعد وفاة
جده قصي.
هذا على العموم وفي
الظاهر. أما ما كان
ممهداً له صلى الله
عليه وسلم في ذاته
فإن الخلوة والتعبد
من أهم سمات العظماء،
فإنه بعد ذلك ممتلئٌ
بما فرّغ نفسه له؛
فقد قالت عائشة رضي
الله عنها:
{كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتحنث
في غار حراء الليالي
ذوات العدد قبل أن
يرجع إلى أهله،
ويتزود لذلك، ثم يرجع
إلى خديجة فيتزود
لمثلها، حتى فجأة
الحق وهو في غار حراء}.
ومما كان مطمئناً له
صلى الله عليه وسلم
قبل نزول الوحي
الرؤيا الصادقة؛ فكان
لا يرى رؤياً إلا
جاءت مثل فلق الصبح.
ومع بشريته صلى الله
عليه وسلم وإعلانه
بإعلان القرآن لذلك،
إلا أنه ذكر من
المعجزات والآيات ما
كان آية على علو
منزلته، ورفيع قدره؛
فقد حدَّث صلى الله
عليه وسلم: أن حجراً
كان يُسلم عليه قبل
النبوة. فلله ما أعظم
هذا القائد وما
أصدقه! فما عرفت مكة
أميناً كأمانته صلى
الله عليه وسلم، فلما
أظهره الله بالحق
الذي معه لم يكن
عندهم ظاهراً كذلك..
لقبتموه أمينَ القوم
في صغرٍ وما الأمينُ على قولٍ
بمتَّهم
ولعلي أقف عند هذا
الحد وأدخل فيما أردت
من موضوع الحب لرسول
صلى الله عليه وسلم؛
فإن الحب أسمى
العلاقات، ولعله
أرقها، وإنما يبعث
على كتابة مثل هذا
الموضوع قول الرسول
الكريم صلى الله عليه
وسلم:
{أنت مع من أحببت}،
وأي سعادة تقارب
تلك السعادة في الحب؟
وأي نجاح في النهاية
يوازي ذلك الحب؟ يقول
شيخ الإسلام ابن
تيمية: (وإنما ينفع
العبدَ الحبُّ لله
لما يحبه الله من
خلقه كالأنبياء
والصالحين؛ لكون حبهم
يقرب إلى الله
ومحبته، وهؤلاء هم
الذين يستحقون محبة
الله لهم).
وإذا تعلق قلب العبد
بالله أحب كل ما يقرب
إلى الله ويزيده،
ويبقى أنه أشد حباً
لله، فلا حب يوازي
ذلك الحب، وإنما يحب
بحب الله وله. قال
شيخ الإسلام ابن
تيمية: (فإنك إذا
أحببت الشخص لله كان
الله هو المحبوب
لذاته، فكلما تصورته
في قلبك تصورت محبوب
الحق فأحببته، فازداد
حبك لله، كما إذا
ذكرت النبي صلى الله
عليه وسلم والأنبياء
قبله، والمرسلين
وأصحابهم الصالحين،
وتصورتهم في قلبك،
فإن ذلك يجذب قلبك
إلى محبة الله المنعم
عليهم، وبهم إذا كنت
تحبهم لله؛ فالمحبوب
لله يجذب إلى محبة
الله، والمحب لله إذا
أحب شخصاً لله فإن
الله هو محبوبه؛ فهو
يحب أن يجذبه إلى
الله تعالى، وكل من
المحب لله والمحبوب
لله يجذب إلى الله).
وحسبي إن أنا خضت في
هذا الموضوع أن أنال
محبة القوم، وحسبي من
القلادة ما أحاط
بالعنق، ومن السوار
ما أحاط بالمعصم..
أسيرُ خلف ركاب
النُجْبِ ذا
عرجٍ
مؤملاً كشف ما لاقيت
من عوجِ
فإن لحقتُ بهم من بعد
ما
سبقوا فكم لربِّ الورى في
ذاك من فرجِ
وإن بقيتُ بظهر
الأرضِ منقطعاً فما
على عرجٍ في ذاك من
حرجِ
صور مشرقة من حب
السلف للنبي صلى الله
عليه وسلم:
واسمح لي أن أنتقل
وإياك إلى جيل تعيش
معهم الأمن والسكينة
بعد أن ذقت من الدنيا
خوفاً وهلعاً، ودعني
أستل من قلبك خيطاً
أبيض نلتمس به الصلة
بيننا وبينهم، وأعرني
دمعة تخفف بها الهوة
بيننا وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وتوقيره. قال صاحب
الشفا بتعريف حقوق
المصطفى صلى الله
عليه وسلم: (ذكر عن
مالك أنه سئل عن أيوب
السختياني، فقال: ما
حدثتكم عن أحد إلا
وأيوب أوثق منه).
وقال عنه مالك: (وحجّ
حجتين، فكنت أرمقه،
ولا أسمع منه، غير
أنه كان إذا ذكر
النبي صلى الله عليه
وسلم بكى حتى أرحمه،
فلما رأيت منه ما
رأيت، وإجلاله للنبي
صلى الله عليه وسلم
كتبت عنه).
وقال مصعب بن عبد
الله: (كان مالك إذا
ذكر النبي صلى الله
عليه وسلم يتغير لونه
وينحني حتى يصعب ذلك
على جلسائه، فقيل له
يوماً في ذلك، فقال:
لو رأيتم ما رأيت لما
أنكرتم عليَّ ما
ترون).
وذكر مالك عن
محمد بن المنكدر وكان
سيد القراء: (لا نكاد
نسأله عن حديث أبداً
إلا يبكي حتى نرحمه)،
ولقد كنت أرى جعفر بن
محمد وكان كثير
الدعابة والتبسم فإذا
ذكر عنده النبي صلى
الله عليه وسلم
اصفرَّ لونه، وما
رأيته يحدث عن رسول
الله صلى الله عليه
وسلم إلا على طهارة،
ولقد اختلفت إليه
زماناً فما كنت أراه
إلا على ثلاث خصال:
إما مصلياً، وإما
صامتاً، وإما يقرأ
القرآن، ولا يتكلم
فيما لا يعنيه، وكان
من العلماء والعباد
الذين يخشون الله.
وكان الحسن رحمه الله
إذا ذكر حديث حنين
الجذع وبكائه يقول:
(يا معشر المسلمين!
الخشبة تحن إلى رسول
الله صلى الله عليه
وسلم شوقاً إلى
لقائه؛ فأنتم أحق أن
تشتاقوا إليه).
وكان عبد الرحمن بن
القاسم يذكر النبي
صلى الله عليه وسلم
فينظر إلى لونه كأنه
نزف منه الدم، وقد جف
لسانه في فمه هيبة
لرسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولقد كنت
آتي عامر بن عبد الله
بن الزبير فإذا ذكر
عنده النبي صلى الله
عليه وسلم بكى حتى لا
يبقى في عينيه دموع..
نزف البكاءُ دموعَ
عينك فاستعر عيناً
لغيرك دمعها مدرارُ
ولقد رأيت الزهري
وكان لَمِنْ أهنأ
الناس وأقربهم، فإذا
ذكر عنده النبي صلى
الله عليه وسلم فكأنه
ما عرفك ولا عرفته.
ولقد كنت آتي صفوان
بن سليم، وكان من
المتعبدين المجتهدين،
فإذا ذكر النبي صلى
الله عليه وسلم بكى،
فلا يزال يبكي حتى
يقوم الناس عنه
ويتركوه.
وقال عمرو بن ميمون:
(اختلفت إلى ابن
مسعود سنة فما سمعته
يقول: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم،
إلا أنه حدّث يوماً
فجرى على لسانه: قال
رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ثم علاه
كربٌ، حتى رأيت العرق
يتحدّر عن جبهته، ثم
قال: هكذا إن شاء
الله، أو فوق ذا، أو
ما دون ذا، ثم انتفخت
أوداجه، وتربَّد وجهه
وتغرغرت عيناه).
وبلغ معاوية أن كابس
بن ربيعة يشبَّه
برسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما دخل
عليه من باب الدار
قام عن سريره وتلقّاه
وقبّل بين عينيه،
وأقطعه المِرغاب،
لشبهه صورة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وإني سائل بعد تلك
الصور المتحدثة: أين
نحن من سيرتهم؟ وأين
حالنا من حالهم؟ وما
أثر الحب عندنا؟ وما
أثره عندهم؟ بل وما
صدق ما ندَّعي؟ وما
صدق ما لم يدَّعوه؟
وأين حقيقة ما
ندَّعي؟ وما دلائل
المحبة عندهم؟ لقد
قام في قلوبهم ما
قصرت هممنا عن أن
تقوم بأقله، وأحيوا
في شعورهم ما ماتت
مشاعرنا دونه، وتعلقت
أبصارهم فيما وراء
الطرف، في حين لم
تتجاوز أبصارنا
أطرافنا.. ألا رجل لم
تقعد به همته ولم
يتأخر به عمله؟! ألا
صادق يترجم المحبة
قولاً وعملاً وغيرة؟!
ألا فارس لا يرجع إلا
بإحدى الحسنيين؟!
أيها المحبُّون: لقد
تباعد بنا الزمن،
واستنسرت الفتن،
واشتغل الأكثرون
بالحطام من المهن،
غاب عنا الحب وإن
ادعيناه، ونسينا
الواجبات فكانت من
أحاديث الذكريات،
نتحدث عن السنة
النبوية والهدي
النبوي لكن لا ترى
جاداً في الاتباع،
ولا صادقاً في الكلام
إلا قليلاً..
وكل يدَّعي وصلاً
بليلى
وليلى لا تُقر لهم
بذاكا
مظاهر الجفاء مع
النبي صلى الله عليه
وسلم:
ولمزيد من التوضيح
فلنعرض أنفسنا على
السنة المطهرة، على
صاحبها أفضل الصلاة
وأزكى التسليم،
ولنعرض بعض المظاهر
التي أحسبُ أنها
كافية في إيضاح
الجفاء الذي اتصف به
بعضنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وسنته، لعل الله أن
يزيد المهتدي هدى،
وأن يبدل الجافي
إلفاً، والبعيد
قرباً، والغالي
قصداً.
ويأتي في أول تلك
المظاهر: البعد عن
السنة باطناً؛ وذلك
بتحول العبادات إلى
عادات ونسيان احتساب
الأجر من الله، أو
ترك متابعة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وتعظيمه، والمحبة
القلبية الخالصة له،
ونسيان السنن وعدم
تعلمها، أو البحث
عنها، وعدم توقير
السنة، والاستخفاف
بها باطناً.
ومن ذلك أيضاً:
البعد عن السنة
ظاهراً؛ وذلك بترك
العمل بالسنن الظاهرة
الواجب منها
والمندوب، وعلى سبيل
المثال:
سنن الاعتقاد ومجانبة
البدعة وأهلها بل
وهجرهم، أو السنن
المؤكدة مثل: سنن
الأكل، واللباس، أو
الرواتب، أو الوتر،
أو ركعتي الضحى، وسنن
المناسك في الحج
والعمرة، والسنن
المتعلقة بالصوم في
الزمان والمكان،
فصارت السنة عند بعض
الناس كالفضلة والله
المستعان.
ولعمر الله لا يستقيم
قلب العبد حقيقة حتى
يعظم السنة ويحتاط
لها، ويعمل بها. هذا
وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
{فمن رغب عن سنتي
فليس مني}،
كما في الصحيحين،
وكان كلامه هذا صلى
الله عليه وسلم في
أمر الزواج وأكل
اللحم ونحوهما.
وقد قال أُبَيُّ بن
كعب رضي الله عنه:
(عليكم بالسبيل
والسنة؛ فإنه ما من
عبد على السبيل
والسنة ذكر الله
فاقشعر جلده من مخافة
الله إلا تحاتَّت عنه
خطاياه، كما يتحاتُّ
الورق اليابس عن
الشجرة، وما من عبد
على السبيل والسنة
ذكر الله خالياً
ففاضت عيناه من خشية
الله إلا لم تمسه
النار أبداً، وإنَّ
اقتصاداً في سبيلٍ
وسنة خير من اجتهاد
فيما [هو] خلاف سبيل
وسنة، فاحرصوا أن
تكون أعمالكم
اقتصاداً واجتهاداً
على منهاج الأنبياء
وسنتهم).
ومما يلاحظ من
الجفاء: رد بعض
الأحاديث الصحيحة
الثابتة بأدنى حجة من
الحجج، كمخالفة
العقل، أو عدم تمشيها
مع الواقع، أو عدم
إمكان العمل بها، أو
المكابرة في قبول
الأحاديث، وتأويل
النصوص وحرفها لأجل
ذلك، أو رد الأحاديث
الصحيحة باعتبار أنها
آحاد، وأغلب أحكام
الشريعة إنما جاءت من
طريق الآحاد، أو دعوى
العمل بالقرآن وحده،
وترك ما سوى ذلك، وقد
قال صلى الله عليه
وسلم:
{لا ألفين أحدكم
متكئاً على أريكته،
يأتيه الأمر من أمري،
مما أمرت به أو نهيت
عنه، فيقول: لا ندري؛
ما وجدنا في كتاب
الله اتبعناه}.
وإن زعموا ما زعموا
من وجوب وحدة
المسلمين على القرآن
وحده، فإن الله تعالى
أوجب في القرآن الأخذ
عن الرسول صلى الله
عليه وسلم كل ما أتى
به جملة وتفصيلاً،
فقال تعالى:
((وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانتَهُوا))[الحشر:7].
وقد ذكر الله طاعة
الرسول صلى الله عليه
وسلم في القرآن في
ثلاثة وثلاثين
موضعاً. وقد قال رسول
الله صلى الله عليه
وسلم:
{ألا إني أوتيت
القرآن ومثله معه}.
قال الحميدي: (كنا
عند الشافعي رحمه
الله، فأتاه رجل،
فسأله في مسألة،
فقال: قضى فيها رسول
الله صلى الله عليه
وسلم كذا وكذا، فقال
رجل للشافعي: ما تقول
أنت؟ فقال: سبحان
الله! تراني في
كنيسة! تراني في
بيعة! ترى على وسطي
زناراً؟! أقول لك:
قضى فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأنت تقول: ما تقول
أنت؟!).
وقال مالك:
(أكلما جاءنا رجل
أجدل من رجل، تركنا
ما نزل به جبريل على
محمد صلى الله عليه
وسلم لجدله؟!).
ويقول رحمه الله:
(سنَّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم وولاة
الأمر بعده سنناً،
الأخذُ بها تصديقٌ
لكتاب الله عز وجل،
واستكمالٌ لطاعة
الله، وقوة على دين
الله، من عمل بها
مهتد، ومن استنصر بها
منصور، ومن خالفها
اتبع غير سبيل
المؤمنين، وولاه الله
ما تولى).
قال ابن القيم رحمه
الله: (ومن الأدب معه
ألا يُستشكَل قوله،
بل تُستشكَل الآراء
لقوله، ولا يُعارَض
نصه بقياس، بل تُهدَر
الأقيسة وتلقى
لنصوصه، ولا يُحرف
كلامه عن حقيقته
لخيال يسميه أصحابه
معقولاً، نعم هو
مجهول، وعن الصواب
معزول، ولا يوقف قبول
ما جاء به على موافقة
أحد، فكان هذا من قلة
الأدب معه صلى الله
عليه وسلم، بل هو عين
الجرأة).
دعوا كل قولٍ عند
قولِ
محمدٍ
فما آمِنٌ في دينه
كمُخاطِر
وفي عصر الإعلام
يتجلى الجفاء في
العدول عن سيرته صلى
الله عليه وسلم وسنته
وواقعه وأعماله إلى
رموز آخرين من عظماء
الشرق والغرب -كما
يسمون- سواء كانوا في
القيادة والسياسة، أو
في الفكر والفلسفة،
أو في الأدب
والأخلاق؛ والأدهى من
ذلك مقارنة أقوال
هؤلاء ومقاربتها
لأقوال النبي صلى
الله عليه وسلم
وأحواله، وعرضها
للعموم والعامة؛ وتلك
مصيبة تهوِّن على
العوام التجني على
سيرة المصطفى صلى
الله عليه وسلم
وسنته، وتثير الشكوك
في أقواله وأعماله
التشريعية صلى الله
عليه وسلم، والتي هي
محض وحي:
((إِنْ هُوَ إِلاَّ
وَحْيٌ يُوحَى))[النجم:4].
لكن بعض الأذهان لا
تتعلق إلا بالواقع
المشاهد، واللحظة
المعاصرة، فينبهرون
بأولئك، وينسون
العظمة التي عاشها
النبي صلى الله عليه
وسلم للأحياء
وللأموات، للحاضر
وللمستقبل؛ بل للحياة
وللموت.
وقد سمى الله الكفر
قبل الإيمان موتاً،
والإيمان حياة، قال
تعالى:
((أَوَ مَن كَانَ
مَيْتاً
فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ
نُوراً يَمْشِي بِهِ
فِي النَّاسِ))[الأنعام:122]^.
أخوك عيسى دعا ميتاً
فقام
له
وأنت أحييت أجيالاً
من العدمِ
وأعماله صلى الله
عليه وسلم ما زالت
وستظل قائمة بأعيانها
متحدثة بعنوانها عن
عظيم وعظمة وحياة،
ولا تحتاج إلى دليل
وبيان..
وليسَ يصح في
الأذهانِ
شيءٌ
إذا احتاجَ النهارُ
إلى دليِل
ويلحق بذلك تقديم
أقوالهم على أقواله
صلى الله عليه وسلم،
وأحوالهم على أحواله،
وأعمالهم على أعماله،
ويا للأسف! من يقوم
بمثل تلك الأعمال؟
إنهم رجال العفن وفئة
من أهل الصحافة وبعض
ساسة الإعلام
والتعليم ممن تسوّدوا
بغير سيادة، وقادوا
بغير قيادة!!
وفي مجالسنا
ومنتدياتنا يلاحظ
المتأمل منا صفاءً
روحانياً، يتضح في
نزع هيبة الكلام حين
الحديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم،
وكأنها حديث عابر، أو
سيرة شاعر، أو قصة
سائر.. فلا أدب في
الكلام، ولا توقير
للحديث، ولا استشعار
لهيبة الجلال النبوي،
ولا ذوق للأدب
النوراني القدسي، فلا
مبالاة، ولا اهتمام،
ولا توقير، ولا
احترام، وقد قال
تعالى:
((يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ
وَلاَ تَجْهَرُوا
لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ
لِبَعْضٍ))[الحجرات:2].
هذا أيها الناس! هو
الأدب الرباني؛ فأين
الأدب الإنساني قبل
الأدب الإسلامي؟ كما
نهى الله قوماً كانوا
ينادونه باسمه: (يا
محمد) كما ذكره كثير
من المفسرين، فيسلب
المنادي الشرف الذي
تميز به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو النبوة والرسالة،
وهذا ليس على إطلاقه،
لكنه أدب فتأمله!
ويلحق بالجفاء: جفاء
القلوب والأعمال تجاه
من خدموا السنة،
ويتمثل ذلك في هجر
أهل السنة والأثر
العاملين بها، أو
اغتيابهم ولمزهم
والاستهزاء بهم
واستنقاص أقدارهم،
وانتقادهم وعيبهم على
التزامهم بالسنن
ظاهراً وباطناً.
ولا عيبَ فيهم غير
أنَّ
سيوفَهم
بهن فلولٌ من قراعِ
الكتائبِ
وتصور حالة الغربة
والغرباء تجد قلتهم
في هذا الزمن وغيره،
وقد سبقنا إلى
تصويرها ابن القيم
حين قال:
وأيُّ اغتراب فوقَ
غربتنا
التي
لها أضحت الأعداء
فينا تَحَكَّمُ
ولكننا سبي العدو فهل
تُرى نعود
إلى أوطاننا ونسلَّمُ
وبه وصف أهل السنة
والأثر، يقول صلى
الله عليه وسلم:
{لا تزال طائفة من
أمتي على الحق ظاهرين
لا يضرهم من خذلهم
ولا من خالفهم حتى
يأتي أمر الله وهم
كذلك}.
وهذا أحد السلف وهو
الجنيد بن محمد يقول:
(الطرق إلى الله
تعالى كلها مسدودة
على الخلق، إلا من
اقتفى أثر الرسول صلى
الله عليه وسلم واتبع
سنته ولزم طريقته؛
فإن طرق الخيرات كلها
مفتوحة عليه، كما قال
تعالى:
((لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِّمَن
كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الآخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيراً))[الأحزاب:21]^
).
أما من لم يدرك السنة
والعمل بها فلا همّ
له إلا الكلام
والملام..
أقلِّوا عليهم لا
أباً
لأبيكمُ من اللَّوم أو سدّوا
المكانَ الذي سدّوا
وفي الحقيقة أن من
تكلم فيهم فلا يضر
إلا نفسه..
كناطحٍ صخرةً يوماً
ليوهنها
فلم يضرها وأوهى
قرنَه الوعلُ
ولعل هذا أيضاً مما
ينشر السنن بين
الناس..
وإذا أرادَ الله نشرَ
فضيلةٍ طويت أتاحَ لها لسانَ
حسودِ
ومن صور الجفاء المحض
الذي طبقه الكثيرون
-من غير استشعار
للجفاء-: هجر السنن
المكانية؛ وشواهد هذا
الجفاء في حياتنا
كثيرة؛ فترى من الناس
من يحج كل عام ويعتمر
في السنة أكثر من
مرة، ومع ذلك تمر
عليه سنوات كثيرة لم
يعرِّج فيها على
المدينة النبوية إلا
أقل من أصابع اليد
الواحدة، وقد يعتب
بعضهم على أهل الآفاق
أو الوافدين الذين لا
يقدمون الديار
المقدسة في العمر إلا
مرة، ويأتون المدينة
فيصلون فيها ويغتنمون
أوقاتهم، وترى من
أولئك الآفاقيين
حرصاً لا تكاد تجد
بعضه عند سكان
الجزيرة، بل يعتصر
الإنسان أسى على أننا
في هذه الديار قلَّ
منْ يهتم بالزيارة،
وقد يزورها لكن على
عجل وخوف من فوات
مصالح يظنها كذلك،
وإن زارها فلا اهتمام
بالسنن والشعائر،
وهذا لعله من النسيان
والانشغال بغير السنن
والبعد عن قراءة
السيرة النبوية؛ فإن
الإنسان بحمد الله
يجد من الأمن والأنس
والطمأنينة القلبية
في المدينة النبوية
ما لا يجده في غيرها
إلا مكة..
ويا حبها زدني جوىً
كلَّ
ليلةٍ
ويا سلوة الأيام
موعدكِ الحشرُ
وصلتكِ حتى قيل لا
يعرف القِلى
وزرتكِ حتى قيل ليس
له صبرُ
وإني لتعروني لذكراكِ
هزة كما
انتفضَ العصفورُ
بلَّله القَطرُ
هل الوجد إلا أن قلبي
لو دنا من
الجمر قيدَ الرمح
لاحترقَ الجمرُ
(وجديرٌ لِمَواطن
عُمِّرت بالوحي
والتنزيل، وتردَّد
بها جبريل وميكائيل،
وعرجت منها الملائكة
والروح، وضجت عرصاتها
بالتقديس والتسبيح،
واشتملت تربتها على
جسد سيد البشر صلى
الله عليه وسلم،
وانتشر عنها من دين
الله وسنة رسول صلى
الله عليه وسلم مدارس
وآيات، ومساجد
وصلوات، ومشاهد
الفضائل والخيرات،
ومعاهد البراهين
والمعجزات، ومواقف
سيد المرسلين صلى
الله عليه وسلم،
ومتبوّأ خاتم النبيين
صلى الله عليه وسلم)
أن يُعتنى بها، وأن
تحل في القلوب وتخالط
بشاشتها، وأن يكون في
زيارتها ما يحدو إلى
اتباع السنة وتعظيم
نبي الأمة صلى الله
عليه وسلم.
ويلحق بزيارة المدينة
النبوية زيارة قبر
النبي صلى الله عليه
وسلم، والسلام عليه
وعلى صاحبيه رضي الله
عنهما. وهل يسلم على
النبي صلى الله عليه
وسلم كلما دخل المسجد
ممن كان من أهل
الآفاق؟ مسألة فيها
خلاف؛ لكن شرف
الزيارة والسلام
والصلاة مما أجمع
عليها المسلمون، وأن
يزور قبور البقيع من
الصحابة، وقبور
الشهداء، وقبر حمزة
رضي الله عنه؛ لأن
النبي صلى الله عليه
وسلم كان يزورهم
ويدعو لهم، ولعموم
الأحاديث في زيارة
القبور؛ وأن يدعو
لهم، وأن يستشعر
فضائلهم، ومناقبهم،
وجهادهم، وأن يلين
قلبه ويتذكر الآخرة
لعل الله أن ينصر به
دينه كما نصره بهم،
وأن يجمعه بهم مع
النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين
وحسن أولئك رفيقاً،
والله المستعان.
والسنن المكانية لا
تختص بالمدينة فقط،
بل في غيرها، مثل مكة
كالصلاة داخل
(الحِجْر) لأنه من
الكعبة، أو خلف
المقام، أو ما يتعلق
بالبقعة في غيرهما من
الأرض مما هو مشروعٌ
التعبد فيه مكاناً.
ومن الجفاء مع النبي
صلى الله عليه وسلم
علمياً وتربوياً: عدم
معرفة الخصائص
والمعجزات التي خص
الله بها نبيه محمداً
صلى الله عليه وسلم،
وهذا مما ينبغي أن
يتفطن له المتعلمون
قبل غيرهم، وينبغي
مراعاة الفروق بين
الخصائص والشمائل
والمعجزات والكرامات،
وأن الكرامات هي ما
يبارك الله في أصله
مثل تكثير الطعام
والاستسقاء، أو ما
يحدثه الله عز وجل من
الخوارق التي يعجز
عنها الإنس والجن؛
فيهيئها الله لعباده
من غير قاعدة سابقة،
ولا تكون الكرامات
إلا لمن استقام
ظاهراً وباطناً على
الطريق المستقيم، وقد
تجري لغيرهم لكن ليس
على الدوام. أما
المعجزات فلا تكون
إلا للأنبياء
للاستدلال بها
والتحدي، وهي على
الدوام على بابها في
التعجيز، وليست من
جنس الخوارق.
وأما الخصائص فهي
الأحكام التي خص الله
بها نبيه صلى الله
عليه وسلم مثل الجمع
بين أكثر من أربع
زوجات، والقتال في
الحرم المكي.
والشمائل هي: الأخلاق
الكريمة التي كانت
محور حياة النبي صلى
الله عليه وسلم؛
كالعفو والصفح
والرحمة ولين الجانب.
ويزدادُ الجفاءُ
سوءاً حين يبتعد
المرء عن الجادة
والشرع إلى سلوك
الابتداع في الدين
ومشابهة حالة
المخلِّطين، من تعظيم
مشايخ الطرق ورفعهم
فوق منزلة الأنبياء
بما معهم من الأحوال
الشيطانية والخوارق
الوهمية، أو الغلو في
الأولياء الذين يُظَن
أنهم كذلك، وإطراؤهم
في حياتهم وتقديسهم
بعد مماتهم، ودعاؤهم
من دون الله، والنذر
لهم وذبح القرابين
باسمهم، والطواف حول
قبورهم أو البناء
عليها، وهذا هو الشرك
الذي بُعِثَ النبي
صلى الله عليه وسلم
لإزالته وهدمه وإقامة
صرح التوحيد مكانه في
الأرض وفي القلوب،
فأقام الله دينه،
ونصر عبده، وأعز جنده
المؤمنين، وأقرَّ
الله أعينهم بإزالة
علائم الشرك وأوثان
الجاهلية، حين كان
النبي صلى الله عليه
وسلم يطعنها ويحطمها
بيده وهو يقول:
((جَاءَ الحَقُّ
وَزَهَقَ البَاطِلُ
إِنَّ البَاطِلَ
كَانَ زَهُوقاً))[الإسراء:81]،
((جَاءَ الحَقُّ
وَمَا يُبْدِئُ
البَاطِلُ وَمَا
يُعِيدُ))[سبأ:49]. وقد قال الله
تعالى:
((قُلْ إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ
رَبِّ العَالَمِينَ *
لاَ شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ
وَأَنَا أَوَّلُ
المُسْلِمِينَ))[الأنعام:162-163].
ولا يخفى على عاقل
مهتد عقله بنور
الشريعة أن الطواف
حول القبور والأضرحة،
والعكوف عندها، وسؤال
الموتى قضاء الحاجات،
وشفاء المرضى، أو
سؤال الله بهم، أو
بجاههم -مما أُحدِثَ
في الدين، وأن الطواف
الشرعي لا يكون إلا
حول الكعبة، وأن
النفع والضر والشفاعة
لله وحده، كما في
القرآن والسنة
والإجماع، وقد أبلغ
صلى الله عليه وسلم
الوحي الذي نزل عليه
من السماء في سورة
الجن مستجيباً لما
أُمِرَ به:
((قُلْ إِنِّي لاَ
أَمْلِكُ لَكُمْ
ضَراًّ وَلاَ رَشَداً
* قُلْ إِنِّي لَن
يُجِيرَنِي مِنَ
اللَّهِ أَحَدٌ
وَلَنْ أَجِدَ مِن
دُونِهِ مُلْتَحَداً
* إِلاَّ بَلاغاً
مِّنَ اللَّهِ
وَرِسَالاتِهِ))[الجن:21-23]؛
وهو من هو صلى الله
عليه وسلم فكيف
بغيره؟!! وهذا هو
الفرقان الذي يتميز
به أهل الإيمان عن
غيرهم، فكل من صرف
تعظيماً للمخلوقين
فإنما ينتقص من
عِظَمِ الخالق تبارك
وتعالى، وكل تذلل
للمخلوقين فهو ضعف
وجهل، وهذا باب من
الذل لا يخفى.
ومن الجفاء الذي يؤذي
النبي صلى الله عليه
وسلم ويخالف هديه
ودعوته، بل يخالف
الأصل الذي أرسله
الله به وهو التوحيد:
الغلو في النبي صلى
الله عليه وسلم ورفعه
فوق منزلة النبوة،
وإشراكه في علم
الغيب، أو سؤاله من
دون الله، أو الإقسام
به، وقد خاف النبي
صلى الله عليه وسلم
وقوع ذلك فقال في مرض
موته:
{لا تطروني كما أطرت
النصارى ابن مريم،
ولكن قولوا: عبد الله
ورسوله}.
ومعلوم أن النصارى
تعبد مع الله عيسى
ويسمونه: (الابن)،
تعالى الله عما
يقولون علواً كبيراً.
ودعاء النبي صلى الله
عليه وسلم من دون
الله عبادة له،
والعبادة لا تصرف إلا
لله وحده، وكذلك حذر
النبي صلى الله عليه
وسلم أن يتخذ قبره
عيداً ومزاراً؛ حيث
قال:
{لا تجعلوا قبري
عيداً، وصلوا عليّ
فإن صلاتكم تبلغني
حيث كنتم}.
ويبلغ الحد في
التنفير من الغلو في
ذاته صلى الله عليه
وسلم أن لعن الذين
اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد، فقال صلى الله
عليه وسلم:
{لعن الله اليهود
والنصارى؛ اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد}،
يحذر ما صنعوا.
ولما همَّ طائفة من
الناس بالغلو فيه
فقالوا: أنت سيدنا
وابن سيدنا، وخيرنا
وابن خيرنا، قال لهم
صلى الله عليه وسلم:
{قولوا بقولكم أو
ببعض قولكم، ولا
يستهوينكم الشيطان}.
ويلحق بالغلو فيه صلى
الله عليه وسلم الحلف
والإقسام به، فإنه من
التعظيم الذي لا يصرف
إلا لله وحده، وقد
قال صلى الله عليه
وسلم:
{من كان حالفاً
فليحلف بالله أو
ليصمت}.
ومجموع الأحاديث في
هذا الباب ميزان عدل
لا ينبغي الزيادة
عليها ولا النقص
منها، وكل متجرد للحق
يجد بغيته في تلك
النصوص، والله وحده
هو الموفق.
ومن الجفاء أيضاً:
ترك الصلاة عليه صلى
الله عليه وسلم لفظاً
أو خطّاً إذا مرّ
ذكره، وهذا قد يحدث
في بعض مجالسنا؛ فلا
تسمع مصلياً عليه صلى
الله عليه وسلم؛
فضلاً عن أن تسمع
مذكِّراً بالصلاة
والسلام عليه، وهذا
على حد سواء في
المجتمعات والأفراد،
وأي بخلٍ أقسى من هذا
البخل؟ وبهذا الجفاء
يقع الإنسان في أمورٍ
لا تنفعه في آخرته
ولا في دنياه، ومنها:
1- دعاء النبي صلى
الله عليه وسلم
بقوله:
{رَغِمَ أنفُ رجلٍ
ذُكِرْتُ عنده فلم
يصلِّ عليّ}.
2- إدراك صفة البُخل
التي أطلقها النبي
صلى الله عليه وسلم
حين قال:
{البخيل من ذُكِرت
عنده فلم يصلِّ
عليَّ}.
3- فوات الصلاة
المضاعفة من الله
عليه إذا لم يصلِّ
على النبي صلى الله
عليه وسلم وآله وسلم؛
فقد قال صلى الله
عليه وسلم:
{من صلى عليّ صلاة
صلى الله عليه بها
عشراً}.
4- فوات الصلاة من
الله والملائكة لتركه
الذكر النبوي، قال
تعالى:
((هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلائِكَتُهُ
لِيُخْرِجَكُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ))[الأحزاب:43].
5- فوات أثر الصلاة
على النبي صلى الله
عليه وسلم على من لم
يصلِّ عليه، كتفريج
الهموم وغفران
الذنوب. وفي حكم
الصلاة على النبي صلى
الله عليه وسلم عند
ذكره خلاف ليس هذا
مكان بسطه.
لكن من كان أحب إليك
من نفسك وأهلك ومالك
فكيف أنت عند ذكره؟
أو كيف أنت في الثناء
عليه والدعاء له؟
خيالُك في ذهني وذكرك
في فمي
ومثواكَ في قلبي فأين
تغيب؟
ورحم الله الشافعي إذ
يقول: (يُكرَه للرجل
أن يقول: قال رسول
الله، ولكن يقول:
رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم؛
تعظيماً لرسول الله
صلى الله عليه وآله
وسلم).
ومن الجفاء:
ما
يتقمصه الكثيرون على
اختلاف في النيات،
وتنوعٍ في صور
الجفاء، يجمعها عدم
معرفة قدر الصحابة
ومنازلهم وفضائلهم،
وهم الجيل الأغر، حظ
النبي صلى الله عليه
وسلم من الأجيال، وهو
حظهم من الأنبياء،
لهم شرف الصحبة كما
لهم نور الرؤية، ولذا
تزخر كتب السنة
المطهرة بأحاديث
الفضائل والتعديل
للأفراد وللعموم،
للمهاجرين والأنصار،
وما حظنا منها إلا
الفخر بذلك الجيل
الأشم، وفي آيات
التنزيل الثناء
والتفضيل، ومنها قوله
تعالى:
((وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ
المُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ
وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي
تَحْتَهَا
الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَداً ذَلِكَ
الفَوْزُ
العَظِيمُ))[التوبة:100]،
((لَقَد تَّابَ
اللَّهُ عَلَى
النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ
الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي
سَاعَةِ
العُسْرَةِ))[التوبة:117]،
((إِنَّ الَّذِينَ
يُبَايِعُونَكَ
إِنَّمَا
يُبَايِعُونَ اللَّهَ
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ فَمَن
نَّكَثَ فَإِنَّمَا
يَنكُثُ عَلَى
نَفْسِهِ وَمَنْ
أَوْفَى بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهُ
اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ
أَجْراً عَظِيماً))[الفتح:10]،
وفي آية أخرى يقول
تعالى:
((مِنَ المُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُم مَّن
يَنتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا
تَبْدِيلاً))[الأحزاب:23].
وكيف بمن ترك ماله
وولده؛ بل وخاطر
بنفسه ليهاجر
الهجرتين إلى الحبشة،
أو يهاجر إلى المدينة
مخلفاً حياة العز
الظاهر في مكة؟!
أَيُشَكُّ بعدُ في
إيمانه وصدقه
وإخلاصه؟!
وقد ألمح الله تعالى
إلى من خالف جماعة
المسلمين وشذ عنهم
وترك ما جاء به
الرسول صلى الله عليه
وسلم، أو أشار به أو
ألمح إليه، أو ما
أقامه صلى الله عليه
وسلم مقامه فقال
تعالى:
((وَمَن يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ
المُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ
مَصِيراً))[النساء:115].
وأما ما وقع بينهم من
الخلاف فهم بشر ليسوا
بمعصومين، ومَن نحن
حتى ننصب أنفسنا
حكاماً ومعدِّلين
لهم؟! فلتسلم ألسنتنا
كما تسلم قلوبنا،
وهذا هو المذهب
الأسلم والأحكم، ثم
إن (القدر الذي ينكر
من فعلهم قليل نزرٌ
مغمورٌ في جنب فضائل
القوم ومحاسنهم؛ من
الإيمان بالله
ورسوله، والجهاد في
سبيله، والهجرة
والنصرة، والعلم
النافع والعمل
الصالح، ومن نظر في
سيرة القوم بعلم
وبصيرة، وما منَّ
الله عليهم به من
الفضائل؛ علم يقيناً
أنهم خير الخلق بعد
الأنبياء، لا كان ولا
يكون مثلهم، وأنهم
الصفوة من قرون هذه
الأمة التي هي خير
الأمم وأكرمها على
الله).
كما ينبغي أن يعلم أن
جمهور الصحابة وجمهور
أفاضلهم لم يدخلوا في
فتنة، وقد ثبت بإسناد
قال عنه ابن تيمية:
(إنه من أصح إسناد
على وجه الأرض)، عن
محمد بن سيرين قال:
(هاجت الفتنة وأصحاب
رسول الله صلى الله
عليه وسلم عشرة آلاف،
فما حضرها منهم مائة،
بل لم يبلغوا
ثلاثين). ولعل حسنة
من أحدهم تعدل آلاف
الحسنات من غيرهم،
كما في النص الآتي
قريباً، ولعل العاقل
البصير المتجرد للحق
وللحق وحده أن يدرك
أن الله عز وجل لا
يختار لصحبة نبيه
وملازمته من كان
مفسداً للدين مُبغضاً
للنبي صلى الله عليه
وسلم، وقد سُئل
النصارى فقيل لهم:
مَنْ أفضلُ أهل
ملتكم؟ فقالوا: أصحاب
عيسى. وسئلت طائفة
ممن تنتسب للمسلمين:
مَنْ شرُّ أهل ملتكم؟
فقالوا: أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم!!
وطائفتان إحداهما
لمزت مريم عليها
السلام بالزنا،
والأخرى لمزت عائشة
رضي الله عنها
وأرضاها بالزنا!
فتأمل رحمك الله كيف
يجتمع الهوى والضلال
في تلك الطائفتين!!
وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
{لا تسبوا أصحابي؛
فإن أحدكم لو أنفق
مثل أُحُدٍ ذهباً ما
بلغ مُدّ أحدهم ولا
نصيفه}.
ولك أن تنظر في الذب
عن الصحابة حينما دخل
عائذ بن عمرو على
عبيد الله بن زياد،
-كما روى مسلم- فقال:
إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول:
{إن شر الرعاء
الحُطَمة }
فإياك أن تكون منهم،
فقال: اجلس فإنما أنت
من نخالة أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم.
قال: وهل كان لهم أو
فيهم نخالة، إنما
كانت النخالة بعدهم
وفي غيرهم). وصدق
رضي الله عنه
وأرضاه..
أجدُ الملامة في هواك
لذيذةً حباً لذكرك فليلمني
اللوَّمُ
ويأتي في النهاية ما
قد يكون السبب في
التزام الجفاء
والتقنع به وهو
الحساسية المفرطة من
بعض المنتسبين إلى
السنة والجماعة، حيال
كل ما يتصل بتعظيم
النبي صلى الله عليه
وسلم وتقديره وتعظيم
أهل بيته الصالحين،
سواء عند ذكره أو
ذكرهم، أو القصد إلى
ذكره أو ذكرهم، خشية
التشبه ببعض الطوائف،
وهذا قصد في غير
محله، وهذا التعظيم
للنبي صلى الله عليه
وسلم لا يُقصد به
الخروج عن التعظيم
الشرعي الوارد في
الكتاب والسنة، ولا
الاحتفال بالموالد،
ولا التواجد عند
السماع، أو التلذذ
بالمدائح وحدها،
وضابط ذلك التعظيم ما
كان عليه النبي صلى
الله عليه وسلم
وأصحابه، ومعرفة
المحب الصادق من غيره
في الاتباع، ومن إذا
ذكرت له هدي رسول
الله صلى الله عليه
وسلم امتثله، وانتهى
عما أحدثه في الدين،
ومن إذا ذكرت له
السُّنَّة تركها
واتبع هواه.
وقد يحتاج هذا الكلام
-أعني الحساسية
المفرطة- إلى توضيح
بالمثال؛ فلا زلت
أذكر أحد أهل العلم
ممن له حضور في
الساحة الدعوية، وكان
كثير الصلاة والسلام
على النبي صلى الله
عليه وسلم في دروسه
ومحاضراته وأشعاره،
فكان يُنتقد من بعض
المتعلمين بسبب ذلك!
وأين هم من حديث
أُبَيُّ بن كعب رضي
الله عنه:
{أجعل لك صلاتي كلها}،
وقد يقول بعضهم:
إن الجافي ترى عنده
رقة في الدين وضعفاً
في اليقين، بخلاف
المحب الصادق؛ فإن
عنده رقة للدين وقوة
في اليقين. وماذا
يضير الإنسان إذا كان
مقتدياً بالسنة
المطهرة أن يُصَنَّف
أي تصنيف؟ أيُلام
المحب على محبة النبي
صلى الله عليه
وسلم؟!! أي شرف هذا
الشرف؟ وأي عز هذا
العز؟
ولئن نطقتُ بحبهم فلي
في الصالحين قبلي سلف
وقدوة..
لا بد للعاشق من
وقفةٍ
ما بين سلوانٍ وبين
غرام
وعندها ينقل
أقدامه إما
إلى خلفٍ وإما أمام
وليمتثل القارئ
الكريم بهذا العنوان
الجميل لحياة المحب
الصادق..
ومن عجبٍ أني أحنُّ
إليهم وأسأل شوقاً عنهم
وهمُ معي
وتطلبهم عيني وهم في
سوادها ويشكو النوى قلبي وهم
بين أضلعي
والزم -رعاك الله-
الحقَّ، وإن كنت
وحدك؛ فلا بد من
أُنْسٍ وإن طال
الطريق وكثر قُطّاعه،
والله وحده هو
الهادي.
|