الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
العيدُ هو موسمُ الفرحِ والسرورِ، وأفراحُ المؤمنين وسرورِهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا بإكمالِ طاعتِه، وحازوا ثوابَ أعمالِهم بوثوقهم بوعدِه لهم عليها بفضلِه ومغفرتِه، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
و(سُمي العيدُ بهذا الاسم لأن لله تعالى فيه عوائدَ الإحسانِ، أي أنواعُ الإحسانِ العائدةُ على عبادةِ في كلِّ يومٍ، منها: الفطرُ بعد المنعِ عن الطعامِ، وصدقةِ الفطر)([1]).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكرٍ إن لكلِّ قوم ٍعيدًا، وهذا عيدُنا)([2]).
والمسلمون ليسَ لهم إلا عيدان: عيدُ الفطر، وعيدُ الأضحى . فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اَللَّه صلى الله عليه وسلم اَلْمَدِينَةَ, وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا. فَقَالَ: (قَدْ أَبْدَلَكُمُ اَللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ اَلْأَضْحَى, وَيَوْمَ اَلْفِطْرِ)([3]).
وللعيدُ مغزى اجتماعيٌّ وإنسانيٌّ: أما مغزاه الاجتماعيُّ فهو ما يضيفُه على القلوبِ من أنسٍ، وعلى النفوسِ من بهجة وعلى الأجسامِ من راحة، وما يدعو إليه من تجديدِ أواصرَ الحبِّ بين الأصدقاءِ، والتراحمِ بين الأقرباء.
ففي العيد تتقاربُ القلوبُ على الود، وتجتمعُ على الألفةِ، ويتناسى الناسُ أضغانَهم، يجتمعون بعد افتراقٍ، ويتصافون بعد كدرٍ.
ومن المغزى الاجتماعي في العيدِ تذكيرُ أبناءِ المجتمعِ بحق الضعفاءِ والعاجزين عليهم حتى تشملَ الفرحةُ بالعيد كل بيتٍ، وتعمُّ النعمةُ كلَّ أسرة، وإلى هذا المغزى الاجتماعي العظيمِ يرمزُ تشريعُ (صدقة الفطر) في عيدِ الفطرِ، ونحو (الأضاحي) في عيدِ الأضحى، إن في تقديمِ صدقةِ الفطرِ ليلتَه إطلاقًا للأيدي الخيِّرة، فلا تشرقُ شمسُ العيد إلا والبسمةُ تعلو شفاهَ الناسِ جميعًا.
أما المعنى الإنسانيُّ في العيدِ؛ فهو أنه يُشرِكُ أعدادًا لا حصرَ لها من أبناء الشرقِ والغربِ بالفرح والسرورِ في وقتٍ واحد، فإذا بالأمةِ تلتقي على الشعورِ المشتركِ بالغبطةِ، وإذا بأبناءِ الأمةِ الواحدةِ على اختلاف ديارِهم يشتركون في السراءِ كما يشتركون في الضراءِ، ففي العيدِ تقويةٌ لهذه الروابطِ الفكريةِ والروحيةِ التي يعقدُها الدينُ بين أبناءِ مختلفِ اللغاتِ والأقوامِ.
وإذا أردنا أن نكونَ مع النبي صلى الله عليه وسلم يومَ العيدِ، فهذه جملةٌ من هديه صلى الله عليه وسلم لنقتدي بها:
كان صلى الله عليه وسلم يلبسُ في العيدينِ أحسنَ ثيابِه كما قال ابن عمر([4]). وعن جابر رضي الله عنه قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبةٌ يلبسها في العيدينِ ويومِ الجمعة([5]).
فينبغي للرجلِ أن يلبسَ أجملَ ما عنده من الثيابِ عند الخروجِ للعيد.
أما النساءُ فيبتعدنَ عن الزينةِ إذا خرجن؛ لأنهن منهياتٌ عن إظهارِ الزينةِ للرجالِ الأجانب، وكذلك يحرمُ على من أرادت الخروجَ أن تمسَّ الطيبَ أو تتعرضَ للرجالِ بالفتنة، فإﻧﻬا ما خرجتْ إلا لعبادةٍ وطاعةٍ .. أفتُرَاهُ يصحُّ من مؤمنةٍ أن تعصيَ من خرجت لطاعتِه، وتخالفَ أمرَه بلبس الضيقِ والثوب الملون الجذابِ اللافت للنظرِ، أو مس الطيبِ أو نحوه؟!
ومن آداب العيد الاغتسالُ قبل الخروج للصلاة، فقد صحَّ في الموطأ وغيره أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما - كان يغتسلُ يومَ الفطرِ قبلَ أن يغدوَ إلى المصلى([6])، وذكر النووي رحمه الله اتفاقَ العلماءِ على استحبابِ الاغتسالِ لصلاة العيد.
والمعنى الذي يُستحبُّ بسببه الاغتسالُ للجمعةِ وغيرها من الاجتماعاتِ العامةِ موجودٌ في العيد، بل لعله في العيدِ أوضح.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يخرجُ في عيد الفطرِ إلى الصلاةِ حتى يأكلَ تمرات؛ لما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ لا يغدو يوم الفطرِ حتى يأكلَ تمراتٍ([7]).
ويحرمُ صومُ يومي العيدينِ؛ لحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيامِ يومين: يومِ الفطر، ويومِ النحر([8]).
وكان صلى الله عليه وسلم يخرجُ للصلاةِ، ويأمر الرجالَ والنساءَ بالخروج، لقول أُمِّ عَطِيَّةَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِى الْفِطْرِ وَالأَضْحَى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاَةَ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ.، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَانَا لاَ يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ، قَالَ: (لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا). والعواتِقُ جمع عاتق، وهي الأنثى أولُ ما تبلغُ، والتي لم تتزوجْ بعد، والخدورُ: البيوتُ، وقيل: الخِدْرُ: سترٌ يكون في ناحيةِ البيت([9]).
فما دامت الحُيَّض والعواتق، وذوات الخدور قد أُمِرن أن يخرجنَ لصلاةِ العيدِ؛ فلا شكَ أن من الأولى أن يؤمرَ الرجالُ شيبًا وشبابًا بالخروج لها، بل قد ذهبَ بعضُ أهلِ العلم إلى وجوبِ الخروج لصلاةِ العيد؛ لهذا الحديث، ولغيره من الأدلة؛ كقول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15]، قال بعضهم: المقصودُ في هذه الآية صلاةُ العيد.
وعن حكمةِ الصلاةِ في المصلى يقولُ الألباني رحمه الله: (إن هذه السنةِ ـ سنة الصلاة في الصحراء ـ لها حكمةٌ عظيمةٌ بالغةٌ: أن يكونَ للمسلمينِ يومان في السنةِ، يجتمعُ فيها أهلُ كلِّ بلدةٍ، رجالًا ونساء وصبيانًا، يتوجهون إلى الله بقلوبِهم، تجمعهم كلمةٌ واحدةٌ، ويصلونَ خلفَ إمامٍ واحدٍ، ويكبرون ويهللون، ويدعون الله مخلصينَ، كأنَّهم على قلبِ رجلٍ واحدٍ، وقد أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بخروجِ النساءِ لصلاةِ العيدِ مع الناسِ ولم يستثنِ منهنَّ أحد، حتى أنه لم يرخصْ لمن لم يكنْ عندها ما تلبسُ في خروجها، بل أمر أن تستعيرَ ثوبًا من غيرها، وحتى أنه أمر من كانَ عندهن عذرٌ يمنعهن من الصلاةِ بالخروجِ إلى المصلى (ليشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين)([10]).
وكان صلى الله عليه وسلم لا يصلي نافلةً قبلَ صلاةِ العيدِ ولا بعدها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرجَ يومَ العيدِ، فصلى ركعتين، لم يصلِّ قبلهما ولا بعدهما([11]).
إلا إن صلى الناسُ العيدَ في المسجدِ فلابد ـ حينئذ ـ من صلاةِ ركعتينِ تحيةً للمسجد.
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ثم يخطبُ في الناسِ، كما ثبت في الصحيحينِ من حديثِ ابن عمر، وأبي سعيد، وابن عباس رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى قبلَ الخطبة([12]).
ويستحبُ للإمامِ أن يكبرَ في الصلاةِ سبعًا في الأولى، وخمسًا في الثانية، فقد ثبتَ هذا عن جماعة من الصحابةِ، والتابعين؛ كعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وأبي هريرةَ وابنِ عباس وأبي سعيدٍ الخدري، وأبي أيوب الأنصاري، وزيدِ بن ثابت رضي الله عنهم، وغيرهم.
وكان صلى الله عليه وسلم يخالفُ الطريقَ في الذهابِ والإيابِ إلى المصلى، عن جابر رضي الله عنه قال: (كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا كانَ يومُ عيد خالفَ الطريق)([13]).
ومن آدابِ العيد التهنئةُ التي يتبادلها الناسُ فيما بينهم، أيًّا كان لفظُها، مثل قول بعضهم لبعض: عيدُكم مبارك، تقبَّلُ الله منا ومنكم. وما أشبه ذلك من عباراتِ التهنئةِ المباحة.
والتهنئةُ كانت معروفةٌ عند الصحابةِ، ورخّصَ فيها أهلُ العلم، كالإمام أحمد وغيره، وقد ورد ما يدل عليه؛ من مشروعيةِ التهنئةِ بالمناسبات، وﺗﻬنئةِ الصحابةِ بعضهم بعضًا عند حصول ما يسُرُّ، مثل: أن يتوبَ الله تعالى على امرئٍ؛ فيقومون بتهنئتِه بذلك، إلى غير ذلك. والآثارُ المنقولةُ عن الصحابة التي يحتج ﺑﻬا على أنه لا بأس أن يهنئَ الناسُ بعضهم بعضًا بالعيدِ آثارٌ عديدة.
ولا ريبَ أن هذه التهنئةَ من مكارمِ الأخلاقِ، ومحاسنِ المظاهرِ الاجتماعيةِ بين المسلمين.
ومن أرادَ معرفةَ أخلاقِ الأمةِ فليراقبْها في أعيادِها إذ تنطقُ فيها السجايا على فطرتها، وتبرزُ العواطفُ والميولُ على حقيقتِها، والمجتمعُ السعيدُ هو الذي تسمو أخلاقُه في العيدِ إلى أرفعِ ذروتها، ويمتدُ شعورُه إلى أبعدِ مدى.
يوم كانتْ أمتُنا تتذوقُ طعمَ السعادةِ في مجتمعاتنا، كان الأخُ يفكر في ليلةِ العيدِ بجارِه قبل أن يفكرَ بنفسه، ويقدمُ حاجةَ أولادِ صديقه على حاجةِ أولاده، هذا هو التعبيرُ الصادقُ عند سموِّ الأخلاقِ الاجتماعيةِ في كل أمة.
almagdy3@gmail.com
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.