النبي صلى الله عليه وسلم بعد رمضان

النبي صلى الله عليه وسلم بعد رمضان





الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ كانَ عملُ النبي صلى الله عليه وسلم ديمةً، وأحبُّ الأعمالِ إليه أدومُه وإن قلَّ، ولهذا شرعُ صيامُ ستًّا من شوال، وكوفئ العبدُ عليها بأن كانت في الثوابِ كصيام الدهرِ كله.
 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)([1]).
قال العلماء: وإنما كانَ ذلك كصيامِ الدهر؛ لأن الحسنةَ بعشرِ أمثالها، فرمضان بعشرةِ أشهر، والستة بشهرين، والسرُّ من وراءِ هذا الثواب العظيم أفشاه الإمام المناوي حين قال: (خصَّ شوالَ لأنه زمن يستدعي الرغبةَ فيه إلى الطعامِ لوقوعه عقبَ الصومِ، فالصومُ حينئذ أشقُّ، فثوابه أكثر)([2]).
ولا يلزم في صيام أيامِ الستِّ أن يكونَ متتاليًا ولا أن يعقبَ يوم عيد الفطرِ مباشرة، بل يمكن صيامُها بعده متتابعاتٍ أو متفرقات، ولكنَّ الأفضل أن تصامَ متتاليةً كما قال الإمام النووي.
وصيامُ الستِّ هي من علاماتِ القبولِ، من عمل طاعةً من الطاعاتِ وفرغَ منها فعلامةُ قبولِها أن يصلَها بغيرها، وعلامة ردِّها أن يُتبِعها بمعصيةٍ، فهذه علامةُ القبولِ ونيلُ رضا رب العباد، وعلامةُ أن الله قبل كلَّ مجهودٍ بذلتَه في رمضان، وإلا كان عملك مردودًا وسعيك خائبًا.
ولقد علَّم النبيُ صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب؛ أن يقول: (قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ)([3]).
أي وتذكرُ حالَ دعائِك: الهدايةَ والسَّداد. 
فالهدايةُ علمٌ: أما (اهدني): فتفهم ما تقولُ وتتدبرُ ما تدعو به، وتدركُ قربَك أو بعدَك عن الاستقامةِ، وتعرف جيدًا محطة الوصول، لأن هاديَ الطريقِ لا يضلُّ عنه أو يزيغ، واستحضار هذا المعنى في قلبكِ يجعل الخشوعَ أقرب، وإجابةَ الدعاءِ أرجى ورحمة الله أدنى.
والسدادُ عزمٌ وعملٌ: (وسدِّدني): والتسديدُ أن تقومَ إرادتُه وحركتُه نحو الغرضِ المطلوب ليهجمَ إليه في أسرعِ مدةٍ يمكن الوصول فيها إليه كما أن مُسدِّدَ السهمِ يحرصُ على تقويمه حتى يستقيمَ، رميُه ويصيبَ هدفُه، وحين يتشرَّبُ قلبك هذا المعنى يكون عملَك مفعمٌ بالعزيمة، وإرادتك متشبعةٌ بالقوة، فيلبي الله طلبَك ويجيبُ دعاك.
  وهكذا كان رمضانُ بابًا من أبوابِ الخير التي فُتِحت لك، فإن اغتنمتَه بحقٍّ فتح الله لك أبواب الطاعاتِ بعدَه، وإن انقطعت عما واظبت عليه في رمضان، فهذه علامةٌ على أنك لم تنهلْ من رمضان كما ينبغي، فقيِّم نفسكَ اليوم، واعرف نتيجةَ سعيِك الرمضاني بحسبِ حالِك بعده، واسمع عقوبةَ مبدِّلِ نعمةِ الصومِ كفرًا إذا ارتدَّ على عقبيه بعد رمضان.
قال ابن رجب: (فأما مقابلةُ نعمةِ التوفيقِ لصيام شهر رمضان بارتكابِ المعاصي بعده، فهو من فعلِ
من بدلَ نعمةَ اللهِ كفرًا)([4]).
يقول سبحانه وتعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل : 92].
قال قتادةُ: فلو سمعتم بامرأةٍ نقضت غزلَها من بعدِ إبرامِه لقلتم: ما أحمقَ هذه! وهذا مثلٌ ضربَه الله لمن نكثَ عهدَه.
والنكثُ حقيقتُه نقضُ المفتولِ من حبلٍ أو غَزْلٍ، واستعير النكثُ لعدمِ الوفاءِ بالعهدِ، كما استعير الحبلُ للعهدِ.
فمثل منْ ينقضُ العهدَ مثل امرأةٍ حمقاءٍ ضعيفةِ العزمِ والرأي، تفتلُ غزلَها ثم تنقضُه، وهو تشبيهٌ يفيضُ بالتحقيرِ والترذيلِ والتعجبِ، ويشوِّه الأمرَ في النفوسِ ويقبِّحه إلى القلوبِ، وهو مرادُ الله في هذه الآية، ليردعَ عبادهُ عن هدمِ ما بنوه وإلا ضاعتْ أعمارُهم!
(وما يَرضى إنسانٌ كريمٌ لنفسِه أن يكونَ مثلُه كمثلِ هذه المرأةِ الضعيفةِ الإرادةِ الملتاثةِ العقل، التي تقضي حياتَها فيما لا غناءَ فيه!)([5]).
وإياك أن تعاملَ ربك معاملةَ التجارِ.. فتنشطُ في مواسمِ الأرباحِ فحسب!!
لكن قد يتعاملُ جمعٌ من الناسِ مع رمضانَ خارج إطارِ الزمنِ؛ فلا يصلونه بإخوانِه من شهورِ العام، ولا يرونَ أنه حلقةٌ في سلسلةِ الزمانِ المبارك، فينظرون إليه على أنه مجرَّدُ فرصةٍ لاكتنازِ الثوابِ والعبِّ من الحسنات، ويا ليتهم مع هذا يجتهدونَ في الحفاظِ على ما اكتسبوه منه، بل يسمحونَ للشياطينِ أن تسرقَ إيمانَهم وتسطو على حسناتِهم، فيرجعونَ بالإفلاسِ آخرَ العامِ بعد أن كانوا أغنى الأغنياءِ أوله، ذلك أنهم ظنوا أن مهمةَ الشهرِ قد انتهت بانتهائِه، وهي بالكادِ بدأت!!
ففي رمضانَ ها هو قد لانَ قلبُك، حضرُ دمعُك، خشعت جوارحُك، انتسبت إلى العُبَّادِ، تأدبتَ مع ربِّ العباد، وصارت الفرصةُ سانحةً أكثر من أي وقتٍ مضى لتدركَ الهدايةَ الدائمةَ وتحظى بكنزِها المنشود، والثمنُ: ثباتٌ في شوالَ، وإكمالُ الستين يومًا إلى التسعين.
أخي، إنما هو صبر أيامِ معدوداتٍ، وصدِّقني بعدها العجبُ العجابُ، وظهورُ المعجزات وروعةُ التحولاتِ وإعلانُ ميلادِك الجديدِ، صبر هذه الأيام التسعينَ يعني اللحاق بقطارِ المتقين، إن طولَ فترة التغييرِ يؤدي إلى دوامِ التغيير وثباتِه، وفرصتك اليوم قد لا تتكرر، وإلا فأخبرني:
من يضمن لك الحياةَ لا أقولُ لكَ إلى العامِ المقبل بل إلى يومِ غد!!
من يفاوضُ ملكَ الموتِ عنك على تمديدِ أجلِك وتأخيرِ قبضِ روحك؟!
من أعطاكَ الأمانَ من نزولِ الموت؟!
فالآن الآن يا أخي، وإلا فإنما تقامر بعمرك!!
وإياك وروغان الثعالب: فحين يصل العبد الرباني إلى شطِّ الاستقامةِ يعلمُ أن الله قد استجابَ دعاءَه الذي ردَّدَه سبعَ عشرةَ مرةٍ في اليومِ والليلةِ وفي أشرفِ المواضع: صلاتِه، حين قرأ في فاتحة الكتاب: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}  [الفاتحة : 6].
أما تكرارُ هذا الدعاءُ باللسانِ بلا استقامة أحوالٍ وأفعالٍ فهو كوعدِ المنافق، لسانٌ حلو وعملٌ مُر!
يعطيك من طرفِ اللسانِ حلاوةً ويروغ منكَ كما يروغ الثعلبُ، قال عمر بن الخطاب وهو يعرِّف معنى الاستقامةِ ويحدِّدُ شروطَها: أن تستقيمَ على أمرِ اللهِ ولا تروغُ روغانَ الثعالب.
يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}  [فصلت : 30 - 32].
(إنهم المؤمنون، الذين قالوا: ربُّنا الله ثم استقاموا على الطريقِ إليه بالإيمانِ والعملِ الصالحِ والاستقامة عليها بحقها وحقيقتِها، الاستقامة عليها شعورًا في الضميرِ، وسلوكًا في الحياة، الاستقامةُ عليها والصبرُ على تكاليفها، أمرٌ ولا شك كبيرٌ، وعسيرٌ، ومن ثم يستحقُّ عند الله هذا الإنعامُ الكبير، صحبةَ الملائكةِ، وولاءِهم، ومودتِهم، وهم يقولونَ لأوليائهم المؤمنين: لا تخافوا، لا تحزنوا، وأبشروا بالجنةِ التي كنتم توعدونَ، نحن أولياؤكم في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ، ثم يصورون لهم الجنةَ التي يوعدون تصويرَ الصديقِ لصديقِه ما يعلمُ أنه يسره علمَه ورؤيتَه من حظه المرتقب: لكمْ فيها ما تشتهي أنفسُكم ولكم فيها ما تدعونَ، ويزيدونُها لهم جمالًا وكرامة: نزلًا من غفورٍ رحيمٍ، فهي من عند اللهِ أنزلَكم إياها بمغفرتِه ورحمتِه، فأيُّ نعيمٍ بعد هذا النعيم؟)([6]).
وهاهو الصحابيُّ الجليلُ عبد الله بن حذافةَ السهمي يرسمُ لنا نموذجًا من الاستقامةِ مع أنه يتعرضً لأشدِّ أنواعِ الابتلاءِ والمحنِ لكنه يثبتُ ويصبر حتى يبلغَه الله منزلةً عليا عنده سبحانه وتعالى: ففي إحدى المعاركِ التي خاضها جيشُ الإسلام على مشارفِ (قيسارية)، تكاثرتْ من حولِ عبد الله بن حذافة صناديدُ الروم؛ فاقتادوه أسيرًا إلى معسكرِهم، وجيء به وقد أثقلتْه القيودُ بين يدي ملكِ الروم.
قال الملكُ ـ وقد عرف مكانة عبد الله في المسلمين ـ: يا عبدَ الله، هل لك أن تتنصَّر فأقربُك مني, وأزوجُك ابنتي؟ فيجيبه الصحابي المؤمن: فإن لم أفعل ذلكَ؟ قال الملك: الآن ترى.
وأمرَ بِه فصلبَ، وأمر أحدَ رماتِه المهرة, فرماه بسهمينِ أحاطا برأسِه, عن يمينٍ وعن شمالٍ، ثم اقتربَ الملك من عبدِ الله وقال: أفلا تجيبني إلى ما دعوتُك فتنجو بنفسِك؟ فيجيبه عبد الله: فإنْ لم أفعل؟ فيتمعرُ وجهُ الملك غضبًا ويقول: الآن ترى.
ويأمر بقدرٍ يغلي فيه الماءُ حتى يفور، ثم يؤمرُ بأسيرِ فيقذفُ في القدرِ؛ فإذا عظامُه تلوحُ، ثم يقتربُ من عبد الله بن حذافة فيقول: أفلا تجيبني إلى ما دعوتُك فتنجو بنفسِك؟ فيجيبه عبد الله: فإنْ لم أفعل؟ فيشتط الغضبُ بملك الروم، ويأمرُ بقذفه في الماء المغلي.
فيقتاده الجندُ، فيبكي عبد الله؛ فتنفرجُ أساريرَ الملكِ عن بسمةٍ شامتةٍ, وقد ظنَّ أن عبدَ الله يبكي جزعًا من الموتِ، فيصيحُ الملك في جندِه أن يردوه.
ويسأله شامتًا: أما كنت في غِنىً عن كلِّ هذا، لو أنك أجبتني إلى ما عرضتُه عليك؟ فيجيبه الصحابي المؤمن: كأنَّك أيها الملك، ظننتني بكيتُ جزعًا من الموتِ, لا والله، ما بكيتُ جزعًا من الموتِ؛ ولكنني تذكرتُ أن ليسَ لي إلا نفسٌ واحدة, أموت بها هذه الميتةَ في سبيلِ الله، وقد كنت أتمنى أن تكونَ لي ألفُ نفسٍ تموتُ هذه الميتةَ في سبيل الله، لا كما ظننت.
 ويعجبُ الملكُ بشجاعةِ عبد الله, ويميلُ إلى أن يطلقَ سراحَه، فيقول له: أتُقبِّلُ رأسي؛ وأطلق سراحَك؟ فيجيب الصحابي المؤمن: لا أفعلُ، فيقول الملك: وأطلق معك ثمانينَ أسيرًا من قومك؟
 ويطرق الصحابي هنيهة، فلا يرى بأسًا أن يقبل رأسَ ملكِ الروم إذا كان في ذلك فَكُّ إخوانِه من الأسرى، فيقول للملك: أما هذه فنعم, ويتقدمُ منه, ويُقبِّلُ رأسَه، ويعود عبد الله بن حذافة السهمي والأسرى إلى المدينة، فلما رآه عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه احتضنَه وقبلَّ رأسَه.
 وكان أصحابُ رسول الله صلوات الله وسلامُه عليه يمازحونَ عبد الله فيقولون له: تُقبِّلُ رأسَ عِلج([7]) يا عبد الله؟ فيجيبهم: ما ضرني ما فعلتُ، وقد أطلق الله بتلك القبلةِ ثمانين أسيرًا من المسلمين، رضي الله عن عبد الله بن حذافة وأرضاه)([8]).
وهذه بعض الخطوات على طريق العمل:
اجبر كسر الفريضة: فالستُّ من شوال تقومُ مقامَ النافلةِ في جبرِ كسرِ الفريضة، فكلُّ ما خدش صيامَك الرمضاني من حرامٍ تجبرُه ستٌ من شوالَ، ومن منا صيامُه غيرُ مخدوشٍ؟! فهي كصلاة السنن تُكمِل بها ما حصلَ في الفرضِ من خللٍ ونقص.
خطِّط لخاتمتك: ولك أن تنوي بمداومة صومِك بعد رمضان أنك تخطِّط للموتِ صائمًا فمن عاشَ على شيءٍ ماتَ عليه، وكان ممن خُتِم له شهيدًا صائمًا: عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فعن ابن عمر أن عثمانَ أصبح يُحدِّث الناسَ قبل موتِه بيوم: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلةَ في المنام، فقال: يا عثمان، أفطر عندنا غدًا، فأصبح صائمًا وقُتِل من يومه.
نشِّط صيامك: فإذا جعلتَ من نوايا صومِك أن صيامَ ستٍ من شوال هو بمثابةِ جرعةٍ تنشيطيةٍ لازمةٍ لإطالةِ أثر الصيامِ الرائعِ، كان عملُك أعظم أجرًا وصومك أعمق أثرًا، وكما يأخذُ الطفلُ التطعيمَ ضدَّ مرضٍ من الأمراضِ، فكذلك هذه الجرعة الصيامية تجعلُ الصومَ أقوى مفعولًا في تطهيرِ القلب وإحداث التقوى.
 
almagdy3@gmail.com 
 
الهوامش:

([1]) رواه مسلم، (2815).

([2]) فيض القدير، المناوي، (6/208).

([3]) رواه مسلم، (7086).

([4]) لطائف المعارف، ابن رجب، (285).

([5]) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4 / 486).

([6]) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6 / 295).

([7]) العلج: هو القويّ الضخم من الكفار.

([8]) الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر، (2/296)، وسير أعلام النبلاء, الذهبي, (2/15).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
النبي صلى الله عليه وسلم بعد رمضان.doc doc
النبي صلى الله عليه وسلم بعد رمضان.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى