قيام النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

قيام النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان





الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي

إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرَغِّبُ في قيامِ رمضانَ من غيرِ أن يأمرَهم بعزيمته ثم يقول: (من قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفرَ لهُ ما تقدمَ من ذنبِه)([1]).

قال الألباني: (هذا الترغيبُ وأمثالُه بيانٌ لفضلِ هذه العباداتِ، بأنه لو كان على الإنسانِ ذنوبٌ تغفرُ له بسببِ هذه العبادات، فإن لم يكنْ للإنسانِ ذنبٌ، يظهر هذا الفضلُ في رفعِ الدرجاتِ كما في حقِّ الأنبياءِ المعصومين من الذنوبِ)([2]).

وعلى الدربِ سار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان إذا دخلَ أولُ ليلةٍ من رمضانَ يصلي المغربَ ثم يقول: (أما بعدُ، فإن هذا الشهر كُتبَ عليكم صيامَه، ولم يُكتبْ عليكم قيامَه، فمن استطاعَ منكم أن يقومَ فلْيقمْ، فإنها نوافلُ الخير التي قال الله)([3]).

وقيامُ رمضانَ من علامةِ الصديقين والشهداء، جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن شهدتُ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليتُ الصلواتِ الخمس، وأديتُ الزكاةَ، وصمتُ رمضانَ وقمتُه، فَمِمَّنْ أنا؟ قال: (من الصديقينَ والشهداءِ)([4]).

تأملْ: ما الذي زادَه الصحابيُّ الجليلُ على أركانِ الإسلامِ الخمسةِ حتى يستحقَّ بهذه الزيادةِ اسمَ الصديقينَ والشهداءِ؟ إنه قيامُ رمضان.

ومن قامَ مع إمامِه كُتب له قيامُ ليلة: جاء في حديثِ أبي ذرٍّ قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الرجلَ إذا صلى مع الإمامِ حتى ينصرفَ حُسبَ له قيامُ الليلة)([5]).

قال الألباني: والشاهدُ من هذا الحديث قوله: (من قام مع الإمام ...) فإنَّه ظاهرُ الدلالةِ على فضيلةِ قيامِ رمضان مع الإمامِ)([6]).

فأقبِل على صلاةِ الليلِ يُقبلُ اللهُ عليك، وانظرْ إلى سلفِك من الصحابةِ وسِرْ على دربِهم.

وواللهِ ما صلاحُ الأجسادِ إلا بانتصابِها في القيام، وهو شفاءٌ من أمراضِ الأجسادِ والقلوبِ ورفعةٌ للدرجاتِ عند علامِ الغيوبِ، وهذا طريق الصالحينَ من قبلنا.

قال صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ)([7]).

ومن الناس من ينضمُ إلى زمرة المقنطرين، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطَرِينَ)([8]).

وقوله من المقنطرينَ، أي: ممن كتبَ له قنطارٌ من الأجرِ، والنقطارُ خيرٌ من الدنيا وما فيها.

وما أعظمَ ما أعده الله للمتهجدين، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17].

قال ابن كثير في تفسيره: (يعني بذلكَ قيامَ الليلِ وتركَ النومِ والاضطجاعَ على الفرشِ الوطيئةِ)([9]).

ولذا جاء في صفة أهل الجنة: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18]. قال الحسن البصري: كابدوا الليلَ، ومدّوا الصلاةَ إلى السحرِ، ثم جلسوا في الدعاءِ والاستكانةِ والاستغفارِ.

كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يدعُ القيامَ مهما اشتد به المرضُ أو شغلته الظروفُ.. قالت عائشة رضي الله عنها لعبدِ الله بن أبي قيس: (لا تَدَعْ قيامَ الليلِ، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان لا يَدَعُه، وكان إذا مرضَ أو كسلَ صلى قاعدًا) ([10]).

وعلَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن القيامَ لونٌ من ألوان شكرِ النعمةِ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ يقوم من الليلِ حتى تتفطرَ قدماه. فقلت له: تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفر لك ما تقدمَ من ذنبِك وما تأخرَ؟ قال: (أَفَلا أكون عبدًا شكورًا؟)([11])، دلالةٌ على أن الشكرَ لا يكون باللسانِ فحسب، وإنما يكون بالقلبِ واللسانِ والجوارحِ، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم القدوةَ العليا والنموذجَ الأكملَ، فقام النبيُّ بحق العبوديةِ لله والشكرِ له على وجهِه الأكملِ وصورتها الأتم.

وكان يوقظُ من يحبُّ للقيامِ: عن الحسن بن علي بن أبي طالب أن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَرَقَه وفاطمةَ بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقال: ألا تصليانِ؟ فقلت: يا رسول الله أنفسنَا بيدِ الله، إن شاء أن يبعثَنا بعثنا، فانصرفَ حين قلتُ ذلك، ولم يرجعْ إلىَّ شيئًا، ثم سمعته يقول وهو مولٍّ، يضربُ فخذه وهو يقول: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54].

قال الطبري معلقًا: لولا علمُ النبي صلى الله عليه وسلم من عظمِ الصلاةِ في الليل، ما كان يزعجُ ابنتَه وابنَ عمه في وقتٍ جعله الله لخلقِه سكنًا، لكنَّه اختارَ لهما إحرازَ تلك الفضيلةِ على الدعةِ والسكونِ، امتثالاً لقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

وكان صلى الله عليه وسلم لا يقومُ الليلَ كلَّه، بل كان يخلطُه بقراءةِ قرآنٍ وغيره، قالت عائشة رضي الله عنها: (ولا أعلمُ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قرأَ القرآنَ كله في ليلةٍ، ولا قامَ حتى أصبحَ، ولا صامَ شهرًا كاملًا غير رمضان)([12]).

وفي ذلك إراحةٌ للجسدِ وتنشيطٌ للنفسِ، وقيامٌ بحقِّ الأهلِ، وضمانٌ لديمومةِ الاستمرارِ في دروبِ الطاعةِ، إذ القليلُ الدائمُ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من الكثيرِ المنقطعِ.

وكان صلى الله عليه وسلم يطيلُ القيامَ، كما يدل لذلك قولَ أمِّ المؤمنينَ عائشة رضي الله عنها حين سئلت: كيف كانت صلاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضانَ؟ فقالت: (ما كان يزيدُ في رمضانَ ولا في غيره على إحدى عشرةَ ركعةٍ: يصلي أربعًا فلا تسلْ عن حسنِهنَّ وطولِهنَّ، ثم يصلي أربعًا فلا تسلْ عن حسنِهنَّ وطولِهنَّ، ثم يصلي ثلاثًا. فقلت: يا رسولَ الله، أتنامُ قبل أن توترَ؟ قال: يا عائشة، إن عينيَّ تنامانِ ولا ينامُ قلبي)([13]).

لكن على من كانَ إمامًا للناس في مسجدٍ من مساجدِ المسلمينَ أن يطمئنَّ على موافقةِ جماعتِه له، فإن لم يوافقوه على الإطالةِ الشديدةِ، فله أن يطيلَ بهم طولًا لا يشقُّ عليهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قامَ أحدُكم للناسِ فليخففْ، فإن منهم الضعيفَ والسقيمَ والكبيرَ، وإذا صلى أحدُكم لنفسِه فليطولْ ما شاء)([14]).

وقد تنوعت الكيفياتُ الواردةُ عنه صلى الله عليه وسلم في قيامِ الليلِ، فبأيها أتى الناسكُ فهو على خيرٍ، وجميعُ ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم في قيامِه من عددِ ركعات وكيفياتٍ يدل دلالةً بينةً على أن إطالةَ القراءةِ بخشوعٍ وتدبُّرٍ في القيامِ، والذكرَ والدعاءَ بشهودِ قلب] واستحضارٍ لمعاني الركوعِ والسجودِ وسائرِ أقوالِ الصلاةِ وأفعالها ـ أَتَمُّ في التأسي وأَوْلى من زيادةِ العددِ، وإن كان في كلِّ خيرٌ ومتسعٌ؛ لدخولِه في إطارِ قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاةُ الليلِ مثنى مثنى)([15])، من غير حدٍّ بكيفيةٍ أو عددٍ.

والناظرُ في عصرِنا هذا يجدُ اختلافًا معتادًا حولَ عددِ الركعاتِ في صلاةِ التراويحِ، وحين نتأملُ في هديِه صلى الله عليه وسلم نجدُ أنه لم يوقت لأمتِه في قيامِ رمضانَ حدًّا محدودًا، وإنما حثهم على القيامِ فقط؛ فدلَّ على التوسعةِ في هذا الأمرِ، وأن بإمكانِ المسلمِ أن يفعلَ ما يستطيعُ من ذلكَ بخشوعٍ وخضوعٍ وطمأنينةٍ، وإن كانَ الأفضلُ هو التأسي بفعلِه صلى الله عليه وسلم من حيثُ الكمِّ والكيفِ، من غير تجريحٍ على من فتحَ له في تحصيل كمٍّ أو كيفٍ مادام لم يخلّ بشيء من أركانِ الصلاة وواجباتها.

 أخي القارئ .. علامةُ المحبَّة حبُّ لقاءِ الحبيبِ ويا حبذا لو كان اللقاءُ بعيدًا عن أعينِ الناس، لما صَفَتْ أوقات اللقاء نادى مؤذِّن المحبةِ في الخفاء: أقم فلانًا، وأنم فلانًا، فخرجت أسماءُ الفائزين؛ وقرت عيونُ المحبين، فماذا أفادك طولُ الرقادِ ولذةُ السبات؟! آهِ لو كنتَ معهم! أسفًا لك يا مسكين!! كم أضعتَ من كنزٍ ثمينٍ!! يا غارقًا في السبات الطويل.. فاتك مدحُ الإله الجليل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}، وَحُرِمْتَ مِنْحَةَ الثناء الجزيل: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17].

لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا                   وقمت أشكو إلى مولاي مـا أجـدُ

وقلت يا عُدتي فـي كـــــــــــل نائبـــــــــــــة                     ومن عليه لكشف الضـر أعتمـــــــدُ

أشكو إليــــــــــــــــــــك أمـورًا أنـت تعلمُهـا                  مالي على حملها صبرٌ ولا جلــــــــــــدُ

وقد مددت يـدي بالـذلِّ مبتهـــــــــــــــلاً                   إليك يا خير من مُـدتْ إليـه يـــــــــــــدُ

فـلا تردَّنَّهـا يـا رب خائـبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةً                   فبحر جودكَ يروي كلَّ مـا يـَـــــــــــــــــــــرِدُ

شهر رمضان شهرُ المصابيحِ، شهرُ التهجدِ والتراويحِ، أيامُه نيِّرةٌ بالصيامِ والتسبيحِ، ولياليه مشرقةٌ بصلاةِ التراويحِ، فطوبى لعبدٍ صامَ نهارَه وقامَ أسحارَه، فبادر أخي فكلُّ ليلةٍ تضيعُ دون قيامٍ يخسرُ فيها المرءُ أجورًا كثيرةً، وكان أبو الدرداء يقول: (صلُّوا في ظلمةِ الليلِ ركعتين لظلمةِ القبور، صوموا يومًا شديدَ الحرِّ لحرِّ يومِ النشور، تصدقوا بصدقةٍ لشرِّ يوم عسير)([16]).

 

الهوامش:

([1]) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان، رقم: (37)، ورواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان، رقم (759).

([2]) صحيح الترغيب والترهيب (1/415).

([3]) مصنف عبد الرزاق.

([4]) رواه ابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (993).

([5]) رواه أبو داود وصححه الألباني.

([6]) صلاة التراويح، ص15.

([7]) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (3958).

([8]) رواه أبو دواد وصححه الألباني (1400).

([9]) تفسير ابن كثير (6/363).

([10]) رواه أبو داود (1309)، وصححه الألباني.

([11]) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (1130)، ورواه مسلم، باب صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال، رقم: (2819).

([12]) رواه أحمد (24268)، وإسناده صحيح.

([13]) رواه البخاري (2013).

([14]) رواه البخاري (703).

([15]) رواه البخاري (990).

([16]) بغية الإنسان في وظائف رمضان، ص29.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
قيام النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان.doc doc
قيام النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى