الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أمابعد؛ فقد حدثَ في مثلِ هذا اليوم من السنة الثانية من الهجرةِ النبوية، أولُ معركةٍ كبرى بين الحق والباطل في تاريخِ الأمةِ المحمديةِ سماها اللهُ سبحانه وتعالى يومَ الفرقان: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41].
يوم أن خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومعه بضعةَ عشرَ وثلاثمائة، وكانت قواتُ المسلمين في بدرٍ لا تمثلُ القدرةَ العسكريةَ القصوى للدولةِ الإسلاميةِ، ذلك أنهم إنما خرجوا لاعتراضِ قافلةٍ واحتوائِها، ولم يكونوا يعلمونَ أنهم سوفَ يواجهونَ قواتِ قريشٍ وأحلافَها مجتمعةً للحرب، والتي بلغ تعدادُها ألفًا([1])، معهم مائتا فرسِ يقودونها إلى جانب جمالهم، ومعهم القيان يضربون بالدفوفِ، ويغنينَ بهجاءِ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِه([2])، في حين لم يكنْ مع القواتِ الإسلامية من الخيل إلا فرَسَانِ، وكانَ معهم سبعونَ بعيرًا يتعاقبونَ ركوبها([3]).
ولما بلغَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نجاةُ القافلةِ وإصرارِ زعماءِ مكةَ على قتالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم استشارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه في الأمرِ، وأبدى بعضُ الصحابةِ عدمَ ارتياحِهم لمسألةِ المواجهةِ الحربيةِ مع قريشٍ، حيثُ إنهم لم يتوقعوا المواجهةَ ولم يستعدوا لها، وحاولوا إقناعَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بوجهةِ نظرهم.
وقد صورَ القرآنُ الكريمُ موقفَهم وأحوالَ الفئةِ المؤمنةِ عمومًا في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 5- 8].
وقدْ أجمعَ قادةُ المهاجرينَ على تأييدِ فكرةِ التقدم لملاقاةِ العدو([4]), وكان للمقدادِ بن الأسودِ موقفٌ متميزٌ، فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: شهدتُ من المقدادِ بن الأسود مشهدًا لأن أكونَ صاحبُه أحبَّ إليَّ مما عُدلَ به([5]): فقالَ: يا رسولَ الله، لا نقولُ لكَ كما قالتْ بنو إسرائيلَ لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكنِ امضِ ونحن معكَ، فكأنه سرَّى عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
وبعدَ ذلك عادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أشيروا عليَّ أيها الناس)، وكان إنما يقصدُ الأنصارَ؛ لأنَّهم غالبيةَ جندِه، ولأنَّ بيعةَ العقبةِ الثانيةِ لم تكنْ في ظاهرِها ملزمةً لهمْ بحمايةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم خارجَ المدينةِ، وقدْ أدركَ الصحابيُّ سعدُ بن معاذ، وهو حاملُ لواءِ الأنصار، مقصدَ النبي صلى الله عليه وسلم منْ ذلكَ فنهضَ قائلًا: والله لكأنَّكَ تريدُنا يا رسولَ الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أجل).
قال: (لقدْ آمنَّا بكَ وصدقناكَ، وشهدنَا أن ما جئتَ به هو الحقُّ، وأعطيناكَ على ذلكَ عهودَنَا ومواثيقَنا على السمعِ والطاعةِ، فامضِ يا رسولَ الله لما أردتْ، فوالذي بعثكَ بالحقِّ لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخضتَه لخضناه معكَ، ما تخلَّفَ منَّا رجلٌ واحدٌ، وما نكرهُ أن تلقَى بنا عدوَّنا غدًا، إنا لصُبُرٌ في الحربِ، صُدُقٌ عند اللِّقاءِ، ولعلَّ اللهَ يريك منَّا ما تقرُّ به عينُك، فسِرْ بنا على بركةِ اللهِ)([6]).
سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم من مقالة سعد بن معاذ، ونشطه ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: (سيروا على بركةِ اللهِ وأبشروا، فإنَّ اللهَ قد وعدني إحدَى الطَّائفتين، واللهِ لكأنِّي الآن أنظرُ إلى مصارعِ القومِ)([7]).
بل تتجلى روحُ القيادةِ الفذةِ في اهتمامه صلى الله عليه وسلم بمشورةِ المسلمينَ وتتعدى ذلك في موقفه مع الحُبابِ بن المنذر عندما يقترح عليه تغييرَ مكانِ المعركةِ لأسبابٍ يبديها، وهيَ مقنعةٌ ومعقولةُ المعنى فيستجيب صلواتُ ربي وسلامه عليه.
وبعد أن جمعَ صلى الله عليه وسلم معلوماتٍ دقيقةً عن قواتِ قريشٍ سارَ مسرعًا ومعه أصحابَه إلى بدر ليسبقوا المشركين إلى ماءِ بدر، وليَحُولوا بينهم وبين الاستيلاءِ عليه، فنزلَ عندَ أدنى ماءٍ من مياه بدرٍ، وهنا قام الحبابُ بن المنذر، وقال: يا رسول الله، أرأيتَ هذا المنزل، أمنزلًا أنزَلَكَه اللهُ ليس لنا أن نتقدَّمَه ولا نتأخَّرَه؟ أم هو الرأيُ والحربُ والمكيدةُ؟
قال: (بلْ هوَ الرأيُ والحربُ والمكيدةُ) قال: يا رسولَ اللهِ فإنَّ هذا ليس بمنزلٍ، فانهضْ يا رسول اللهِ بالناسِ حتى تأتيَ أدنى ماءٍ من القوم - أي جيش المشركين - فننزلُه ونُغوِر [نخرب] ما وراءَه من الآبارِ ثمَّ نبني عليه حوضًا فنملؤه ماءً ثم نقاتلُ القومَ, فنشربُ ولا يشربون.
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيِه ونهضَ بالجيشِ حتى أقربَ ماءٍ من العدو فنزل عليه, ثم صنعوا الحياضَ وغوروا ما عداها منَ الآبارِ([8]).
إن هذه الحريةَ التي ربَّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه مكنتْ مجتمعَهم من الاستفادةِ منْ عقولِ جميعِ أهلِ الرأيِ السديدِ والمنطقِ الرشيدِ، فالقائدُ فيهم ينجحُ نجاحًا باهرًا، وإن كان حديثُ السنِّ؛ لأنه لم يكنْ يفكرُ برأيِه المجردِ, أو آراءِ عصبةٍ مهيمنةٍ عليه قد تنظرُ لمصالحها الخاصةِ قبل أن تنظرَ لمصلحةِ المسلمينَ العامة، وإنما يفكرُ بآراءِ جميعِ أفرادِ جندِه، وقد يحصلُ لهُ الرأيُ السديدُ منْ أقلِّهم سمعةً وأبعدِهم منزلةً من ذلك القائد؛ لأنه ليسَ هناك ما يحولُ بين أيِّ فردٍ منهمْ والوصولِ برأيِه إلى قائدِ جيشِه([9])، والقائدُ الحقُّ هو من يصنعُ قياداتٍ لا منْ يصنعُ أتباعًا.
وبعدَ نزولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ معه على أدنى ماءِ بدرٍ من المشركينَ، بدأَ يعدُّ الخطةَ العسكريةَ لمواجهةِ جيشِ المشركينَ.
وابتكرَ الرسول صلى الله عليه وسلم في قتالِه مع المشركينَ يومَ بدرٍ أسلوبًا جديدًا في مقاتلةِ أعداءِ الله تعالى، لم يكنْ معروفًا من قبلُ حتى قاتلَ صلى الله عليه وسلم بنظام الصفوفِ, وهذا الأسلوب أشار إليه القرآنُ الكريمِ في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].
ومن جهةِ النظرةِ العسكريةِ، فإنَّ هذه الأساليبَ تدعو إلى الإعجابِ بشخصيةِ النبي صلى الله عليه وسلم وبراعتِه العسكريةِ؛ لأن التعليماتِ العسكريةَ التي كان يُصْدِرُها خلالَ تطبيقه لها، تطابقُ تمامًا الأصولَ الحديثةَ في استخدامِ الأسلحة([10]).
وقد تجلى في أمورٍ, منها:
1- الأمرُ الأولُ: أمرُه صلى الله عليه وسلم الصحابةَ برمي الأعداءِ إذا اقتربوا منهمْ؛ لأنَّ الرميَ يكونُ أقربُ إلى الإصابةِ في هذه الحالة (إنْ دنا القومَ منكمْ فانضحوهمْ بالنبلِ)([11]).
2- الأمر الثاني: نهيِه صلى الله عليه وسلم عنْ سلِّ السيوفِ إلى أن تتداخلَ الصفوفُ: (ولا تسُلُّوا السُّيوفَ حتَّى يغشَوكم)([12]).
3- الأمر الثالث: أمرُه صلى الله عليه وسلم الصحابةَ بالاقتصادِ في الرمي: (واسْتَبْقُوا نَبْلَكم)([13]).
وعندما تقارنُ هذه التعليماتِ الحربيةَ بالمبادئِ الحديثةِ في الدفاعِ تجدْ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ سبَّاقًا إليها من غيرِ عكوفٍ على الدرسِ ولا التحاقٍ بالكلياتِ الحربيةِ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يرمي من وراءِ تعليماتِه التي استعرضنَاها آنفًا إلى تحقيقِ ما يُعرفُ حديثًا بكبتِ النيرانِ إلى اللحظةِ التي يصبحُ فيها العدوُّ في المدى المؤثرِ لهذه الأسلحةِ.
ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يعلمُ أن اﻷخذَ بالأسبابِ فريضةٌ والاعتقادُ فيها شركٌ؛ فما إن نظمَ صلى الله عليه وسلم صفوفَ جيشِه، وأصدرَ أوامرَه لهمْ وحرَّضَهم على القتالِ، رجعَ إلى العريشِ الذي بُنيَ له ومعهُ صاحبَه أبا بكر رضي الله عنه, وسعدَ بن معاذ على باب العريشِ لحراستِه وهو شاهرٌ سيفَه.
واتجه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه يدعُوه ويناشدُه النصرَ الذي وعدَه ويقولُ في دعائه: (اللهمَّ أنجزْ لي ما وعدتني، اللهمَّ إن تهلِك هذه العصابةُ من أهلِ الإسلامِ فلا تُعبدُ في الأرض أبدًا)، وما زالَ صلى الله عليه وسلم يدعو ويستغيثُ حتى سقطَ رداؤه، فأخذه أبو بكر وردَّه على منكبيْه وهو يقولُ: يا رسولَ اللهِ كفاكَ مناشدتكَ ربَّك فإنه منجزٌ لك ما وعدَك([14]).
فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك الله، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}([15]).
ثم تتجلى مشاهدٌ من عظمة التضحيةِ والفداءِ من رجال {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23]؛ يحكي أنسٌ رضي الله عنه وأرضاه عن أخيه حارثةَ بن سراقة قائلًا: أصيب حارثةُ يوم بدرٍ وهو غلامٌ فجاءت أمُّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله، قد عرفتَ منزلةَ حارثةَ مني، فإنْ يكنْ في الجنةِ أصبرُ وأحتسبُ، وإنْ تكنِ الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: (ويحك أَوَهَبلْتِ أَوَجَنَّة واحدةٍ هي؟ إنها جنانٌ كثيرةٌ, وإنه في جنةِ الفردوسِ)([16]).
ثم ينطلقُ ابنُ عفراء([17]) قال: يا رسول الله ما يُضحكُ الربَّ من عبدِه؟ قال: (غَمْسُهُ يدَهُ في العدوِّ حاسرًا)([18]) فنزع درعًا كانتْ عليهِ فقذفها، ثم أخذَ سيفَه فقاتلَ القوم حتى قُتل([19]).
وهذا الخبرُ يدلُ على قوةِ ارتباطِ الصحابةِ الكرام بالآخرةِ، وحرصِهم على رضوانِ الله تعالى؛ ولذلكَ انطلقَ عوفُ بن الحارث رضي الله عنه كالسهمِ وهو حاسرٌ غيرُ متدرِّعٍ يثخنُ في الأعداءِ حتى أكرَمَه الله بالشهادةِ، لقدْ تغيرتْ مفاهيمُ المجتمعِ الجديدِ، وتعلقَ أفرادُه بالآخرةِ، وأصبحوا حريصينَ على مرضاتِه بعد أن كان جلَّ همِّهم أن تتحدثُ عنهم النساءُ عن بطولاتِهم، ويرضى سيدُ القبيلةِ عنهم، وتنشدُ الأشعارُ في شجاعتِهم([20]).
فبعدما استفرغوا الوسعَ والطاقَةَ ونفذوا أمر الله في كتابه العزيز؛ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
يأتي المددُ من السماءِ، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ(125) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 123-126 ].
وعن ابن عباس رضي الله عنه، قال: (بينما رجلٌ من المسلمينَ يومئذِ يشتدُ في إثرِ رجلٍ من المشركين أمامَه، إذ سمعَ ضربةً بالسوطِ فوقَه، وصوت الفارس يقول: أقدِم حيزوم([21]) فنظر إلى المشركِ أمامَه فخرَّ مستلقيًا فنظر إليه فإذا هو خُطِم أنفُه([22])، وشُقَّ وجهُه كضربةِ السوطِ فاخضرَّ ذلكَ أجمعُ، فجاء الأنصاريُّ فحدثَ بذلك رسول الله فقال: (صدَقتْ, ذلك مددٌ من السماءِ الثالثة)([23]).
(كانت غزوةُ بدرٍ، التي بدأتْ وانتهتْ بتدبيرِ اللهِ وتوجيهِه وقيادتِه ومددِه, فرقانًا بين الحقِّ والباطلِ، كما يقول المفسرون إجمالاً، وفرقانًا بمعنى أشملَ وأدقَّ وأوسعَ وأعمقَ كثيرًا.
كانتْ فرقانًا بين هذا الحقِّ وهذا الباطلِ في أعماقِ الضمير؛ فرقانًا بين الوحدانيةِ المجردةِ المطلقةِ بكلِّ شُعَبِها في الضميرِ والشعورِ, وفي الخلقِ والسلوكِ، وفي العبادةِ والعبوديةِ، وبين الشركِ في كلِّ صورِه التي تشملُ عبوديةَ الضميرِ لغيرِ الله من الأشخاصِ، والأهواءِ والقيمِ والأوضاعِ والتقاليدِ والعاداتِ, وكانت فرقانًا بين هذا الحقِّ وهذا الباطلِّ في الواقعِ الظاهرِ)([24]).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.