الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ كان صلى الله عليه وسلم يعتني بحفظِ الجوارحِ، ويعلمُ المسلمينَ أن الصيامَ لا يقتصرُ على تركِ الطعامِ والشرابِ فقط، وإنما تركُ كلِّ ما يغضبُ اللهَ تبارك وتعالى، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)([1]).
وإذا جهلَ عليه أحدٌ فيذكر نفسَه أنه صائم، قال صلى الله عليه وسلم: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائمٌ، إِنِّي صَائمٌ)([2]).
فيقولها (بلسانِه جهرًا يسمعُه الشاتمَ والمقاتلَ فينزجرُ غالبًا، أو لا يقولُه بلسانِه بل يُحدِّثُ بها نفسُه؛ ليمنعَها من مشاتمتِه ومقاتلتِه ومقابلتِه ويحرصُ صومَه عن المكدراتِ، ولو جمعَ بين الأمرينِ كان حسنًا.
واعلم أن نهيَ الصائمِ عن الرفثِ والجهلِ والمخاصمةِ والمشاتمةِ ليس مختصًّا به، بل كلَّ أحدٍ مثلِه في أصلِ النهي عن ذلك لكن الصائمَ آكد. والله أعلم)([3]).
وفي ضوءِ الحقائقِ السابقةِ تتجلى معاني الصومِ الساميةِ، التي تعلو عن مجردِ الجوعِ والعطشِ، فليس هذا ما ترتبَ عليه الجزاءُ العظيمُ الذي ينالُه الصائمُ، إن هذه الجوائزَ العظيمةَ لمن خالجتْ معاني الصيامِ كيانَه، وعملَ بمقتضاها، فلو كانت الجنانُ والعتقُ من النيرانِ والمغفرةُ والرحمةُ فقط لمن جوعَ نفسَه وعطشَها دونَ القيامِ بحقوقِ الصيامِ ـ لما تميزَ التقيُّ عن الشقيِّ، ولا المطيعُ عن العاصي، فالكلُّ يجوعُ والكلُّ يظمأُ، ففيم تتفاوت الأجور؟!
فاحذر أن تكونَ ممن قال فيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، ورُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ)([4]).
إذا لمْ يكـــنْ في السمــــعِ مني تصــامم وفي العينِ غضُّ وفي منطقِـي صمـــتُ
فحظي إذًا مـن صومِي الجـوعُ والظمأُ فإنْ قلتُ إني صمتُ يومي فما صمـتُ
إن رمضانَ فرصةٌ عظيمةٌ للتغييرِ، وانتقالِ الإنسانِ من حالٍ إلى حالٍ أفضل، والتخلصِ من الذنوبِ التي تسيطرُ عليه، والعاداتِ الخبيثةِ التي ألفَها، فرمضانُ فرصةٌ للتخلصِ منْ كلِّ ما منْ شأنِه أن يحاصرَ المرءَ، ويعوقُه عن المضيِّ في سبيلِ الرشادِ.
فإلى كلِّ منْ قد حاصرته قيودُ العاداتِ السيئةِ، واكتنفته الهمومُ؛ فيصرخُ في نفسه أن: "كفى"، ويصدقُ قلبُه في الرغبةِ في الفرار، ولكنْ يثني عزمَه هذا القيد، فإليه أسوقُ البشرى: قد جاءَتك أيامُ الخلاصِ، لتتحررَ من أسرِك، قد جاءَك رمضانُ يفكُّ عنكَ قيدَ الذنوبِ والعاداتِ السيئةِ، فقط دع روحكَ وجوارحَك تنسابُ مع قوى رمضان.
فلرمضانُ عواملُ كثيرةٌ بناءةٌ، تتضافرَ فيما بينها؛ لتعينَ الإنسانَ على صياغةِ شخصيتِه من جديدٍ، ويرتقي بنفسِه عن الآفاتِ، فهو فرصةٌ حقيقيةٌ للتغييرِ.
ففي رمضانَ يصيرُ الغالبُ على المجتمعِ حرصَه على الطاعةِ والخيرِ، فالمساجدُ تمتلئُ، وأعمالُ البرِّ والصدقاتِ يتسابقُ فيها المتسابقون، والأخلاقُ السمحةُ تفرضُ نفسَها، وما ذلك إلا بما أودَعه الله في هذا الشهرِ من بركاتٍ، وتيسيرُه للناسِ سبلَ الخيرِ عن غيرِه من الشهورِ.
فالطاعاتِ التي ينفردُ بها الكثيرونَ في غيرِ رمضان، تصبحُ في رمضانَ أمرًا عامًّا، وهو ما يحفزُ المرءَ على النشاطِ في الطاعةِ؛ وهو ما يعلي لديه من بناءِ الإيمان، والذي يقومُ بدورِه بهدمِ الآفات.
ونظرًا لأن الإنسانَ يتأثرُ بمن حولِه، ورؤيتُه لمشاهدِ الطاعةِ لدى العبادِ تحفزُّه، أوصى الله تعالى بالتعاونِ على البرِّ والتقوى، فقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وتضافرتْ الأدلةُ لتؤكد على أهميةِ مصاحبةِ الأخيارِ، ففي الحديث: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَليَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)([5]).
ورمضانُ يكسرُ الشهواتِ والتي هي مادةُ النشوزِ والعصيانِ، فيحفظُ الإنسانُ جوارحَه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: الصِّيَامُ جُنَّةٌ، يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ النَّارِ، هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)([6])، وجُنَّة: أي وقايةٌ، (وقايةٌ في الدنيا من المعاصي بكسرِ الشهوةِ، وحفظِ الجوارحِ، وفي الآخرةِ من النارِ)([7]).
وفي رمضانَ تصفدُ الشياطينُ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءَ رمضانُ؛ فُتحتْ أبوابُ الجنةِ، وغُلقت أبوابُ النار، وصُفدت الشياطينُ)([8])، وهو تصفيدٌ حقيقي، كمعونةٍ من الله للعبادِ بكفِّ شرِّ الشياطينِ عنهم.
(فإن قيلَ: كيفَ نرى الشرورَ والمعاصي واقعةً في رمضان كثيرًا، فلو صُفدت الشياطينُ لِمَ يقع ذلك؟! فالجواب: أنها إنما تقلُّ عن الصائمينَ الصومَ الذي حوفظَ على شروطِه وروعيت آدابُه، أو المصفدُ بعضُ الشياطينِ وهم المردةُ، لا كلُّهم كما تقدمَ في بعض الرواياتِ، أو المقصودُ تقليلُ الشرورِ فيه، وهذا أمرٌ محسوسٌ؛ فإنَّ وقوعَ ذلك فيه أقلُّ من غيره، إذ يلزم من تصفيدِ جميعِهم أن لا يقعَ فيه شرٌّ ولا معصيةٌ؛ لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين: كالنفوسِ الخبيثةِ، والعاداتِ القبيحةِ، والشياطينِ الإنسية)([9]).
وعلى كل حال، فحدةُ تسلُّطِهم على الإنسِ تنكسرُ أو تضعفُ؛ مما يفتحُ الطريقَ أمامَ العبادِ لسلوكِ دربِ الاستقامةِ، ويمنحُ العبدَ فرصةَ التخلصِ من حصارِ الآفات.
أخي.. رمضان.. فرصةُ العمر السانحة لإحداثِ التغيير.. والكفةُ الراجحةُ في ميزانِ الأعمالِ.. قد فُتحتْ فيه أبوابُ الخيراتِ على مصراعيها ولم يبق إلا أن تلج!!
فغيرْ من نفسِك في رمضانَ، والتغييرُ يبدأُ من الداخلِ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، والآيةُ فيها ربطٌ فريدٌ بين الفردي والجماعي، فما يغيره المرءُ في نفسِه ينعكسُ على المجتمعِ ولابد.
فإذا صمتَ:
فليصم قلبُك عن سوءِ النوايا والأخلاطِ، وعن الحقدِ والغلِّ والحسدِ لغيرك، بل احبسْه عن الخطراتِ الفاسدةِ وادفعها، واهتم بما يصلحُه ويرققُه ويبعثُ في أوصالِه الخشية.
وليصمْ لسانُك عن الكذبِ ولو مازحًا، وعن الغيبةِ والنميمةِ، وعن الفحشِ من القولِ والبذاءةِ، وأشغلْه بذكرِ الله وتلاوةِ القرآن والدعاءِ.
ولتصم عيناكَ عن النظرِ إلى ما حرمَ الله تعالى، وغُضَّ طرفَك عن النظرِ إلى النساءِ الأجنبياتِ، سواء في الطرقاتِ أو عبر الشاشاتِ، وأشغلهما بالنظرِ إلى كتاب الله تعالى.
ولتصمْ أذناك عن الاستماعِ إلى ما حرمَ الله تعالى من الغناءِ والموسيقى، أو فحشِ الكلام، وأشغلْ سمعكَ بالاستماعِ إلى القرآنِ الكريم أو دروسِ العلمِ النافعة.
ولتصمْ يداكَ عن البطشِ بغيرِ حقٍّ، وعن اغتصابِ الحقوقِ، ومُدَّ يدَ العونِ لإخوانك المسلمين، واسْعَ في حاجاتِهم.
ولتصمْ رجلاكَ عن السعيِّ في الحرامِ، إلى أماكنَ اللغوِ والمقاهي وكلِّ مكانٍ ترتكبُ فيه المحظورات، وأَكثِرْ من الخطا إلى بيوتِ الله تعالى.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.