الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم. أما بعد؛ فإن البدعة وخيم فعلها، ملعون فاعلها، عقيم أثرها، سقيم صاحبها، تودي به المهالك، وترودهم المعاطب، فهي طريق الضلال، ويريد الكفر والإنحلال، تفرح الشيطان وتغضب الرحمن، نهى الله عن سلوك طريقها في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، كما حذر السلف الصالح من الوقوع في براثنها.
فقبحًا للمبتدع ثم قبحًا!! ظن نقصًا في دين ربه، فرام إتمامه بوحي شيطانه، وما علم أنه بفعله يهدم قواعهد بمعول أهوائه!! إن مما لا يشك فيه من وهبه الله عقلًا سليمًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يودع الدنيا إلا وقد أكمل الله به دينه وأتم شرعه بوحي السماء الذي انقطع بموته صلى الله عليه وسلم، بل قد أعلن ذلك قبيل وفاته بدوي صوت ضهدت له فجاج مكة وجبالها بعد أن استشهد عليه ربه – وكفى به شهيدًا – حينا قال: "اللهم فاشهد"[1].. وحينئذ نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
يقول إما دار الهجرة: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأ، الله يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا".
إن هذه الآية الكريمة قطعت أعناق المبتدعة من أصولها، وفضحتهم في كل محدثة جهدوا لها.
قال العدوي رحمه الله: لو تأمل المبتدع وقوفه من دين الله موقف المخترع لعرف أن عمله هذا ينادي: بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان رسالة ربه، وقصر فيما أوجبه الله عليه من البلاغ، فترك شيئًا من العبادات ليكملها! أو طائفة من القرب قد اهتدى هو إليها! أو نسى أصلا في المعاملات عرفه هو! أو عقيدة من العقائد قد أغفلها التشريع السماوي! ذلك هو موقف المبتدع من دين الله، وتلك مكانته من الوحي السماوي، قصد إلى ذلك أو لم يقصد.. انتهى.[2]
قال الشاطبي[3]: فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة، والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم، وهم أهل البدع، ليس المراد سبل المعاصي، لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقًا تسلك دائمًا على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات. انتهى.
وقد أوضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا فقال: "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها" ثم تلا الآية الكريمة.[4]
وهذه السبل تعم كل سبيل مخالف للشريعة، ومن أعظمها سبل أهل الملل والبدع والضلالات، وأهل الأهواء والشذوذ في الآراء، وغيرهم من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام كما ذكر أئمة التفسير.[5]
قال مجاهد بن جبر في قول الله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، قال: البدع والشبهات.
ومما ورد في تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الإحداث في دين الله تعالى، قوله في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: "... ,إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"[6].
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"[7].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم، انتهى[8].
وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". رواه البخاري ومسلم[9]، وفي رواية مسلم[10]: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد".
قال النووي رحمه الله: قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتد به. وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات.[11]
وقال ابن رجل الحنبلي رحمه الله: وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث (الأعمال بالنيات) ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء. انتهى.[12]
كما سلك الصحابة رضوان الله عليهم – فمن بعدهم – منهج النبي صلى الله عليه وسلم نفسه في التحذير من البدع وأهلها.
فمن بديع قول معاذ رضي الله عنه: إن من ورائكم فتنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق.[13]
وفي (الصحيح)[14] عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: يا معشر القراء استقيموا، فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، وإن أخذتم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا.
وخرج ابن وضاح والمروزي في "السنة"[15] عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: عليكم بالاستقامة والأثر، وإياكم والتبدع.
وعن أيوب السختياني أنه كان يقول: "ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلا ازداد من الله بعدًا.
هكذا كان موقف السلف في التحذير من البدع وأهلها، ليقينهم بما سيؤول إليه حال الأمة من ظهور البدع وانتشارها آخر الزمن، كما قطع به حذيفة رضي الله عنه، عندما أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلًا، قال: والذي نفسي بيده، لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة!![16]
قال الشيخ ابن باز: وقد ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السف الصالح بعدهم التحذير من البدع، والترهيب منها؛ وما ذلك إلا لأنها زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم، وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي واتهامه بعدم الكمال.[17]
لذا لزم على أهل العلم تنبيه المسلمين عن الوقوع في البدع التي أحدثت في الشريعة، خصوصًا في مثل هذا الزمن الذي كثر شره وقل خيره، وظهرت فيه أسباب انتشار البدع بين المسلمين في سائر الأمصار والأقطار، فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
ثم اعلم أن الواجب علينا أن نمتثل ما أمرنا به في أداء العبادات كلها على أي صفة كانت، ولا نرجع إلى عقولنا ولا إلى ما تقتضيه اجتهاداتنا وخواطرنا الواردة على خلاف ما جاءنا، فإن ذلك نزغة من نزغات الشياطين، ونبضة من نبضات الشكوك التي جاءت الشريعة المطهرة بقطعها واجتثاثها من أصولها، خصوصًا فيما يتعلق بأجل العبادات بعد التوحيد، أعني: الصلاة، التي هي عمود الدين والفيصل بين الإسلام والكفر.
الهوامش:
[1] اخرجه البخاري (1741)، (7078)، ومسلم (1679/31) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري (4403) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أصول في البدع والسنن، ص6.
[3] الاعتصام، 1/76.
[4] أخرجه أحمد 7/207 (4142). وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (5-7).
[5] انظر تفسير القرطبي، 9/117.
[6] أخرجه أحمد 28/373، 375 (17144، 17145)، وصححه الألباني في الإرواء (2455).
[7] أخرجه مسلم، 867/ 43، من حديث جابر رضي الله عنه.
[8] اقتضاء الصراط المستقيم، شيخ الإسلام بن تيمية، 2/583.
[9] أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718/17)
[10] أخرجه مسلم (1718/18)
[11] شرح مسلم للنووي، 12/16.
[12] جامع العلوم والحكم، ص59.
[13] أخرجه أبو داود (4611)، وقال الألباني: صحيح الإسناد موقوف.
[14] أخرجه البخاري، 7282.
[15] أخرج ابن وضاح في (البدع والنهي عنها) ص 61.
[16] أخرجه ابن وضاح، ص151.
[17] التحذير من البدع، ص 17.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.