شبهة الاستدلال بجواز جمع القرآن على جواز الاحتفال بالمولد النبوي!
الجواب:الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ نذكر ابتداء نص الحديث: قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِىَّ - رضى الله عنه - وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْىَ قَالَ أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِى فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِى الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّى لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عُمَرُ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِى فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِى، وَرَأَيْتُ الَّذِى رَأَى عُمَرُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِى نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَىَّ مِمَّا أَمَرَنِى بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِلَّذِى شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِىِّ، لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إِلَى آخِرِهِمَا، وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِى جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ[1]، والجواب من وجوه:
1- أن أبا بكر وزيدا – رضي الله عنهما – توقفا في أول الأمر، حتى تبين لهما وجهه، مما يدل على بدعية الإحداث في الدين مطلقا، فلما تبين لهما أنه ليس من الإحداث في الدين، بل هو من فروض الكفاية – على ما سنبين – أقبلا على فعله.
قال ابن بطال: "إنما نفر أبو بكر أولا ثم زيد بن ثابت ثانيا؛ لأنهما لم يجدا الرسول صلى الله عليه وسلم فعله، فكرها أن يحلا أنفسهما محل من يزيد احتياطه للدين على احتياط الرسول، فلما نبههما عمر على فائدة ذلك، وأنه خشية أن يتغير الحال في المستقبل إذا لم يجمع القرآن فيصير إلى حالة الخفاء بعد الشهرة رجعا إليه"[2]، وقال ابن حجر – معقبا –: "وليس ذلك من الزيادة على احتياط الرسول، بل هو مستمد من القواعد التي مهدها الرسول صلى الله عليه وسلم".[3]
2- أن القرآن كان مكتوبا، لكن كان مفرقا، فلا شيء في كتابته في مكان واحد، إذ ليس هناك فرق شرعي بين كتابته مفرقا ومجمعا، بل ربما تحتف بالحالتين ما يجعل إحداهما راجحة على الأخرى، كحالة التفريق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أرجح من الجمع، لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ألهم الله الخلفاء الراشدين جمعه، وهو الأرجح في هذا الوقت، وفاء لوعد الصادق بحفظه على هذه الأمة المحمدية.[4]
3- أن حاصل ما فعلوه من فروض الكفاية، لأنه وسيلة لحفظ القرآن، لا سيما وقد كثر قتل حفظة القرآن، ألم تر إلى قول عمر معللا: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِى الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّى لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قال ابن الباقلاني: كان الذي فعله أبو بكر من ذلك فرض كفاية، بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن) مع قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] وقوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [الأعلى: 18] وقوله: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة: 2] قال: فكل أمر يرجع لإحصائه وحفظه فهو واجب على الكفاية، وكان ذلك من النصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم.
قال: وقد فهم عمر أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم جمعه لا دلالة فيه على المنع، ورجع إليه أبو بكر لما رأى وجه الإصابة في ذلك، وأنه ليس في المنقول ولا في المعقول ما ينافي، وما يترتب على ترك جمعه من ضياع بعضه، ثم تابعهما زيد بن ثابت وسائر الصحابة على تصوييب ذلك"[5]
4- إجماع الصحابة على جواز ذلك، وإجماعهم حجة بلا ريب، واتباع سبيلهم هدى، ومخالفتهم ردى.
فأين من كل هذا تجويز الاحتفال بالمولد النبوي ؟ وكيف يقاس هذا على ذاك، وهو من أبطل القياس وأفسده، لوجود الفارق،بل لعدم الصلة!
الهوامش:
[1] أخرجه البخاري، رقم: 4679.
[2] فتح الباري، 9/13
[3] المصدر السابق.
[4] فتح الباري، 9/12
[5] فتح الباري، 9/14
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.