عندما يجاهد المسلم في سبيل الله سبحانه بلسانه وماله ونفسه، يبذل جهده في إعلاء كلمة الله تعالى بكل ما أوتي من قوة، وبجميع المجالات الممكنة بما فيها الدعوة والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن لهذا الجهاد آثاره العظيمة في تزكية النفس، والتي تتجلى في الجوانب التالية:
1-الجهاد تحرير للنفس من حب الحياة والتعلق بها، وبيع لها في سبيل الله، وتدريب عملي على الزهد في الدنيا والتطلع إلى الآخرة والتشوق لما أعده الله لعباده في الجنة، وهذا من أعظم ما يهدف إليه المنهج الإسلامي في تزكية النفس.
فالمجاهد يبيع نفسه لله تعالى ابتغاء مرضاته، والله سبحانه واهب الأنفس والأموال ومالكها يكرم عباده المجاهدين بأن يشتري منهم ما وهبهم إذا بذلوها في سبله.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111، 112].
وهكذا يتضح أن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة، والله سبحانه قد عقد الصفقة واشترى من هذه النفس الأموال وهو مالكها سبحانه، وجعل الثمن في تلك التجارة الرابحة جنة عرضها السموات والأرض، ولكن هذا الجهاد ليس مجرد اندفاع للقتال إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان والعمل الصالح، فالله سبحانه وصف المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بصفات جليلة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} إلى آخر الآية.
ومجمل هذه الصفات بين أن الجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء وجهاد النفس وجهاد الشر والفساد[1]، وبذلك ينطلق المجاهد من قيود التعلق بالدنيا والتثاقل إلى الأرض وينفر باذلا نفسه وماله في سبيل الله.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38].
وقال تعالى: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74].
2-الجهاد تمحيص للنفس وتدريب لها على الصبر والفداء:
طريق الجنة محفوف بالمكاره ولا ينال براحة البدن، ولابد من تعويد النفس على المشاق والصعاب ليقوى بنيانها وتصمد في وجه الشدائد والأهوال، ودع الخمول والكسل والتواني.
كما أن حكمة الله سبحانه اقتضت أن تعرض النفوس للتمحيص ليظهر ثباتها ويستقيم حالها، ولا شك أن أكبر ميدان لهذا التمحيص هو ميدان الجهاد.
قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 140- 143].
فالشدائد والمحن تربي النفوس، كما تكشف عن معادنها وتظهر درجة ثباتها، ولذلك كان ميدان الجهاد المقياس الحقيقي الذي يعرف به المؤمن درجة التزكية التي ارتقت إليها نفسه، فإن لاحظ فتورا أو إحجاما عن البذل والفداء، وصدته نفسه عن كل جهاد يخدم به دينه فهو في بداية الطريق، ولابد له من ترويض النفس ومجاهدتها وتدريبها على الصبر والثبات، وتقوية إيمانها بالله واليوم الآخر، وإن لمس فيها همة وقوة فهذا مؤش على ترقي النفس في مقامات التزكية، كما أن دليل على صحة المنهج الذي يسلكه في تزكية النفس.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن بعض السائرين في طريق التزكية يلمس من نفسه إقبالا على الطاعات وإحجاما عن المعاصي، فيظن أنه ارتقى بنفسه إلى المقام المطلب في تزكية النفس، مع أن هذا المقيا لا يكفي، إذ أن حقيقة النفس تظهر في الشدة لا في الرخاء، ولذلك كان الجهاد هو المحرك الذي يكشف عن معدن النفس ليسارع صاحبها إلى تدارك ما فيها من نقص.
3-الجهاد عزو النفس وقوة لها:
الجهاد أعظم وسيلة لتنمية العزة في نفسه المسلم وتقوية كيانها وتطهيرها من الذلة والانطوائية والخمول وغيره من الصفات المهلكة للفرد والمجتمع.
ولقد بين الله سبحانه أن المؤمن عزيز الجانب لأنه يستمد العزة من إيمانه بربه وتمسكه بدينه، فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [المنافقون: 8]، فإذا تخلى المسلم عن الجهاد وشغل بالدنيا عن الآخرة، تعودت نفسه الذلة والهوان والاستكانة والخنوع.
ولهذا جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا تبايعتم بالعينة[2]، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"[3].
والنفس الذليلة لا تصلح لعمل، ولا يرجى منها خير، إلا إذا تخلت عن أسباب هذه الذلة وعرفة أن الحياة الكريمة لا تكون إلا بالإقبال على الآخرة وبذل النفس لإعلاء كلمة الله سبحانه.
وبهذا يتضح أن الجهاد إن كان شاقًا على النفس إلا أنه وسيلة عظمى لصلاحها وتربيتها، ومن جاهد فإنما يعود نفع ذلك على نفسه والله غني عن عمله، ولذلك قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].
ولذلك كان الفرق كبيرا عند الله سبحانه بين من جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه لا يعمل إلا لها ولا يفكر إلا من أجلها، ويبين من جعل همه الأكبر الدعوة لهذا الدين والبذل من أجله والتضحية في سبيله.
فالفريق الأول: بعيد عن الله وقريب من أهل الكفر والنفاق لأنه يسلك مسلكهم ويتصف ببعض صفاتهم، وهذا ما أوضحته الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7، 8].
وما أشر إليه الحديث النبوي عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق"[4].
قال الإمام النووي: "المراد أن من فعل هذا فقد اشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف، فإن ترك الجهاد أحد شعب النفاق"[5]، وذلك لأنه مشغول بدنياه لا يفكر إلا فيها.
والفريق الثاني: هو الذي سلك سبيل الهداية مع السالكين، وعرف أن أعظم ما ينبغي للمسلم أن يهتم به ويسلك طريقه لتزكية نفسه ويرضى ربه هو الجهاد بأنواع، وبذلك يحظى بالبشارة العظمى وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
الهوامش:
[1] ينظر: تفسير ابن كثير (2/391)، وفي ظلال القرآن (3/1719).
[2] أي وجهتم همكم للبيع والشراء وكسب المال، والعينة أن يبيع الرجل لغيره سلعة ثم يشتريها منه بثمن أقل.
[3] رواه أبو داود في البيوع، باب في النهي عن العينة، ، رقم (3462)، وقال محقق جامع الأصول صحيح.
[4] رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب ذم من مات ولم يغز (1910).
[5] شرح النووي على صحيح مسلم (13/56).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.