أقوال علماء المذاهب في حكم دعاء غير الله تعالى

أقوال علماء المذاهب في حكم دعاء غير الله تعالى





الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين... أما بعد: لقد بيّن الله تعالى في كتابه أوضح بيان حكم من دعا غير الله، وكرر ذلك في مواضع كثيرة وبأساليب متنوعة، وذلك لأن الشرك في الدعاء هو الأكثر وقوعاً من غيره من أنواع الشرك كما تقدم.

ومع وضوح هذا الحكم وضوح الشمس في رابعة النهار فقد وقع من بعض الناس التردد فيه، ومن آخرين تأويله، ومن غير هؤلاء الزعم بأنه خاص بمن مضى وغبر.

فلهذا أنقل كلام العلماء في هذه المسألة؛ لأن أولئك المترددين لا يقتنعون بمجرد الأدلة ولو كانت واضحة، إلا أن ينقل لهم من علماء المذاهب الفقهية، ظناً منهم أن الذين يعتنون بالكلام في مثل هذه المسائل من العلماء المتشددين، أو أنهم أتوا بمذهب جديد.

وهذا هو الذي اقتضى نقل كلام أهل العلم من فقهاء المذاهب وغيرهم، لبيان سبق هؤلاء العلماء إلى هذا المعنى، وأن من يؤكد على هذا ليس شاذاً، ولكن له سلف صالح، ولتحصل الطمأنينة والثقة لمن يريد معرفة الحق، وأما من يريد التمسك بمألوفاته وعاداته ولا يريد التحول إلى الحق ولو ظهر له بالأدلة الواضحة، فهذا لا يرجى انتفاعه بكلام أهل العلم لقصده الفاسد، وإصراره على رأيه، وعدم تجرده للحق وحبه له.

وما على من يدعوه إلا بيان الحق وإقامة الحجة، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بيّنة.

أقوال علماء الحنفية:

قد ذكر علماء الحنفية أموراً كثيرة وعدوها مما يخرج عن الملة، وهي أقل بكثير من دعاء غير الله تعالى، وغالب ما ذكروه ليس هناك نص صريح بخصوصه في التكفير من الكتاب والسنّة.

وقد علمنا كثرة النصوص القطعية المصرحة بالتكفير في دعاء غير الله تعالى: (بل لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله) ( [1]). فمن باب أولى أن يقول هؤلاء الذين يكفرون بما هو أقل من ذلك: بكفر من دعا غير الله تعالى.

ومما يؤكد أن علماء الحنفية يكفرون بدعاء غير الله تعالى أنهم يتشددون في باب الأدعية، فقد حرموا التوسل المبتدع كما سيأتي النقل عنهم.

1- فمن ذلك قولهم: (من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر) ( [2]).

ودعاء غير الله تعالى يستلزم اعتقاد ذلك، إذ الداعي لو لم يعتقد سماع المدعو وعلمه بدعائه لما دعا ولا فتح فاه بالنداء والصراخ، وقد يقال: إن هذا من التكفير باللازم ولا يكفر به، إذ لازم المذهب ليس بمذهب، فنقول جواباً لهذا وبالله التوفيق:

- إن الصحيح( [3]) في لازم المذهب أن ما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله، وما لا يرضاه فليس بقوله، فلو قال قولاً ولزِمَ هذا القولَ لازمٌ فاسدٌ وهو لم يشعر بذلك ففي هذه الحالة لا يلزمه، وأما ما لو ظهر له يرضاه فهو لازم له وهو قائل به.

- إذا عرفنا هذا فالداعون لغير الله تعالى والمستغيثون بأصحاب القباب يلتزمون بهذا القول، وكثير منهم يعتقد حضور أرواح المشايخ.

2- من ذلك قولهم: من ادعى علم الغيب لنفسه أو صدق من يدعي ذلك، كفر.

3- ومن ذلك قولهم: إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى واعتقد ذلك، كفر( [4]).

4- ومن ذلك قولهم: إن الرجل إذا خرج يوم النيروز مع المجوس موافقة لهم فيما يفعلونه في يوم عيدهم، أو أهدى ولو بيضة إلى المجوسي في ذلك اليوم كفر( [5])؛ وذلك لأنه عظم عيد الكفرة أو تشبه بهم.

فإذا كان هذا قول العلماء بمن عظّم يوم النيروز بنوع من التعظيم، فكيف بمن يعظم ما يعبد من دون الله كأصحاب القبور؟

ومما لا شك فيه أن الذي عظم يوم النيروز لا يبلغ تعظيمه مبلغ المستغيث الواقع في الشدة، الذي ينادي ويستغيث بمن ينقذه، معظماً له وراجياً وخائفاً صارفاً له خالص تذللـه وخضوعه، بل ومحبته له، فإذا كان علماء الحنفية يكفرونه بمجرد إهداء البيضة بدون أن يقوم بالقلب مثل ما يقوم بالمكروب المستغيث، فمن باب أولى تكفيرهم للمكروب المستغيث!

5- ومن ذلك قولهم فيما يفعله بعض النساء وهو صريح فيما نحن بصدده قالوا: (والذي شاع في زماننا- وكثير من نساء المسلمين مبتليات بذلك- هو أنهن في وقت طلوع الجدري للأطفال يفعلن صورة باسم ذلك الجدري ويعبدنها، ويطلبن منها شفاء الأولاد، ويعتقدن أن ذلك الحجر يشفي هذه الأطفال، فتلك النساء يصرن كافرات بهذا الفعل وبهذا الاعتقاد، وبرضا أزواجهن بهذا الفعل يصيرون كفاراً.

ومن هذا القبيل أنهن يذهبن إلى عين ماء ويعبدن ذلك الماء ويذبحن على ذلك الماء شاة بالنية التي أضمرنها، فهاتيك العابدات للماء والذابحات يصرن كافرات، وتكون الشاة نجسة ولا يحل أكلها.

وهذه الأفعال مع دلالتها على كفر من دعا غير الله تعالى، يرد على أولئك الذين يزعمون أن الشرك لم يقع في هذه الأمة، أو يقولون: إن بعض العلماء المتشددين هم الذين تفردوا بالتكفير في مثل هذه المسائل.

6- ومن ذلك ما قالوا في قولهم: (يا شيخ عبد القادر شيئاً لله): إنه كفر( [6]).

ففي هذه الكلمة نداء للشيخ عبد القادر وطلب شيء منه إكراماً لله، فهو سؤال وتوسل بالله إلى الشيخ عبد القادر( [7]).

وقد علل بعضهم منع هذه الكلمة بأنها تتضمن نداء الأموات من أمكنة بعيدة.

ومن اعتقد أن غير الله سبحانه وتعالى حاضر وناظر، وعالم للخفي والجلي في كل وقت وآن فقد أشرك، والشيخ عبد القادر مع شهرة مناقبه وفضائله لم يثبت شرعاً أنه كان قادراً على سماع الاستغاثة والنداء من أمكنة بعيدة، وعلى إغاثة هؤلاء المستغيثين، واعتقاد أنه- رحمه الله- كان يعلم أحوال مريديه في كل وقت ويسمع نداءهم، من عقائد الشرك( [8]).

وهذه الكلمة فيها الاستشفاع بالمخلوق على الله تعالى، وقد استعظم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له الأعرابي: (إنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فقال: ويحك إن شأن الله عظيم) ( [9]).

ومن علماء الحنفية الذين صرحوا بكون دعاء الأموات وندائهم كفراً وشركاً، ونددوا بذلك وجاهدوا في سبيل ذلك- الشيخ محمد إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي الشهيد.

فمما قاله في رسالته المسماة رسالة التوحيد أو تقوية الإيمان ما ترجمته: (نداءُ الأموات من بعيد أو قريب للدعاء- إشراكٌ في العلم، وقال الله تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) [الأحقاف:5] وقد دلت هذه الآية على أن المشركين قد أمعنوا في السفاهة، فقد عدلوا عن الله القادر العليم إلى أناس لا يسمعون دعاءهم، وإن سمعوا ما استجابوا لهم، وهم لا يقدرون على شيء، فظهر من ذلك أن الذين يستغيثون بالصالحين الذين كانوا في الزمن السابق من بعيد، وقد يكتفي بعض الناس فيقولون: يا سيدنا ادع الله لنا يقضي حاجتنا، ويظنون أنهم ما أشركوا، فإنهم ما طلبوا منهم قضاء الحاجة وإنما طلبوا منهم الدعاء، وهذا باطل فإنهم وإن لم يشركوا عن طريق طلب قضاء الحاجة فإنهم أشركوا عن طريق النداء، فقد ظنوا أنهم يسمعون نداءهم عن بعد كما يسمعون نداءهم عن قرب، وكان ذلك سواء في حقهم، ولذلك نادوا من مكان بعيد، مع أن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) [الأحقاف:5].

ولهذا الدهلوي الشهيد في تلك الرسالة عدة تصريحات بشرك من دعا غير الله واستغاث به( [10]).

ومن علماء الحنفية الذين صرحوا بذلك الشيخ محمود الألوسي المفسر، حيث قال: (إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركاً، وإن لا يكنه فهو قريب منه، ولا أرى أحداً ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)( [11]).

ومن علماء الحنفية المتأخرين الذين نددوا بدعاء غير الله تعالى وصرحوا بكفر فاعله- العلامة محمد سلطان المعصومي، فقد ألف رسالة مهمة جامعة لأقوال علماء الحنفية السابقين الذين حكموا بالكفر على من طلب المدد من غير الله واستغاث به وناداه من دون الله، وسمى رسالته بـ(حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد).

أقوال علماء المالكية:

إن الإمام مالكاً -رحمه الله تعالى- قد تشدد في باب الدعاء، فمنع من قول الداعي يا سيدي وعدها من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنّة، وأمر بالالتزام في الأدعية باللفظ الوارد عن الأنبياء يا رب يا رب( [12]).

فإذا كانت سيرته هكذا من الالتزام والتقيد في باب الدعاء بالوارد- فلا يمكن أن يجيز التوسل المبتدع، فضلاً عن أن يجيز دعاء غير الله تعالى ونداءه والاستغاثة به، واللهج بذكره في كل وقت وآن، فالذي يمنع من قول الداعي المخلص لله أن يقول لله تعالى: يا سيدي، فمن باب أولى وأحرى أن يمنع من قول الداعي يا ولي الله فلان افعل لي كذا، فهذا ظاهر واضح.

ثم إن مالكاً -رحمه الله- كره الوقوف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء له أو الدعاء عنده( [13])، وكره لأهل المدينة التردد للسلام عليه( [14])، كما كره أن يقال: زرنا قبره صلى الله عليه وسلم( [15]).

فتحصل مما سبق أن الإمام مالكاً -رحمه الله- من أشد الناس محاربة للبدع، لاسيما في باب الدعاء، فمن هنا يفهم عدم تجويزه لما هو شرك من باب أولى، وعلماء مذهبه لا بد أنهم يتبعون منهجه في ذلك، فقد صرح بعضهم بما يفيد كفر من دعا غير الله تعالى، فممن صرح بذلك القاضي عياض -رحمه الله تعالى- حيث قال: (إن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية، أو عبادة أحد غير الله أو مع الله- فهو كفر)( [16])، فقوله: أو عبادة أحد غير الله أو مع الله، يدخل فيه من يدعو غير الله دخولاً أولياً؛ لأن الدعاء هو العبادة ولبها ومخها.

وقال القاضي أيضاً: (إن من نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر والاستخفاف، ولا عامد للإلحاد، فإن تكرر هذا منه وعرف به- دل على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزته وكبريائه، وهذا كفر لا مرية فيه)( [17]).

وقد ذكر القرافي المالكي الأدعية التي تخرج عن الإسلام، وبعضها أقل بكثير مما نحن فيه، ثم قال. (فينبغي للسائل أن يحذر هذه الأدعية وما يجري مجراها حذراً شديداً، لما تؤدي إليه من سخط الديانة والخلود في النيران، وحبوط الأعمال وانفساخ الأنكحة واستباحة الأرواح والأموال، وهذا فساد كله يتحصل بدعاء واحد من هذه الأدعية، ولا يرجع إلى الإسلام، ولا ترتفع أكثر هذه المفاسد إلاّ بتجديد الإسلام والنطق بالشهادتين، فإن مات على ذلك كان أمره كما ذكرناه، نسأل الله العافية من موجبات عقابه)( [18]).

أقوال علماء الشافعية:

إن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- أحد أئمة السنة الذين حاربوا البدعة ونشروا السنة، فهو وإن لم نجد له نصاً صريحاً في الموضوع لعدم وقوع هذه المسألة في عصره؛ ولكن وجدنا له نصاً يستنبط منه مذهبه في الموضوع، وهو أن الشافعي قال:

(من حلف باسم من أسماء الله فحنث، فعليه الكفارة؛ لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة؛ لأنه مخلوق، وذاك غير مخلوق).

فإذا كان الشافعي -رحمه الله- لا يرى الحلف بغير أسماء الله تعالى، فلا يعقل أن يجيز الدعاء بغير أسماء الله الحسنى، ولو كانت معظمة كالكعبة والصفا والمروة وأسماء الأنبياء.

وقد تبع الشافعي علماء مذهبه، وقد صرح بمنع مثل هذه الأدعية بعض متقدميهم.

فمنهم إمام الأئمة ابن خزيمة أحد كبار فقهاء المحدّثين ويعد من الشافعية( [19]) فإنه قال: (هل سمعتم عالماً يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله؟ أو يجيز أن يقول: أعوذ بالصفا والمروة، أو أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق؟

هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله، محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه( [20])).

ومنهم الإمام الخطابي الفقيه المحدث اللغوي، فإنه نقل كلام الإمام أحمد في عدم جواز الاستعاذة بالمخلوق فأقره( [21]).

ومنهم البيهقي الذي قال فيه إمام الحرمين: (ما من شافعي إلا وللشافعي عليه في عنقه منة، إلا البيهقي فإنه له على الشافعي منة، لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله) ( [22]).

فهذا الإمام البيهقي ذكر بعض أحاديث الاستعاذة بكلمات الله تعالى، ثم قال: (ولا يصح أن يستعيذ بمخلوق من مخلوق) ( [23]).

وممن صرح بكفر من دعا غير الله تعالى من علماء الشافعية الإمام المقريزي( [24]) الشافعي -رحمه الله- فإنه قال: (وشرك الأمم كله نوعان: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية، فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عباد الأصنام وعباد الملائكة وعباد الجن وعباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات، الذين قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة...)( [25]).

وقال في زيارة القبور: إنها على ثلاثة أقسام: (قوم يزورون الموتى فيدعون لهم، وهذه الزيارة شرعية، وقوم يزورونهم يدعون بهم، فهؤلاء هم المشركون في الألوهية والمحبة، وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم، وهؤلاء هم المشركون في الربوبية) ( [26]).

ومنهم أبو شامة( [27]) الشافعي فقد ذكر ما وقع من جهال العوام: من انتمائهم إلى طريقة الفقر والتصوف واعتقادهم في المشايخ المتصوفة الضالين المضلين، ثم قال: (وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها) ثم ذكر ما تفعله العامة من تخليق الحيطان والعمد وإيقاد السرج على المواضع، يزعم أحدهم أنه رأى في المنام أحداً ممن اشتهر بالصلاح والولاية، إلى أن يصل بهم الحال إلى تعظيم تلك الأماكن ورجاء الشفاء فيها وقضاء الحوائج منها بالنذر، وهي مما بين عيون وشجر وحائط وحجر... ( [28])

ومنهم ابن حجر الهيتمي الشافعي( [29]) في شرحه لحديث الأربعين، عند الكلام على حديث: {إذا سألت فاسأل الله} أن من اعتقد النفع والضر لغير الله كفر( [30])، وقد ألف كتاباً مستقلاً سماه: الإعلام بقواطع الإسلام ذكر فيه أنواعاً كثيرة من الأقوال والأفعال، كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام، وغالب ما ذكره لا يساوي عشر ما نحن فيه( [31])، وكثير مما ذكره أنه يخرج من الإسلام لم يرد فيه نص مثل ما ورد في دعاء غير الله تعالى من الأدلة الدالة على كفر مرتكبه.

أقوال علماء الحنابلة:

كان ممن صرح بكفر من دعا غير الله تعالى من علماء الحنابلة الشيخ أبو الوفا بن عقيل الحنبلي -رحمه الله- فقد قال: (لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركاً، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى...) ( [32]).

فقد صرح في هذا الكلام السابق بأن خطاب الموتى بالحوائج كفر.

وقد نقل هذا الكلام كثير من علماء الحنابلة وغيرهم( [33]) فأقروه، فهم قائلون بما قاله ابن عقيل من كفر من خاطب الموتى بالحوائج.

وقال ابن عقيل أيضاً في الكلام على الصوفية: (وقد سمعنا عنهم أن الدعاء عند حدو الحادي... مجاب، اعتقاداً منهم أنه قربة، وهذا كفر أيضاً؛ لأن من اعتقد المكروه والحرام قربة كان بهذا الاعتقاد كافراً، والناس بين تحريمه وكراهيته)( [34]).

فإذا كان ابن عقيل يكفر من اعتقد ذلك، فكيف بمن اعتقد استجابة الدعاء بواسطة الأولياء؟ فضلاً عمن دعاهم واستغاث بهم وناداهم سراً وجهاراً، واعتقد سماعهم وعلمهم به وبما هو فيه، فهذا بلا شك أشد كفراً ممن ذكره ابن عقيل -رحمه الله-، فمقتضى قوله أنه يكفر هؤلاء من باب أولى وأحرى.

ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد حكى الإجماع على كفر من جعل الواسطة بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم وأنه نقله كثير من علماء الحنابلة وغيرهم فأقروه( [35]).

وقال شيخ الإسلام أيضاً: فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أجرني، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل( [36]).

ومنهم ابن القيم -رحمه الله- فمن أقواله ما ذكره في مدارج السالكين في باب التوبة بقوله: (ومن أنواعه- أي! الشرك- طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها...)( [37]). وذكر -رحمه الله تعالى- زيارة القبور الزيارة الشرعية للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار، ثم قال: (فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإشراك به والإقسام على الله به وسؤاله الحوائج والاستعانة به والتوجه إليه، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت)( [38]).

وذكر -رحمه الله- أنه يجب على الإمام هدم الأمكنة التي يعصى الله فيها، فذكر مسجد ضرار، ثم قال: (فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بالهدم وأوجب)( [39]).

ومنهم الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله- فإنه قال ما ملخصه: إن المبالغة في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحج إلى قبره، والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء- فهذه المبالغة مبالغة في الشرك وانسلاخ من ذمة الدين( [40]).

ومنهم الحافظ ابن رجب -رحمه الله- فإنه قال: (إن قول العبد لا إله إلا الله- يقتضي أن لا إله له غير الله، والإله هو الذي يُطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالاً ومحبة وخوفاً ورجاءً، وتوكلاً عليه، وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول لا إله إلا الله ونقصاً في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك) ( [41]).

 

الهوامش


([1][1]) النبذة الشريفة ضمن مجموعة الرسائل النجدية: (4/602).

([1][2]) الفتاوى البزازية: (3/326) بهامش الفتاوى الهندية الجزء السادس، ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: (1/699)، والبحر الرائق لابن نجيم: (5/134).

([1][3]) القواعد النورانية: (128-129)، والنونية مع شرحها للهراس: (2/234).

([1][4]) البحر الرائق: (5/130)، ومجمع الأنهر: (1/699)، وشرح الفقه الأكبر للقاري: (221).

([1][5]) البحر الرائق: (2/298)، ورد المحتار على الدر المختار: (2/439)، وحكم الله الواحد: (12-13).

([1][6]) الفتاوى الخيرية: (1/182) نقلاً عن كتاب قيد الشرائد ونظم الفوائد لكن صاحب الفتاوى الخيرية نازعه في الحكم بالتكفير، رانظر أيضاً رسالة التوحيد: (141-142)، وحكم الله الواحد (ص:12).

([1][7]) رسالة التوحيد للدهلوي: (141-142)، والفتاوى الخيرية: (1/182).

([1][8]) مجموع فتاوى عبد الحي اللكنوي: (1/264) بواسطة تعليق أبي الحسن الندوي على رسالة التوحيد (ص:140-141).

([1][9]) أخرجه أبو داود: (5/94) (رقم:4724)، والدارمي في الرد على الجهمية (ص:41) (رقم:71)، وابن خزيمة في التوحيد (ص:69)، والآجري في الشريعة (ص:293)، وابن أبي عاصم في السنة: (10/294) (رقم:575)، واللالكائي في السنة (ص:394) (رقم:656)، والحديث قد استغربه الحافظ ابن كثير في التفسير: (1/310)، وضعفه الألباني لأن فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس لم يصرح بالسماع، ثم إن في إسناده اختلافاً، انظر ظلال الجنة: (1/252)، لكن ابن القيم قواه في تهذيب مختصر سنن أبي داود: (8/94-98) وقال ابن تيمية: وليس فيه إلا ما له شاهد من رواية أخرى، الفتاوى: (16/435)، هذا وقد توسعت في الكلام على هذا الحديث في رسالتي (جهود الإمام أبي داود السجستياني) وتبين من دراسته اختلاف النقاد في تقويته وتضعيفه، ورجحان ضعفه والله أعلم.

([1][10]) المرجع نفسه (ص:25، 28)، ومواضع أخر، فهذا الكتاب له تأثير قوي في شبه القارة الهندية يقابل تأثير كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع، انظر ما كتبه الشيخ إحسان إلهي ظهير في كتابه البريلوية (ص:168)، ومترجمه إلى العربية الشيخ أبو الحسن الندوي (ص:6)، والشيخ محمد عطاء الله حنيف في تقديمه لرسالة رد الإشراك (ص:3)، وما كتبه محقق الرسالة محمد عزيز شمس في المقدمة (ص:6).

([1][11]) روح المعا ني: (6/ 128)..

([1][12]) انظر العتبية مع البيان والتحصيل: (1/456) و(17/423).

([1][13]) الشفا للقاضي عياض: (2/ 671)، نقلاً عن المبسوط لإسماعيل القاضي، والمنتقى للباجي: (1/ 296)، والرد على الأخنائي: (46، 104)، والجواب الباهر: 59، 65، والصارم: 125..

([1][14]) العتبية: (18/444)، والشفا: (676)، والمنتقى: (1/296)، والرد على الأخنائي: (46، 96).

([1][15]) الشفا: (2/667)، والجواب الباهر: (58)، والصارم: (263، (271-279)، ومجمع البحار: (2/444).

([1][16]) الشفا لعياض: (2/ 1065- 1066)..

([1][17]) المصدر السابق: (2/ 1093)..

([1][18]) الفروق للقرافي: (4/ 265)..

([1][19]) طبقات الشافعية للسبكي: (3/ 109)..

([1][20]) كتاب التوحيد: (1/ 401- 402)..

([1][21]) معالم السنن: (4/ 332- 333)..

([1][22]) طبقات الثافعية: (4/10-11).

([1][23]) الأسماء والصفات للبيهقي: (241).

([1][24]) هو أحمد بن علي بن عبد القادر أبو العباس الحسيني البعلي القاهري المعروف بالمقريزي، أحب علم الحديث فواظب عليه حتى اتهم بالظاهرية وله جهود في خدمة العقيدة السلفية، وكان متبحراً في التاريخ ومؤلفاته تشهد بذلك كما قاله الشوكاني، (ت:845هـ)، البدر الطالع: (1/79-81).

([1][25]) تجريد التوحيد: (14).

([1][26]) المصدر نفسه: (20).

([1][27]) هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الشافعي الدمشقي عني بالحديث وبرع في فنون العلم وقيل بلغ رتبة الاجتهاد وصفه الذهبي بالحافظ العلامة المجتهد (ت:665هـ)، تذكرة الحفاظ: (4/1460)، وطبقات الشافعية: (8/165).

([1][28]) الباعث على إنكار البدع والحوادث: (23).

([1][29]) هو أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي بالتاء المثناة المكي الفقيه الصوفي يعتمد على تآليفه المتأخرون من الشافعية والرجل له مناصرة لبعض البدع عفا الله عنه (ت:974هـ)، انظر فهرس الفهارس: (1/337).

([1][30]) الفتح المبين: (174)، وقارن بما في مفيد المستفيد: (405)، والدر النضيد: (40).

([1][31]) مفيد المستفيد: (305-306).

([1][32]) تلبيس إبليس (ص:402)، وإكائة اللهفان: (1/152)، ومفيد المستفيد: (301)، والدر النفحيد: (40)، وتيسير العزيز: (228).

([1][33]) فقد نقله ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص:402)، وابن القيم في الإغاثة: (1/152)، وابن مفلح في الفروع:، وابن عبد الوهاب في مفيد المستفيد (ص:301)، والشوكاني في الدرة (40).

([1][34]) تلبيس إبليس: (373)..

([1][35]) انظر ذلك تحت عنوان: المبحث الثالث: في حكم من دعا غير الله تعالى.

([1][36]) الوصية الكبرى إلى الشيخ عدي ضمن الفتاوى: (3/ 395)، وعنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرسائل الشخصية ص: (177)، ومفيد المستفيد ص: (291)..

([1][37]) مدارج السالكين: (1/346).

([1][38]) زاد المعاد: (1/ 527)..

([1][39]) زاد المعاد: (3/ 571، 507)..

([1][40]) الصارم المنكي ص: (351)..

([1][41]) كلمة الإخلاص وتحقيق معناها: (23- 24)..

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
أقوال علماء المذاهب في حكم دعاء غير الله تعالى.doc doc
أقوال علماء المذاهب في حكم دعاء غير الله تعالى.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى