بدعة التنطع بالقراءة والوسوسة في مخارج الحروف والبعد عن التدبر والتأمل

بدعة التنطع بالقراءة والوسوسة في مخارج الحروف والبعد عن التدبر والتأمل






الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ كانت قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم وخيار السلف من الصحابة والتابعين والقراء العالمين سهلةً، ولم يكن في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ولا في قراءة أحد من هؤلاء الأخيار تنطعٌ ولا وسوسةٌ في مخارج الحروفِ، وبل كانوا يقرءون القرآنَ بلغاتهم، كما قال الإمام ابن قتيبة - رحمه الله -: (وقدْ كانَ الناسُ يقرءون القرآنَ بلغاتِهم، ثم خَلَفَ من بعدِهم قومٌ من أهلِ الأمصارِ، وأبناءِ العجمِ ليس لهم طبعُ اللغةِ، فهفوا في كثيرٍ من الحروفِ وزلُّو فأخلُّوا).

فتبيَّن من هذا أن التنطع في قراءة القرآن والوسوسة في مخارج الحروف من البدع المحدثة، وهو من أعظم مكايد الشيطان على المتعبدين ومن الغرور في الدين.

قال أبو حامد الغزالي في ذكر أصناف المغرورين من أرباب العبادة والعمل، قال: (وفرقةٌ أخرى: تغلبُ عليهم الوسوسةُ في إخراجِ حروفِ الفاتحةِ وسائرِ الأذكارِ من مخارجِها، فلا يزالُ يحتاطُ في التشديدات والفرقِ بينَ الضاد والظاء، وتصحيح مخارج الحروفِ في جميعِ صلاتِه، لا يهمُّه غيرُه، ولا يتفكرُ فيما سواه، ذاهلًا عن معنى القرآنِ والاتعاظِ به وصرفِ الفهمِ إلى أسرارِه، وهذا من أقبحِ أنواع الغرورِ، فإنه لم يُكَلَّف الخلقُ في تلاوةِ القرآنِ من تحقيقِ مخارج الحروفِ إلا بما جَرَت به عادتُهم في الكلامِ.

ومثال هؤلاء: مثالُ من حملَ رسالةً إلى مجلسِ سلطانٍ وأُمِرَ أن يؤديها على وجهِها، فأخذَ يؤدي الرسالةَ وتأنقَ في مخارج الحروفِ ويكررُها ويعيدُها مرةً بعد أخرى، وهو في ذلك غافلٌ عن مقصودِ الرسالةِ ومراعاةِ حرمةِ المجلسِ، فما أحراه بأن تُقام عليه السياسة ويُرَدُّ إلى دارِ المجانين ويُحكم عليه بفقدِ العقلِ)([1]).

وقال الحافظ الذهبي - رحمه الله -: (فالقرَّاءُ المجوِّدَةُ: فيهم تنطعٌ وتحريرٌ زائدٌ يؤدي إلى أن المجودَ القارئَ يبقى مصروفَ الهمةِ إلى مراعاةِ الحروفِوالتنطع في تجويدِها، بحيثُ يشغلُه ذلكعن تدبرِ معاني كتابِ اللهِ تعالى، ويصرفه عن الخشوعِ في التلاوةِ، ويخلِّيه قوي النفس مزدريًا بحفاظ كتاب الله تعالى، فينظر إليهم بعين المقت، وبأن المسلمين يلحنون، وبأن القرَّاءَ لا يحفظون شواذَّ القراءةِ، فليتَ شِعري أنت ماذا عرفتَ وما عملتَ؟! فأما علمُك فقيرٌ صالحٌ، وأما تلاوتُك فثقيلةٌ عريةٌ من الخشيةِ والحزنِ والخوفِ، فاللهُ تعالى يوفِّقُكَ ويُبَصِّرُكُ رُشْدَكَ، يوقظك من مرقدةِ الجهلِ والرياءِ.

وضدُّهم قراءُ النغمِ والتمطيطِ، وهؤلاء من قرأ منهم بقلبٍ وخوف قد يُنتفع به في الجملة، فقد رأيتُ منهم من يقرأ صحيحًا ويطربُ ويبكي، ورأيتُ منهم من إذا قرأَ قسَّى القلوبَ وأبرمَ النفوسَوبدل كلام اللهِ، وأسوأُهم حالًا الجنائزية([2]).

وأما القراءة بالروايات وبالجمع فأبعد شيء عن الخشوع، وأقدم شيءٍ على التلاوة بما يُخرِج عن القصد، وشعارهم في تكثير وجوه حمزة وتغليظ تلك اللامات وترقيق الراءات، اقرأ يا رجل وأعفنا من التغليظ والترقيق، وفرط الإمالة والمدود، ووقوف حمزة، فإلى كم هذا؟!

وآخر منهم إن حضر في ختم أو تلا في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت والتهوع بالتسهيل، وأتى بكل خلاف ونادى على نفسه أنا "أبو ... اعرفوني، فإني عارف بالسبع"، إيش نعمل بك؟! لا وصبحك الله بخير، إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة)([3]).

وعلى هذا المعنى جاء كلامُ غيرهم من أهل العلم، فهذا الإمام ابن القيم - رحمه الله– يقولوهو يذكر مكائد الشيطان على الإنسان: (ومنْ ذلك: الوسوسةُ في مخارج الحروفِ، والتنطع فيها ... ومنْ تأملَ هديَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وإقرارَه أهلِ كلِّ لسانٍ على قراءتِهم؛ تبيَّنَ له أن التنطعَ والتشدقَ والسوسةَ في إخراجِ الحروفِ ليس من سنته)([4]). 



([1]) الإحياء، الغزالي، (3/510).

([2]) الجنائزية: نسبة إلى الجنائز، لعله يقصد القراء الذين يقرءون القرآن على الجنائز بالألحان المحرمة على ما سبق بيانه، والله أعلم.

([3]) بيان زغل العلم بالطلب، الذهبي، ص(4-5)، طبعة المقدسي، وانظر: بدع القراء القديمة والمعاصرة، بكر أبو زيد، ص(24-25).

([4]) إغاثة اللهفان، ابن القيم، (1/252، 254)، وانظر: بدع القراء القديمة والمعاصرة، بكر أبو زيد، ص(10).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
بدعة التنطع بالقراءة والوسوسة في مخارج الحروف والبعد عن التدبر والتأمل.doc doc
بدعة التنطع بالقراءة والوسوسة في مخارج الحروف والبعد عن التدبر والتأمل.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى