النبي صلى الله عليه وسلم وليلة القدر

النبي صلى الله عليه وسلم وليلة القدر



الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (منْ قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غفرَ لهُ ما تقدمَ من ذنبِه)([1]).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلَ رمضانُ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ هذا الشهرَ قد حضركم، وفيه ليلةٌ خيرٌ منْ ألفِ شهرٍ من حُرمَها فقدْ حُرم الخيرَ كلَّه ولا يحرمُ خيرَها إلا محرومٌ) ([2]).
ليلةٌ عظيمةُ القدرِ، رفيعةُ الشأنِ، من حازَ شرفَها فازَ وغَنِمَ، ومن خسرَها خابَ وحُرِمَ، العبادةُ فيها خيرٌ من عبادةِ ألفِ شهر.
ليلةُ القدرِ ليلةٌ ليست كبقيةِ الليالي، أجرُها عظيم، وفضلُها جليل، المحرومُ من حُرمَ أجرَها ولم ينلْ من خيرِها.
ليلةٌ مباركةٌ يكفي بها قدرًا أن الله جل شأنه أنزلَ فيها خيرَ كتبه، وأفضلَ شرائعِ دينه، يقول الله تعالى فيها {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر1-5].
(وهذه النصوصُ القرآنيةُ التي تذكرُ هذا الحدثَ تكادُ ترف وتنير، بل هي تفيضُ بالنورِ الهادئِ الساري الرائقِ الودودِ، نورُ الله المشرقُ في قرآنه الكريم)([3]).
ويقول الله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 3 - 5].
وقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، أي تقدَّرُ في تلكَ الليلةِ مقاديرُ الخلائقِ على مدى العامِ، فيكتبُ فيها الأحياءُ والأمواتُ والناجون والهالكون والسعداءُ والأشقياءُ والعزيزُ والذليلُ والجدبُ والقحطُ وكلُّ ما أراده الله تعالى في تلكَ السنةِ.
والمقصودُ بكتابةِ مقاديرِ الخلائقِ في ليلةِ القدرِ أنها تُنقلُ في ليلةِ القدرِ من اللوحِ المحفوظِ.
وسببُ تسميتها بليلةِ القدرِ؛ يقول عنها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
أولًا: سميتْ ليلةُ القدرِ من القدرِ وهو الشرفُ كما تقول فلانٌ ذو قدرٍ عظيمٍ، أي ذو شرف.
ثانيًا: أنه يقدرُ فيها ما يكونُ في تلك السنةِ، فيكتبُ فيها ما سيجري في ذلك العام، وهذا من حكمةِ الله عز وجل وبيانِ إتقانِ صنعِه وخلقِه.
ثالثًا: وقيل لأنَّ للعبادةِ فيها قدرٌ عظيمٌ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم (منْ قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غفرَ له ما تقدمَ من ذنبِه)([4]).
أما عنْ وقتِها وموعدِ ليلةِ القدرِ: فعن أبي سلمةَ رضي الله عنه قال انطلقتُ إلى أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه فقلتُ: ألا تخرجُ بنا إلى النخلِ نتحدثُ فخرجَ فقال قلت: حدثني ما سمعتَ من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلةِ القدرِ؟ قال اعتكفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عشرَ الأولِ من رمضانَ واعتكفنا معه.
فأتاه جبريلُ فقال: إن الذي تطلبُ أمامك، فاعتكف العشرَ الأوسطَ فاعتكفنا معه.
فأتاه جبريلُ فقال: إن الذي تطلبُ أمامك، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيبًا صبيحةَ عشرين من رمضان فقال: منْ كانَ اعتكفَ مع النبي صلى الله عليه وسلم فليرجعْ فإني أُرِيت ليلةَ القدرِ وإني نُسِّيتُها وإنها في العشرِ الأواخرِ وفي وترٍ وإني رأيتُ كأني أسجدُ في طينٍ وماءٍ.
وكان سقفُ المسجد جريدَ النخل وما نرى في السماء شيئًا فجاءتْ قزعة [وهي: قطعة رقيقة من السحاب] فأمطرنا فصلى بنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى رأيتُ أثر الطينِ والماءِ . على جبهةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأرنبتِه [وهي: طرف أنفه])([5]).
وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالًا من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلةَ القدرِ في المنامِ في السبع الأواخرِ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قدْ تواطأتْ في السبعِ الأواخرِ فمنْ كانَ متحريها فليتحرَّها في السبعِ الأواخرِ)([6]).
ولقد ثبت من الأحاديثِ الشريفةِ الصحيحةِ أنها تأتي في الوترِ من العشرِ الأواخرِ (ليلةَ الحادي والعشرين أو الثالثِ والعشرين أو الخامسِ والعشرين أو السابعِ والعشرين أو التاسعِ والعشرين).
وقد خرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليخبرَ صحابتَه رضي الله عنهم بليلةِ القدرِ فتلاحى رجلانِ من المسلمينَ فقال: (خرجتُ لأخبرَكم بليلةِ القدرِ فتلاحى فلانٌ وفلانٌ فرفعتْ وعسى أن يكونَ خيرًا لكمْ فالتمسوها في التاسعةِ والسابعةِ والخامسةِ) ([7]).  
ولعلَّها لم تُحَدَّد بشكلٍ قطعيٍّ حتى يجتهدَ المسلمونَ في طلبها في العشرِ الأواخرِ بالقيامِ والدعاءِ.
ولكن لنا مع هذا الحديثِ وقفة فالله جل وعلا يربِّي صحابتَه الكرام على المحبةِ والألفةِ، وعدمِ التباغض والبعدِ عن الخصومةِ، بل لقد قال صلى الله عليه وسلم: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلا رَجُلا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)([8]).
 وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ)([9]).
فأخوةُ المؤمنيين أمرٌ عظيمٌ ينبه الله جل وعلا عليه صحابتَه الكرام وينبهُنا من بعدهم، بل ويسميها سبحانه وتعالى بنعمةٍ هي من أجلِّ النعمِ على عباده الموحدين، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
(هذه الأخوةُ المعتصمةُ بحبلِ اللهِ نعمةٌ يمتنُّ الله بها على الجماعةِ المسلمين الأوائلِ، وهي نعمةٌ يهبها الله لمن يحبُهم من عبادِه دائمًا، وهو هنا يذكرُهم هذه النعمةَ، يذكرهم كيف كانوا أعداءً فألفَ الله بين القلوبِ بالإسلامِ؛ وما كان إلا الإسلامُ وحدَه يجمعُ هذه القلوبِ المتنافرة)([10]).
أما عن رحمتِه سبحانه وتعالى في ليلةِ القدرِ فحدِّث ولا حرج، أليسَ هو القائل جل وعلا؛ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
فهي ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، يكثرُ فيها العفوُ، وتسطرُ فيها بأقلامٍ من نورٍ أقلامُ الفائزين بعفوِ الله ورضوانه، فقط شمرْ عن ساعدِ الجدِ وأكثرْ من الابتهالِ إلى ربِّك بدعاءِ نبيك الذي نصحَ به عائشة رضي الله عنها فقال: (قولي: اللهمَّ إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي).
ولكن احذر أيها المريد، فمن اتكل على رحمةِ الله وعفوِه ولم يحسنْ العملَ أو يقدمْ ما يبرهنُ على صدقه فهو المغبونُ الذي خسرَ دنياه وآخرته، فربُّك الغفورُ هو ذاته شديدُ العقابِ، وبيدِه خلقُ الجنةِ والنارِ، وهو الذي يحذرنا نفسه قائلًا سبحانه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}.
فمن طمعَ في رحمةِ الله وتحججَ بحسنِ الظنِّ به ثم قعدَ عن العملِ والطاعةِ، فهو كالمنبتِّ لا أرضًا قطعَ ولا ظهرًا أبقى، وهؤلاء هم منْ قال في حقِّهم الحسنُ البصري رحمه الله (كذبُوا واللهِ لو أحسنُوا الظنَّ لأحسنوا العملَ(.
فاقرنْ رجاءَك بخوفِك، واسألِ الله العتقَ من النيرانِ كما تسألُه الفوزَ بالجنانِ، فلا خابَ أبدًا من عبدَ اللهَ بالخوفِ والمحبةِ معًا.
وقد روي أن الحجاجَ بن يوسف الثقفي طاغيةَ بني أمية حين موتِه نادى ربه فقال: (اللهمَّ اغفرْ لي فإنَّهم يقولونَ إنَّك لن تغفرَ لي).
وحين سمع الحسنُ البصريُ تلك المقولة قال: أوقدْ قالها؟ واللهِ أخشى أن يغفرَ الله لهُ بها.
فلما قسَا قلبِي وضاقتْ مذاهبي                    جعلتُ الرجا مني لعفوكِ سلما
تعاظمنِي ذنبِي فلما قرنتُه                        بعفوكَ ربي كانَ عفوكَ أعظما
فما زلتَ ذا جودٍ وفضلٍ ومنةٍ                      تجودُ وتعفو منةً وتكرما
وهذه بعض الخطوات على طريق العمل:
1. اكثر من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهمَّ إنك عفوٌّ تحبُ العفوَ فاعفُ عنا) وخاصةً في الليالي الوترية.
2. احرص على صلاةِ التهجدِ في الليالي العشرِ الأواخرِ من رمضانَ وأكثر فيها من الدعاء.
3. اتصل على كلِّ من تقدرُ من أقاربك لتصلَ رحمك حتى لو كانت بينكم خصومة.
4. اتصل على كلِّ من له خصومة معك وصالحه حتى لا تطرد من رحمة الله.
5. حاول الإصلاح بين كل متخاصمين تعرفهم حتى تأخذ الأجر والثواب.
الهوامش

([1]) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان، رقم الحديث: (1901)، ورواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان، رقم الحديث: (760).

([2]) رواه ابن ماجه في سننه، (1644), وصححه الألباني.

([3]) في ظلال القرآن، سيد قطب، (8/73).

([4]) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان، رقم الحديث: (1901)، ورواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان، رقم الحديث: (760).

([5]) رواه البخاري، (780).

([6]) رواه البخاري، (1191).

([7]) رواه البخاري، (1919).

([8]) رواه  مسلم (2565).

([9]) رواه البخاري (5727)، ومسلم (2560).

([10]) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/411).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
النبي صلى الله عليه وسلم وليلة القدر.doc doc
النبي صلى الله عليه وسلم وليلة القدر.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى