اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم

اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم





الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أنَّ رسولَ الله كانَ يعتكفُ في العشرِ الأوسطِ من رمضانَ, فاعتكفَ عامًا حتَّى إذا كان ليلة إحدى وعشرين - وهي اللَّيلة التي يخرجُ من صبيحتها من اعتكافه- قال: (منْ كانَ اعتكفَ معي فليعتكفْ العشرَ الأواخر, وقدْ أريتُ هذه الليلةَ ثم أنسيتها, وقد رأيتَني أسجدُ في ماءٍ وطينٍ من صبيحتِها, فالتمسوها في العشرِ الأواخرِ, والتمسوها في كلِّ وترٍ).

فمطرت السَّماء تلك الليلة وكان المسجدُ على عريش, فَوَكَفَ المسجدُ فبصرت عيناي رسولَ الله على جبهتِه أثر الماءِ والطينِ من صبح إحدى وعشرين([1]).

و(كان رسولُ الله إذا دخلَ العشْرُ أحيا اللَّيل, وأيقظ أهلَه, وجدَّ وشدَّ المئزر)([2])، كما قالت عائشة رضيَ الله عنها.

وقالت رضي الله عنها: (كانَ رسول الله يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ ما لا يجتهدُ في غيره)([3]).

أما عليُّ بن أبي طالب رضيَ الله عنه فيقول: (كان رسولُ الله يوقظُ أهلَه في العشرِ الأواخرِ من شهر رمضانَ, وكلَّ صغيرٍ وكبيرٍ يطيقُ الصلاةَ)([4]).

وتروي لنا عن حياته صلى الله عليه وسلم أمُّنا أمُّ المؤمنينَ الصديقةُ بنتُ الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: (أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يعتكفُ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ حتَّى توفَّاه الله, ثم اعتكف أزواجُه من بعدِه)([5]).

وتقولُ أيضًا رضي الله عنها: (وإن كانَ رسولُ الله ليُدْخِل عليَّ رأسِه وهو في المسجدِ فأرَجِّلُه, وكانَ لا يدخلُ البيتَ إلاَّ لحاجةٍ إذا كان معتكفًا) ([6]).

أما أبوها ورفيق النبيِّ صلي الله عليه وسلم الصديق يقول عنه ابنه عبد الرحمن: (كانَ أبو بكر يُصَلي في رمضانَ كصلاته في سائرِ السنةِ, فإذا دخلت العشرُ اجتهدَ)([7]).

بل ويصحُ أن نقول: إن اعتكافَ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو من قبيلِ إحياءِ السنن القديمةِ التي ترجع إلى ما قبل سيدنا إبراهيم عليه السلام، يلفتُنا إلى ذلك لفتًا شديدًا قولُه تعالى في سورة البقرة: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة : 125].

لكن أينَ اعتكف النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟

تعالوا بنا إخواني في الله نتعرف على الموضعِ الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكفُ فيه، فقد قال نافع مولى ابن عمر: (وقدْ أراني عبد الله بن عمر المكانَ الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعتكفُ فيه من المسجدِ)([8]).

 نعم! هذا هو اتباعُ الأثرِ، وتعقبُ السنَّة، واقتفاءُ السبيلِ، وهذا هو طريقُ الهدي وأصلُ الفلاح.

فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا اعتكفَ طُرحَ له فراشُه، أو يُوضعُ له سريرُه وراءَ إسطوانةِ التوبةِ)([9]).

وهذه الأسطوانة هي الرابعة من ناحية المنبرِ، فهي تلي أسطوانة عائشةَ من جهةِ المشرقِ بلا فاصلٍ، وهي الثانيةُ من ناحيةِ القبرِ، والثالثةُ من ناحيةِ القبلةِ، وشرقي هذه الأسطوانة تقعُ أسطوانة أخرى اسمها "أسطوانة السرير"، ذُكر أن سرير النبي صلى الله عليه وسلم كان يوضع عندها.

واعتكف النبيُّ صلى الله عليه وسلم من منطلقِ التشميرِ للطاعاتِ في مواعيدِ القربِ، والاغترافِ من معين البركاتِ حين تتفسحَ الطرقاتُ، وتتكشفَ الأغطيةُ، وهو من فنونِ العبادةِ التي يؤتاها الصادقون في مودتِهم مع الله جل وعلا، ومن فقهِ الطاعةِ الذي يُمنحه الموفقون في سلوكهم إليه تعالى، وكانَ صلى الله عليه وسلم هو رائدُهم وفرطُهم ومقدمُهم، به الاقتداءُ، ومنه الاهتداءُ صلوات ربي وسلامه عليه.

وحقيقةُ الاعتكافِ: قطعُ العلائقِ عن الخلائقِ للاتصالِ بخدمةِ الخالقِ سبحانه وتعالى، وهذه حقيقةُ الاعتكافِ عند ذَوي البصائرِ؛ واعتكافُ الصَّالحينَ انقطاعٌ عن الخلقِ, وأنسٌ باللهِ, ونسيانٌ للشَّهَواتِ والرَّغباتِ الطبعيَّة. ولَعَلَّ هذا هو السرُّ في امتناعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن مثلِ ذلك, فقد كانَ يشدُّ مئزرَه, وذلك كناية عن الإقلالِ منَ الطَّعامِ والشَّرابِ والجماعِ.

وكُلَّما قويتْ المعرفةُ بالله والمحبةُ له والأنسُ به، أورثتْ صاحبَها الانقطاعَ إلى الله تعالى بالكُليَّة على كلِّ حالٍ.

ولهذا قال عطاءُ إنَّ مثلَ المعتكفَ مثلَ المُحْرم ألقى نفسَه بين يدَي الرحمن، فقال: واللهِ لا أبرحُ حتى ترحمَني([10]).

لنقرأْ سويًا قولَ الله تعالى في سورة البقرة: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].

(والمتفقُ عليه عند العلماءِ: أن المعتكفَ يحرمُ عليه النساءُ ما دام معتكفًا في مسجدِه، ولو ذهبَ إلى منزلِه لحاجةٍ لابد له منها فلا يحلُّ له أن يتلبثَ فيه إلا بمقدارِ ما يفرغُ من حاجتِه تلك، من قضاءِ الغائطِ، أو أكلٍ، وليس له أن يقبلَ امرأتَه، ولا يضمَها إليه، ولا يشتغلَ بشيء سوى اعتكافِه، ولا يعودَ المريضُ، لكن يسألُ عنه وهو مارٌّ في طريقه.

يقول حبرُ هذه الأمةِ عبد الله بن العباس عن الآية: هذا في الرجلِ يعتكفُ في المسجدِ في رمضانَ أو في غيرِ رمضانَ، فحرَّمَ اللهُ عليه أن ينكحَ النساءَ ليلًا ونهارًا حتى يقضيَ اعتكافَه)([11]).

ومعروفٌ أنه صلى الله عليه وسلم كانَ إذا اعتكفَ ضُربَ له خباءٌ، وهو قبةٌ تشبه الخيمةَ، وهذا أعونُ على الخلوةِ، والانصرافِ إلى الله، والانقطاعِ عن الشواغلِ الخارجيةِ، وفي هذا تمامُ السكينةِ بمناجاةِ الحقِّ سبحانه.

واعتكافُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذًا هو اعتكافُ الروحِ والجسدِ إلى جوارِ الربِّ الكريمِ المنانِ في خلوةٍ مشروعةٍ تتخلصُ النفسُ من أوضارِ المتاعِ الفاني، واللذةِ العاجلة، وتبحرُ الروح في الملكوتِ الطاهرِ؛ طالبةً القربِ من الحبيبِ مالكِ الملكِ، ملتمسةً لنفحاتِه المباركات.

إنه التعبيرُ عن الشوقِ إلى اللهِ واللجوءِ إلى حماهُ سبحانه، والاشتغالُ به عمن سواه، لا يخلو وقتَه عن عرضِ القرآنِ ومدارستِه معَ جبريلَ عليه السلام، أو الصلاةِ وقراءةِ القرآن، وألوانِ العبادةِ الروحيةِ، يشغلُه ذلك عن عيادةِ المريضِ وشهودِ الجنائزِ.

فالاعتكافُ المسنون هو الخلوةُ الصادقةُ مع اللهِ تفكرًا في آلائِه ومننِه وفضائلِه، واعترافًا بربوبيتِه وإلهيتِه وعظمتِه، وإقرارًا بكل حقوقِه، وثناءً عليه بكلِّ جميلٍ ومحمودٍ.

أخي القارئ لا تكنْ كصاحبِ الشنطةِ وهي قصةٌ طريفةٌ يحكيها أحدُ الدعاةِ عن مُعتَكِفٍ لا يدركُ حقيقةَ الاعتكافِ وطبيعتِه:

فحينما كانَ ذلك الداعيةُ المباركُ يعتكفُ مع بعضِ إخوانِه في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ، في مسجدٍ يقعُ في أحدِ الأحياءِ الراقيةِ بإحدى عواصم الدولِ العربيةِ الكبرى، وبعد أن صلوا صلاةَ التراويحِ جاءَ إليه رجلٌ منْ عِلْيَةِ القومِ مستفسرًا عن حالِهم، وماذا يفعلونَ في المسجدِ؛ بعدما رأى ثيابَهم وفُرُشَهم التي وضعوها جانبًا.

 فقال الشيخُ: نحن هنا لنعبدَ اللهَ تعالى في العشرِ الأواخرِ، نرجو بذلكَ أن تُعتَقَ رقابُنا من النارِ بكرمِ أكرمِ الأكرمين، فسأله الرجلُ: وهل تسمحُ لي أن أعتكفَ معكم؟ فقال الشيخ: تفضَّل، على الرحبِ والسعةِ.

 فاستأذنَ الرجلُ أن يذهبَ ليأتيَ بمتاعِه وفُرُشِه وثيابِه، وما هي إلا سويعاتٍ حتى فوجئَ الجميعُ بذلك الرجلِ يدخلُ عليهم المسجدَ، وقد سبقَه أربعٌ من خدمِه يحملونَ من الحقائبِ ما إنَّ ثقلَها لينوءُ بالعصبةِ أولي القوةِ، فإذا بهم يُخرجونَ من أحداها صندوقًا كبيرًا من السيجارِ الكوبِي الفاخر، ومن أخرى جهازَ الفيديو، ومن الثالثةِ جهاز التلفازِ، غيرَ الأغطيةِ الفاخرةِ والثيابِ الغالية.

فالاعتكافُ يساعدُك على التخلُّصِ من رواسبِ الماضي المظلمِ؛ فأحدُهم يحملُ في حقيبتِه إدمانًا لسماعِ الأغاني ورؤيةِ الأفلامِ والمسلسلات، والآخرُ يحملُ في حقيبتِه علاقةً مع زميلةٍ له في الجامعةِ، وثالثٌ يحملُ في حقيبتِه تعلقًا بسيجارةٍ، أو حبًّا لمالٍ أو منصبٍ أو جاه.

فلسانُ أحدِهم يقول:

أهوى هوى الدينِ واللذاتِ تعجبُني                فمنْ لي بهـــوى اللــــذاتِ والديـــــــــنِ

لكنْ الخلوة بالله واللجوء إليه في بيتِه تمنحُك قوةً لا بعدها قوة، واستعانةً بالعظيمِ سبحانه في مسجدِه، لتخرجَ بعد الاعتكافِ وقد تبتَ إليه وتقبلَك في عبادِه الصالحين.

وهذه خطوات على طريق العمل:

اجتهد أن تعتكفَ في العشرِ الأواخرِ لتتحرى ليلةَ القدرِ، قدرَ استطاعتِك.

اشغل نفسك بالتفكرِ والتأملِ في حالك وتقصيرك وفي عفوِ اللهِ ورحمتِه وقربِه من عبدِه الطائعِ.

أكثر من دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم (اللهمَّ إنك عفوٌ تحبُ العفوَ فاعفُ عنا).

 
almagdy3@gmail.com 

([1]) رواه البخاري، (1923).

([2]) رواه مسلم، (1174).

([3]) رواه مسلم، (1175).

([4]) رواه الطبراني في الأوسط، (7425).

([5]) رواه البخاري، (1922).

([6]) رواه البخاري، (1923).

([7]) رواه البخاري، (1925).

([8]) رواه مسلم، (2838).

([9]) رواه ابن ماجه، (1774)، وهو حديث حسن، مصباح الزجاجة، (635).

([10]) شُعب الإيمان للبيهقي، (3970).

([11]) تفسير ابن كثير، (1 / 519).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم.doc doc
اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى