تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في رمضان

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في رمضان





الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي

يقولُ عبدُ اللهِ بين أبي أوفى رضي الله عنه: (كنَّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في شهرِ رمضان، فلما غابتِ الشمسُ قال: يا فلان انزلْ فأجدح لنا، قال: يا رسول الله إن عليك نهارًا؛ قال: انزل فاجدح لنا؛ قال: فنزل فجدح فأتاه به فشرب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال بيده: إذا غابتِ الشمسُ منْ هاهنا وجاءَ الليلُ من هاهنا فقدْ أفطرَ الصائمُ)([1]).

والجَدْحُ: هو تحريكُ الحنطةِ والشعيرِ بالماءِ واللبنِ ونحوه حتى يستوى.

هكذا كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حريصٌ على تعليمِ صحابتِه ونصيحتِه لهم، والمتأملُ في سيرته صلى الله عليه وسلم في شهرِ رمضانَ يرى بجلاءٍ أنه قد تقلبَ بين صحابته الكرام بين أحوالٍ عدة وصورٍ رائعةٍ من الرعاية والتزكية، والتي تمتلئُ بالحنانِ والرحمةِ، وتجودُ بالرفقِ والرأفةِ، والحرصِ على السعادةِ، والاستقرارِ في هذه الحياةِ الدينا والظفرِ بالنجاةِ حين ملاقاةِ الله تعالى والوقوفِ بين يديه في الآخرةِ.

وفي حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (منْ ذرَعَه القيءُ فليسَ عليه قضاءٌ، ومن استقاءَ فلْيقضِ) ([2]).

وللدعاةِ في شهرِ رمضانَ مهمةٌ تعليميةٌ ودعويةٌ، وذلك من خلالِ بذلِ غايةِ الجهدِ في تعليمِ الناسِ وتفقيههم وتعريفِهم حقيقةَ الإسلامِ والإيمانِ، واستثمارِ إقبالِهم على المساجدِ في تعميقِ دينِهم، واستصلاحِ قلوبِهم وأعمالِهم وتقويةِ استقامتِهم ووقايتِهم من سبلِ الإغواءِ وتربيتِهم على الخيرِ وأعمالِ البرِّ.

ولطالما استخدم النبيُ صلى الله عليه وسلم وسائلَ التحفيزِ لأصحابِه للمبادرةِ للعملِ الصالح: فيخبرهم صلى الله عليه وسلم قائلًا عن رب العزة تبارك وتعالي: (والذي نفسي بيدِه لخلوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عند اللهِ من ريحِ المسكِ، يتركُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي؛ الصيامُ لي وأنا أجزي بهِ والحسنةُ بعشرةِ أمثالِها)([3]).

وفي لفظٍ لمسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يضاعفُ الحسنةُ بعشرةِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضعفِ، قال الله عز وجل: إلا الصومُ فإنَّه لي وأنَا أجزي بهِ يدعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي؛ وللصائمِ فرحتانِ: فرحةٌ عندَ فطرِه وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربه)([4]).

وتحفيزُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لصحابتِه الكرامِ دليلٌ على حرصِه على ما ينفعُ صحبَه الكرام رضي الله عنهم وعلى أن النفوسَ مهما بلغتْ من الكمالِ والمسابقةِ في الخيراتِ لم تستغنِ عن النصحِ والتوجيه ترغيبًا وترهيبًا.

فالوعظُ أسلوبٌ نبويٌّ كريمٌ يحتاجُ إليه كلُّ أحدِ، لكنْ بأسلوبٍ حكيمٍ يتحينُ فيه الواعظُ المكانَ والزمانَ المناسبين، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتخولُنا بالموعظةِ في الأيامِ كراهةَ السآمةِ علينا)([5]).

أي: يتعهدُنا بالتذكيرِ مراعيًا أوقاتَ نشاطِنا ولا يفعلُ ذلك دائمًا.

وقد كانَ الكثيرُ من العلماء على هذا الدربِ من أربابِ المواعظِ العظيمةِ كالحسنِ البصري وابن الجوزي ونحوهما؛ يقول الإمام أحمد بن حنبل: (ما أحوجَ الناسِ إلى قاصٍّ صدوقٍ)([6]).

ويقول ابن الجوزي: (ألستَ تبغي القربَ منه؟ فاشتغلْ، بدلالةِ عبادِه عليه، فهي حالاتُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام؛ أَمَا علمتَ أنهم آثروا تعليمَ الخلق، على خلواتِ التعبدِ، لعلمِهم أن ذلك آثرُ عند حبيبِهم)([7]).

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].

قال الحسنُ البصريُّ عند هذه الآيةِ: هو المؤمنُ أجابَ اللهَ في دعوتِه، ودعا الناسَ إلى ما أجابَ الله فيهِ منْ دعوتِه وعملَ صالحًا في إجابتِه، فهذا حبيبُ الله .. هذا وليُّ الله.

فكم منَ القلوبِ تفتَّحتْ في رمضان.

كمْ من الغائبينَ عنه رجعوا إليهِ في رمضان.

كمْ من القلوبِ القاسيةِ لانت في رمضان

فهلْ لكَ أن ترميَ في الغنيمةِ بسهمٍ وتأخذُ من الكنزِ وتشاركُ في الأرباحِ!!

وحينما غابت الأسودُ عوت الذئابُ، وتوارى الحقُّ فتبجَّح الباطلُ، وخجلَ أهلُ المعروفِ من نشرِ معروفِهم فغزاهم المنكرُ في عقرِ دارِهم وأصابَ فلذاتِ أكبادِهم.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: (إن اختيارَ اللهِ لكمْ لحَمْلِ دعوتِه تكريمٌ ومنٌّ وعطاءٌ، فإذا لم تحاولوا أن تكونوا أهلاً لهذا الفضلِ، وإذا لم تنهضوا بتكاليفِ هذه المكانةِ، وإذا لم تدركوا قيمةَ ما أُعطيتم فيهونُ عليكم كلَّ ما عداه ـ فإنَّ الله يستردُّ ما وهبَ، ويختارُ لهذه المنةِ ممنْ يقدرُ فضلَ الله) ([8]).

ويقول الغزالي رحمة الله عليه: (اعلمْ أنَّ كلَّ قاعدٍ في بيتِه أينما كانَ فليس خاليًا في هذا الزمانِ عن مُنْكرٍ، منْ حيثُ التَّقاعدَ عن إرشادِ الناسِ وتعليمِهم وحمْلِهم على المعروفِ، فأكثرُ الناسِ جاهلونَ بالشرعِ في شروطِ الصلاةِ في البلادِ، فكيفَ في القرى والبوادي، ومنهم الأعرابُ والأكْرادُ وسائرُ أصناف الخلْق، وواجبٌ أن يكونَ في كلِّ مسجدٍ ومحلة من البلدِ فقيهٌ يعلّم الناسَ دينَهم وكذا في كلِّ قريةٍ، وواجبٌ على كلِّ فقيهٍ فرغَ من فرضِ عينِه لفرضِ الكفايةِ أنْ يخرجَ إلى ما يجاورُ بلدَه من أهلِ السوادِ ومن العربِ والأكرادِ وغيرِهم، ويعلِّمَهم دينَهم وفرائضَ شرعهم)([9]).

فحري بك أن تحمل الراية بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو الذي أمر قائلًا: (بلغُوا عنِّي ولو آيةً)([10])، فلو حضرت خطبةَ جمعةٍ وتأثرتَ بها، فاكتب ملخصَها، واجلس مع أولادِك، مع زوجتِك، مع زملائِك في العملِ، مع شريكِك في التجارةِ، وانقلها له، أو خذْ شريطًا وأعطِه لمن تثقُ أنه سينتفع به.

ولا تنسَ نفسَك في ما نصحتَ الناسَ به، حتى لا تكونَ فتيلةً تضيءُ للناسِ وتحرقُ نفسها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلُ الذي يُعلِّم الناسَ الخيرَ وينسى نفسَه مثلُ الفتيلةِ تضيءُ على الناسِ وتَحرقُ نفسها)([11]).

(وكأني بالإسلام اليومَ في زمانِ استضعافِ أمةِ الإسلامِ يحلمُ؛ يحلمُ بأولئك الفرسانِ النبلاءِ من صنَّاعِ الحضارةِ، ممن سيعود على أيديِهم مجدَه من جديد.

وستظلُّ هذه الأحلام أضغاثًا وستظلُّ هذه المعادلاتِ حبرًا على ورقٍ، ما لم ينتصبْ لها غرٌّ ميامينٌ يكفكفونَ دمعَ أمتهم، ويترجمونَ أفعالَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم إلى واقعٍ حيٍّ وإلى منهجِ حياة)([12]).



([1]) رواه مسلم، (1101).

([2]) رواه أحمد في مسنده، (10468)، وهو حديث صحيح.

([3]) رواه البخاري، (1894).

([4]) رواه مسلم، (1151).

([5]) رواه البخاري، (68).

([6]) تلبيس إبليس، ابن الجوزي، (150).

([7]) صيد الخاطر، ابن الجوزي، (25).

([8]) في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3304).

([9]) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، (2/327).

([10]) رواه البخاري، (3274).

([11]) رواه الطبراني في الكبير، (1659)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (5837).

([12]) مصابيح لا شموع، فريد مناع، (29).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في رمضان.doc doc
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في رمضان.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى