أنواع المحبة وأحكامها

أنواع المحبة وأحكامها





المحبة عملٌ من أعمال القلوب، وقد يدخل العبدُ الجنةَ بسبب هذه المحبة الشرعية المحمودة، وقد يدخل النارَ بسبب المحبة المذمومة!!

تنقسم المحبَّة إلى "محبة خاصَّة" و"محبَّة مشتركة"، والمحبَّة الخاصَّة تنقسم إلى "محبَّة شرعية" و"محبة محرمة".

أ- المحبة الخاصة:

فالمحبة الشرعية أقسام:

1- "محبة الله": وحكمها أنها من أوجب الواجبات، وذلك لأن محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام، فبكمالها يكمل الإيمان، وبنقصها ينقص التوحيد؛ ودليل ذلك قولُه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة 165]، وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة 24]، وغيرها من الأدلة في القرآن والسنة.

وهي تتمثل في إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما أحبَّ اللهُ ويبغضُ ما يبغضُه اللهُ، ويوالي ويعادي فيه، ويلتزمُ بشريعتِه والأسباب الجالبة لها كثيرة، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْوَرَّاقُ: (الْمَحَبَّةُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَهُوَ أَصْلٌ لِجَمِيعِ مَرَاتِبِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ)[1].

يقول ابن تيمية - رحمه الله -: (وليس للخلقِ محبةٌ أعظم ولا أتمَّ من محبةِ المؤمنين لربِّهم، وليس في الوجودِ ما يستحقُّ أن يُحبَّ لذاتِه من كلِّ وجهٍ إلا الله تعالى، وكل ما يُحَبُّ سواه فمحبتُه تبعٌ لحبِّه، فإن الرسولَ صلى الله عليه وسلم إنما يُحَبُّ لأجلِ اللهِ، ويُطاع لأجلِ اللهِ، ويُتبع لأجلِ اللهِ)[2].

2- "محبة الرسول": وهي أيضًا واجبة من واجبات الدين، بل لا يحصل كمالُ الإيمان حتى يحبَّ المرءُ رسولَ الله أكثر من نفسه كما في الحديث: ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))[3].

وحديث عبد الله بن هشام قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الآنَ يَا عُمَرُ))[4].

وهذه المحبَّةُ تابعةٌ لمحبةِ الله تعالى، وتتمثل في متابعته صلى الله عليه وسلم وتقديم قوله على قول غيره.

3- "محبة الأنبياء والمؤمنين": وحكمها واجبة؛ لأن محبة الله تعالى تستلزم محبةَ أهلِ طاعته، وهؤلاء هم الأنبياء والصالحون؛ ودليله قوله عليه السلام: ((من أحبَّ في اللهِ))، أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك، ولا يكتمل الإيمانُ أيضًا إلا بذلك ولو كثرت صلاةُ الشخص وصيامُه.

والمحبة المحرمة:

منها ما هو شرك: وهو أن تحب من دون الله شيئًا كما يُحَبُّ اللهُ تعالى، فهو قد اتُّخِذَ ندًّا، وهذا شرك المحبة، ومنها ما هو محرَّمٌ دون الشرك: وذلك بأن يحب أهله أو ماله أو عشيرته وتجارته ومسكنه فيؤثرها أو بعضَها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال؛ كالهجرة والجهاد ونحو ذلك.

ب - المحبة المشتركة ثلاثة أنواع:

أحدها: طبيعية؛ كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وهذه لا تستلزم التعظيم فهي مباحة.

الثاني: محبة رحمة وشفقة؛ كمحبة الوالد لولده الطفل، وهذه أيضًا لا تستلزم التعظيم ولا إشكال فيها.

الثالث: محبة أُنْسٍ وأُلْفٍ؛ كمحبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضًا، فهذه الأنواع التي تصلح للخلق بعضهم بعضًا، وكمحبة الأخوة بعضهم لبعض، ووجودها فيهم لا يكون شركًا في محبة الله تعالى.

وقد قسَّم بعضُ أهل العلم المحبَّة إلى أنواع، كابن حزم وابن القيم وغيرهم من العلماء.

فابن حزم قسمها إلى تسعة أنواع؛ قال: (المحبَّة ضروب:

1- فأفضلها: محبة المتحابين في الله عز وجل؛ إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النحلة والمذهب، وإما لفضل علم يمنحه الإنسان.

2- ومحبة القرابة.

3- ومحبة الألفة في الاشتراك في المطالب.

4- ومحبة التصاحب والمعرفة.

5- ومحبة البر؛ يضعه المرء عند أخيه.

6- ومحبة الطمع في جاه المحبوب.

7- ومحبة المتحابين لسرٍّ يجتمعان عليه يلزمهما ستره.

8- ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر.

9- ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس.

فكل هذه الأجناس منقضيةٌ مع انقضاءِ عَلَلِها، وزائدةٌ بزيادتِها، وناقصةٌ بنقصانِها، متأكدةٌ بدنوها، فاترةٌ بِبُعْدِها)[5].

وقسمها ابن القيم إلى أربعة أنواع: وهي محبةُ اللهِ، ومحبةُ ما يحبُّ اللهُ، والمحبةُ مع اللهِ وهي المحبةُ الشركية، والحبُّ للهِ وفي اللهِ، وهي من لوازم محبةِ ما يُحِبُّ، ثم ذكرَ نوعًا خامسًا، وهي المحبَّةُ الطبيعيةُ، وهي ميلُ الإنسان إلى ما يلائم طبعه؛ كمحبة العطشان للماء، والجائع للطعام، ومحبة النوم والزوجة والولد، فتلك لا تُذمُّ إلا إذا أَلْهَتْ عن ذكرِ الله وشغلت عن محبته[6].

وقسَّم الراغب الأصفهاني المحبَّة بحسب المحبين فقال: (المحبَّةُ ضربان:

1- طبيعي: وذلك في الإنسان وفي الحيوان.

2- اختياري: وذلك يختص به الإنسان ... وهذا الثاني أربعة أضرب:

أ- للشهوة: وأكثر ما يكون بين الأحداث.

ب- للمنفعة: ومن جنسه ما يكون بين التجار وأصحاب الصناعة المهنية وأصحاب المذاهب.

ج- مُرَكَّبٌ من الضربين: كمن يحبُّ غيرَه لنفعٍ، وذلك الغير يحبُّه للشهوةِ.

د- للفضيلة: كمحبة المتعلمِ للعالمِ، وهذه المحبَّة باقيةٌ على مرورِ الأوقات، وهي المستثناةُ بقولِه تعالى: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].

وأما الضروب الأُخر: فقد تطول مدتُها وتقصرُ بحسب طولِ أسبابها وقصرها)[7].

ومن أنواع الحب الفطري الجِبِلّي:

1- محبة الزوجة والأولاد:

فحب الزوجة أمر جبلي مكتسب، إذ يميل المرء إلى زوجته بالفطرة ويسكن إليها، ويزيد في حبه لها إن كانت جميلة، أو ذات خُلُقٍ ودين، أو لديها من الصفات ما يجعل قلب زوجها يميل إليها، وكذا محبة الولد أمر فطري.

ولا يؤاخذُ المرء إذا أحبَّ أحد أولاده أكثر من الآخر، ولا إحدى زوجتيه - إن كان له زوجتان - أكثر من الزوجة الأخرى؛ لأن المحبة من الأمور القلبية التي ليس للإنسان فيها خيار، ولا قدرة له على التحكم فيها؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَسِّمُ لنسائِه ويقول: اللهمَّ هذه قسمتي فيما أملُكُ فلا تَلُمْنِي فيما تملكُ ولا أملكُ))[8].

وإنما يحرم أن يُفَضِّلَ المحبوبَ على غيره بالعطايا أو بغيرها مما يملك من غير مسوغ؛ قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَو حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ} [النساء: 128]، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ كان له امرأتان يميلُ لإحداهِما؛ جاءَ يومَ القيامةِ وأحدُ شقيه مائلٌ))[9]، وعنه أيضًا قال: ((اتقوا اللهَ واعدِلوا بينَ أولادِكم))[10]، والمراد بالميل: الميل في القسم والإنفاق، لا في المحبة.

2- محبة الوالدين وسائر القرابات:

فكل إنسان مفطور على حب أبويه؛ إذ هما من أحسن إليه صغيرًا وسهر عليه وتعب من أجله، وهذه الأنواع من الحب مندوب إليها مأمور بها، أَمْرَ إيجاب أو استحباب، على تفصيلٍ في الشرع ليس هذا مكان تفصيله.

وأنبه هنا إلى ما يقع من حب بين الفتيان والفتيات:

وهذا قسمان:

الأول: رجل قُذف في قبله حب امرأة فاتقى الله تعالى وغض طرفه، حتى إذا وجد سبيلًا إلى الزواج منها تزوجها وإلا فإنه يصرف قلبه عنها، لئلا يشتغل بما لا فائدة من ورائه فيضيع حدود الله وواجباته، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يرْ للمتاحبين مثل النِّكَاحِ))[11].

الثاني: من تمكن الحب من قلبه مع عدم قدرته على إعفاف نفسه حتى انقلب هذا إلى عشق، وغالب ذلك عشق صور ومحاسن، وهذا اللون من الحب محرم، وعواقبه وخيمة، والعشق مرض من أمراض القلب، مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه، وإذا تمكَّن واستحكم عزَّ على الأطباء علاجه وأعيا العليلَ دواؤه.

وعشق الصور إنما تُبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المُعْرِضَة عنه، المتعوضة بغيره عنه، وأقبح ذلك حب المردان من الذكور، فإنه شذوذ وقبح، وإذا امتلأ القلب بمحبة الله والشوق إليه دفع ذلك عنه مرضَ عشق الصور.

وأكثر من يقيم علاقات من حب أو نحوه قبل الشروع في الزواج إذا ظفر بمحبوبه وتزوجه يصيبه الفتور وتحدث نفرة في العلاقة بينهما، لأن كلًّا منهما يطَّلِعُ على عيوبٍ من صاحبه لم يكن يعلمها من قبل، وإذا كان عاشقًا صدَّه ذلك عن كثيرٍ من الواجبات.

ولقد بيَّن الشارعُ الحكيم علاج الحب بصورة عملية، وحدد مصارف الشهوة التي تذكي جذوته، بدءًا بغض البصر، والبعد عن المثيرات، ودوام المراقبة، وكسر الشهوة بالصيام وعند القدرة على النكاح بالزواج، وحدد المعيار في الاختيار، وأن الرجل عليه أن يظفر بذات الدين، وهذا هو المقياس الذي به يختار به المرءُ شريكةَ حياته؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((تُنْكَحُ المرأةُ لأربع: لمالِها ولجمالِها ولحسبِها ولدينِها، فاظْفَرْ بذاتِ الدينِ تَرِبَتْ يَدَاك))[12].

 

الهوامش:

([1]) رواه البيهقي في شعب الإيمان، (464).

([2]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (10/649).

([3]) رواه مسلم،(44).

([4]) رواه البخاري، (6632).

([5]) طوق الحمامة، ابن حزم، ص(95).

([6]) الجواب الكافي، ابن القيم، ص(189).

([7]) الذريعة إلى مكارم الشريعة، الراغب الأصفهاني، ص(256).

([8]) رواه الترمذي، كتاب النكاح عن رسول الله r، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، (1140).

([9]) رواه البيهقي في شعب الإيمان، (8190).

([10]) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، (2587)، ومسلم، كتاب الهبات، (1623).

([11]) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في الصحيحة، (196).

([12]) متفق عليه، رواه البخاري، (3/417)، ومسلم، (4/175).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
أنواع المحبة وأحكامها.doc doc
أنواع المحبة وأحكامها.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى