صيام الرسول صلى الله عليه وسلم

صيام الرسول صلى الله عليه وسلم





الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وَالصلاةُ والسلامُ على خاتمِ النبيينَ وسيدِ الأولينَ وَالآخرينَ؛ سيدِنا وقدوتِنا محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ، وآلِهِ وصحبِه أجمعينَ، وبعد:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - ينتظرُ صيامَ شهرِ رمضان، وَكانَ يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لاَ يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلاَثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ([1]).
قَالَ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((إِذَا رأيتمُوه فصُومُوا، وَإذا رأيتمُوه فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عليكم فَاقْدُرُوا لَهُ))([2]).
وَللصيامِ حكمةٌ عظيمةٌ ضمَّنَها ربُّنَا في الآياتِ التي تناولتْ صيامَ رمضان؛ قَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
فالتقوى هيَ الحكمةُ الجامعةُ مِنْ تشريعِ الصيامِ، وهيَ الفائدةُ الكبرى مِنَ الصومِ، وَالتقوى لها عندَ اللهِ منزلةٌ، وَحَسْبُكَ أَنَّ التقوى وصيةُ اللهِ للأولين وَالآخرين مِنْ خَلْقِهِ؛ كمَا قَالَ تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
والتقوى هي طريقُ الولايةِ وَسببُ البُشرى؛ قَالَ اللهُ عزَّ وجل: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64].
وَلَعَلَّ السببَ في كونِ الصيامِ يورثُ التقوى لِمَا فيه مِنَ انكسارِ الشهوةِ، وَانقماعِ الهوى، فإنَّه يردعُ عن الأشرِ وَالبطرِ وَالفواحش، ويُهَوِّنُ لذَّاتِ الدنيا وَرياستَها؛ وذلكَ لأنَّ الصومَ يكسرُ شهوةَ البطنِ والفرجِ، وغالبُ ما يُؤتى الإنسانُ مِنْ هذين، فمَنْ أَكْثَرَ الصومَ هانَ عليه أمرُهما وَخَفَّتْ عليه مؤونتُهما، فكانَ ذلكَ رادعًا له عن ارتكابِ الفواحش وَالمحرماتِ.
بلْ انظروا إلى قولِ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - عن آدابِ الصائمِ: ((إنَّما الصومُ جُنَّةٌ - أي وقايةٌ -، فإذَا كانَ يومَ صومِ أحدِكمْ فَلا يرفثْ وَلا يصخبْ، ولا يجهلْ))([3]).
فقدْ قَدَّمَ الحكمةَ مِنَ الصيامِ ثُمَّ بيَّن آدابَه؛ ليكونَ أوقعَ فِي النفسِ، وَأعمقَ أثرًا.
وَمَا دامَ الإسلامُ لا يتنكَّرُ للعقلِ، وَلَا يخاطبُ الناسَ إلا بما يتفقُ معَ التفكيرِ السليمِ، وَالمنطقِ القويمِ، ولا يأمرُ مِنَ التشريعِ بشيءٍ إلَّا إذا كانتْ المصلحةُ تحتِّمُ العملَ بِه أو تركَه؛ لَمْ يكنْ علينا مِنْ حَرَجٍ حينَ ننظرُ في أسرارِ التشريعِ وَبيانِ فوائدِه.
قَالَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - في الحديثِ المتفقِ عليه: ((الصومُ جُنَّةٌ))؛ أي وقايةٌ، ففِي الصومِ وقايةٌ مِنَ المأثَمِ، وَوقايةٌ مِنَ الوقوعِ فِي عذابِ الآخرةِ، وَوقايةٌ مِنَ العللِ وَالأدواءِ الناشئةِ عن الإفراطِ فِي تناولِ الملذاتِ.
وَكَانَ - صلى اللهُ عليه وسلم - يَخُصُّ رَمَضَانَ مِنْ الْعِبَادَةِ بِمَا لَا يَخُصُّ غَيْرَهُ بِهِ مِنَ الشّهُورِ، حَتَّى إنَّهُ كَانَ لَيُوَاصِلُ فِيهِ أَحْيَانًا لِيُوَفِّرَ سَاعَاتِ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ الْوِصَالِ، فَيَقُولُونَ لَهُ: إنَّك تُوَاصِلُ، فَيَقُولُ: ((لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي)).
فيُغَذِّيهِ اللّهُ بِهِ مِنْ مَعَارِفِهِ، وَمَا يَفِيضُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ لَذِّةِ مُنَاجَاتِهِ، وَقُرَّةِ عَيْنِهِ بِقُرْبِهِ، وَتَنَعُّمِهِ بِحُبِّهِ وَالشَّوْقِ إلَيْهِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ التِي هِيَ غِذَاءُ الْقُلُوبِ وَنَعِيمُ الْأَرْوَاحِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ وَبَهْجَةُ النُّفُوسِ وَالرُّوحِ وَالْقَلْبِ، بِمَا هُوَ أَعْظَمُ غِذَاءً وَأَجْوَدُهُ وَأَنْفَعُهُ، وَقَدْ يَقْوَى هَذَا الْغِذَاءُ حَتّى يُغْنِيَ عَنْ غِذَاءِ الْأَجْسَامِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ كَمَا قِيلَ.
لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا       عَنْ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنْ الزَّادِ
فَكَيْفَ بِالْحَبِيبِ الّذِي لَا شَيْءَ أَجَلّ مِنْهُ، وَلَا أَعْظَمُ وَلَا أَجْمَلُ وَلَا أَكْمَلُ وَلَا أَعْظَمُ إحْسَانًا إذَا امْتَلَأَ قَلْبُ الْمُحِبِّ بِحُبِّهِ، وَمَلَكَ حُبُّهُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَتَمَكَّنَ حُبُّهُ مِنْهُ أَعْظَمَ تَمَكُّنٍ، وَهَذَا حَالُهُ مَعَ حَبِيبِهِ، أَفَلَيْسَ هَذَا الْمُحِبُّ عِنْدَ حَبِيبِهِ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا؟ وَلِهَذَا قَالَ: ((إنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي)).
وَكانَ - صلى اللهُ عليه وسلم - يبيِّنُ للمسلمين فضلَ الصيامِ، فقَالَ: ((قَالَ اللهُ عز وجل: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَام، فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ [أي: يقي صاحبَه مِا يؤذيه مِنَ الشهواتِ]، فَإذَا كَانَ يَومُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ [الرفثُ: كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجلُ مِنَ المرأةِ]، وَلاَ يَصْخَبْ [الصخبُ وَالسخبُ: الضجةُ، واضطرابُ الأصواتِ للخصامِ] فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ.
وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ [أي: تغير رائحة الفم] فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أفْطَرَ فَرِحَ بفطرِه، وَإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ))([4]).
وَقالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: رِبِّ إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّرابَ بِالنَّهَارَ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ رَبِّ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيَشْفَعَانِ))([5]).
إنَّ فِي الصومِ جوعًا للبطنِ، وَشبعًا للروحِ، وَإِضواءً للجسمِ، وَتقويةً للقلبِ، وَهبوطًا باللذةِ، وَسُموًا بالنَّفْسِ.
في الصومِ يجِدُ المؤمنُ فراغًا لمناجاةِ ربِّه، وَالاتصالِ به، وَالإقبالِ عليه، وَالأنسِ بذكرِه وَتلاوةِ كتابِه.
وَيجبُ الصومُ على كُلِّ: مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ قادرٍ مقيمٍ، وَللمسلمةِ كذلكَ شرطُ الطهارةِ مِنَ الحيضِ والنفاسِ.
وَالشيخُ الذي يجهدُه الصومُ وَالمريضُ الذي لا يُرجى برؤُه فلا صومَ عليهما وَيلزمُهما الفديةُ؛ لقولِه سبحانه وتعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة : 184 - 185].
وكذلكَ الحائضُ وَالنفساءُ لا يجبُ عليهما الصومُ وَلا يصحُ منهما، فعَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ، فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟! قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّى أَسْأَلُ، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ)([6])، وَالآمرُ إنما هوَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم -.
وَمِنْ رحمةِ اللهِ تعالى أنْ رخَّصَ للمسافرِ في نهارِ رمضانَ الفطرَ، قَالَ تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وَيقولُ العلامةُ ابنُ باز - رحمهُ اللهُ - عن الأولى للمسافرِ: (فمنْ أفطرَ فلا بأس، وَمَنْ صامَ فلا بأس، فالإفطارُ رخصةٌ منَ اللهِ - عز وجل - للمسافرينَ، سواء كانَ المسافرُ صاحبَ سيارةٍ أو صاحبَ جِمَالٍ أو في السفنِ أو في الطائراتِ، لا فرقَ فِي ذلكَ.
المسافرُ له أنْ يفطرَ في رمضانَ، وَإنْ صامَ فلا بأس، وإذا شَقَّ عليه الصومُ فالأفضلُ الفطرُ، إذَا كانَ حرٌّ وشدةٌ فالأفضلُ الفطر وَيتأكدُ الفطرُ أخذًا برخصةِ اللهِ جل وعلا؛ جاءَ في الحديثِ عنه - عليه الصلاة وَالسلام - أنَّه قالَ: ((إنَّ اللهَ يُحِبُّ أنْ تُؤتى رُخصُه كمَا يكرهُ أَنْ تُؤتى معصيتُه))([7]).
وأما المرضعُ وَالحاملُ؛ فإذا كانتْ لا تتأثرُ بالصيامِ، وَلا يشقُ عليها وَلا يُخشى منه على ولدِها، فيجبُ عليها الصيامُ، ولا يجوزُ لها أنْ تفطرَ.
وأما إذا كانتْ تخافُ على نفسِها أوْ ولدِها مِنَ الصيامِ وَيَشُقُّ عليها، فلها أنْ تفطرَ وَعليها أن تقضيَ الأيامَ التي أفطرتْها.
وفي هذه الحالِ الأفضلُ لها الفطرُ، ويُكْرَهُ لها الصيامُ، بلْ ذكرَ بعضُ أهلِ العلمِ أنها إذا كانتْ تخشَى على ولدِها وجبَ عليها الإفطارُ وَيُحْرَمُ الصومُ.
يقولُ العلامةُ ابنُ باز - رحمهُ اللهُ تعالى -: (أما الحاملُ وَالمرضعُ فقدْ ثَبُتَ عن النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - من حديثِ أنسِ بن مالك الكعبي عنْ أحمد وَأهلِ السننِ بإسنادٍ صحيحٍ أنَّه رَخَّصَ لهمَا في الإفطارِ وجعلَهما كالمسافرِ.
فعُلِمَ بذلكَ أنهما تفطران وتقضيان كالمسافرِ، وَذَكَرَ أهلُ العلمِ أنَّه ليسَ لهما الإفطارُ إلا إذا شقَّ عليهما الصومُ كالمريضِ، أو خافتا على ولديهما، وَاللهُ أعلم).
وكما تعلمْنَا منَ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - بعضَ أحكامِ الصومِ، فهناك أمورٌ حَذَّرَنَا منها - صلى اللهُ عليه وسلم - لا تُبْطِلُ الصيامَ؛ منها:
أولها: الأكلُ والشربُ والجماعُ: فالصائمُ إذا تعمدَ شيئًا منها، منْ غيرِ إكراهٍ وَلا نسيان، بَطَلَ صومُه بنصِّ القرآنِ وَإجماعِ أهلِ العلمِ؛ قالَ تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة : 187].
وَمَنْ أفطرَ بالأكلِ أو الشربِ عمدًا فعليه التوبةُ والاستغفارُ وأنْ يقضيَ يومًا مكانَ اليومِ الذي أفسدَ صومَه فيه وليسَ عليه كفارةٌ، هذا الراجحُ مِنْ أقوالِ أهلِ العلمِ.
وأمَّا مَنْ أفطرَ بالجماعِ؛ فإنَّ عليه أربعةَ أمور:
الأول: الإمساكُ بقيةَ اليومِ؛ لأنَّه فِطْرٌ غيرُ مشروعٍ، فليسَ له أنْ يأكلَ أوْ يشربَ حتى تغربَ الشمسُ.
الثاني: أنَّ عليه التوبةَ لأنَّه ارتكبَ إثمًا عظيمًا يوجبُ التوبةَ.
الثالثُ: أنْ يقضيَ اليومَ الذي جامعَ فيه.
الرابع: أنَّ عليه كفارةً، وهي عتقُ رقبةٍ، فإنْ لمْ يجدْ فصيامُ شهرينِ متتابعين، فإنْ لَمْ يستطعْ فإطعامُ ستين مسكينًا، فإنْ لَمْ يجدْ سقطتْ عنه الكفارةُ.
وَثاني مبطلاتُ الصومِ القيءُ عمدًا: وهوَ أنْ يتعمدَ المرءُ إفراغَ ما في معدتِه، إمَّا بإدخالِ إصبعه في فمِه أو بشمِّ شيءٍ يهيجُ المعدةَ، فإنَّ فَعَلَ ذلكَ فسدَ صومُه، وعليه قضاءُ يوم مكانَه.
وأمَّا مَنْ غَلَبَهُ القيءُ بدون تعمدٍ منه فصومُه صحيحٌ ولا شيءَ عليه.
وثالثُ مبطلات الصومِ الحيضُ والنفاسُ: لحديثِ عائشة - رضيَ اللهُ عنها -: (كُنَّا نُؤمَرُ بقضاءِ الصيامِ وَلا نُؤمرُ بقضاءِ الصلاةِ).
أمَّا مَنْ أكلَ أوْ شَربَ ناسيًا: فصومُه صحيحٌ وَلا قضاءَ عليه؛ لقولِه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((مَنْ نَسيَ وهوَ صائمٌ فأكلَ أوْ شَربَ فليُتِمَّ صومَه، فإنَّما أطعمَهُ اللهُ وَسقاهُ))([8]).
ومنْ أصبحَ جنبًا منْ جماعٍ أو احتلامٍ في الليلِ فإنَّه يصومُ وَلا شيءَ عليه ويغتسلُ بعدَ ذلكَ.
أيها الأحبةُ حَذَّرَ - صلى اللهُ عليه وسلم - مِنَ الفطرِ في رمضانَ تحذيرًا شديدًا؛ فقالَ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ، فَأَتَيَا بِي جَبَلا وَعْرًا، فَقَالا: اصْعَدْ فَقُلْتُ: إِنِّي لا أُطِيقُهُ فَقَالا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتُ: مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ))([9]).
والصومُ عبادةٌ عظيمةٌ وَرَدَ الكثيرُ مِنْ فضلِها؛ منها:
1- مغفرةُ ما تقدَّمَ مِنَ الذنوبِ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((مَنْ صامَ رمضانَ إيمانًا وَاحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))
2- أجرٌ بغيرِ حساب: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((قَالَ اللهُ تعالى: كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصوم فإنَّه لي وَأنَا أجزي بِهِ)).
3- ثوابٌ يفوقُ الخيالَ: فعن أبي أمامة - رضيَ اللهُ عنه - قَالَ: قلتُ يا رسول اللهِ مُرني بعملٍ، قَالَ: ((عليكَ بالصومِ فَإِنَّه لا عَدْلَ لَهُ)).
4- إجابةُ الدعاءِ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((ثلاثُ دعواتٍ لا تُرَدُّ: دعوةُ الوالِدِ وَدعوةُ الصائمِ وَدعوةُ المسافرِ)).
5- إطفاءُ نارِ الشهوةِ: قالَ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((فَمَنْ لَمْ يستطعْ فعليه بالصومِ فهوَ لَهُ وِجَاء)).
6- البُعدُ عن النارِ: قَالَ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((مَنْ صَامَ يومًا في سبيلِ اللهِ باعدَ اللهُ وجهَه عن النارِ سبعينَ خريفًا)).
7- الفوزُ بالجنةِ: قالَ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((إِنَّ فِي الجنةِ غرفًا، يُرى ظاهرُها مِنْ باطنِها، وباطنُها منْ ظاهِرها، أعدَّها اللهُ لمنْ أطعمَ الطعامَ، وَألانَ الكلامَ، وَتابعَ الصيامَ، وَصَلَّى وَالناسُ نيام)).
وما أدراكَ ما الغرفات؟ يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أهلَ الجنةِ ليتراءون أهلَ الغرفِ مِنْ فوقِهِم كمَا تراءَون الكوكبَ الدرَي لبُعدِهم في الأفقِ مِنَ المشرقِ أو المغربِ لتفاضلِ ما بينهم)).
هكذا كانَ يصومُ - صلى اللهُ عليه وسلم -، ويعلِّمُ أصحابَهُ أحكامَ الصيامِ، نسألُ اللهَ تعالى أنْ يتقبلَ منا صيامَنا.
وإلى لقاءٍ قريبٍ مع (النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - في رمضان)، وَالسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وَبركاتُه.

الهوامش:

([1]) رواه أبو داود في سننه، (2 / 269)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (7/92): إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن الجارود وابن حبان والدارقطني والحاكم والذهبي.

([2]) رواه البخاري، (1900)، ومسلم، (1080).

([3]) متفق عليه.رواه البخاري، (1904)، ومسلم، (1151).

([4]) رواه البخاري، (1805).

([5]) رواه أحمد في مسنده، (6626)، وقال الألباني  في صحيح الترغيب والترهيب، (2 / 79): رواه أحمد وابن أبي الدنيا في كتاب الجوع، والطبراني في الكبير، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.

([6]) رواه مسلم، (789).

([7]) رواه الطبرانى في الأوسط، (8032)، وقال المناوي: ورجالهما رجال الصحيح.

([8]) رواه البخاري، (6669)، ومسلم، (1155).

([9]) رواه البيهقي في السنن الكبرى، (7796)، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة، (3951).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
صيام الرسول صلى الله عليه وسلم.doc doc
صيام الرسول صلى الله عليه وسلم.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى