التكبر على آيات الله من موانع التوكل على الله

التكبر على آيات الله من موانع التوكل على الله






إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ إن موانع التوكل هي حواجز تجعل من العبد سكونًا، وكفا وتمنعًا، وهي أمور مذمومة شرعًا لدرجة أن منها ما يؤدي إلى الكفر والشرك بالله تعالى، واقتضت الحكمة الإلهية أن يجعل للبشرية –خاصة المؤمنة منها – أعداء من شياطين الجن يوسوسون لشياطين الإنس بالضلال والشر والأباطيل، ليضلوهم؛ ويصدوهم عن التوحيد، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
إن الكبر والتكبر والاستكبار تتقارب معانيها وتصريفاتها، فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره، وأعظم التكبر التكبر على الله بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة، وهذا مذموم، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[1] [البقرة: 34]
فذلك التعاظم، والتعالي، والتكبر رذيله بغيضة تنشأ عن الجهل فتدعو صاحبها إلى المبالغة في تعظيم شخصهن إذ يرى محاسنه بمجهر، ويعمي عن عيوبه ونقصه، فيعتقد بذلك أنه فريد زمانه، وهذا لا يجد من الناس، إلا الإحتقار، وقد أراد أن يعظموه، ويكرهوه، وقد أراد أن يحبوه فهو ممقوت من الناس ممقوت من الله، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23]، فيا عجبا لهذا المخلوق الضعيف الذي يفخر بأصله، وهو من تراب، ويباهي بجسمه وهو إلى فناء وهلاك، وسيكون عما قليل عظامًا نخرة، فالمتكبر لا يعبد ربه حق عبادتهن بل يعبد عنجهيته، وهواه فكم من عبادة أداها كانت هوى وعشقًا جارفًا، ويوهم نفسه أنه يجاهد في سبيل الله، وهو إنما يجاهد في سبيل رضا هواه.
"والكبر مناف للأمر الذي خلق الله له الخلق، وأمر لأجله بالأمر، فالله تعالى خلق الخلق سبحانه، وأنمزل الكتاب لتكون الطاعة له وحده والكبر ينافي ذلك"[2]. فالقرآن الكريم كله دعوة للنفس الإنسانية إلى السوك القويم، والعقيدة الصحيحة يتبعها السلوك الصحيح، والقرآن الكريم فيه نماذج للأخلاق الذميمة التي ينهي عنها ويحذر منها صيانة للنفس الإنسانية، ولما يترتب على هذه الأخلاق من المفاسد، وارتفاعا بها إلى درجة من السمو الخلقي والأخلاقي، والكمال النفسي.
"فعن ابن مسعود رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه ذرة من إيمان فقال رجل يا رسول الله "الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس"[3]. فالحديث الشريف بيان لمعاني الكبر الحقيقي وهو إنكار الحق والترفع عنه والتجبر فيه، واحتقار الناس والاستهانة بهم.
إن هذا السلوك الذميم مانع وحاجز لمفهوم التوكل على الله، فالمتكبر قلبه مريض بعدم الخضوع، والإذعان، والانصياع للحق ولأوامره سبحانه فلا يرى ميزة للآخرين، ولا يذكر لغيره فضلًا عليه، والمتكبر كنود كفور لا يطيق أن يعترف بفضل ذي الفضل عليه، ولا يتنازل أن يشكر إحسان من أحسن إليه، والمتكبر حسود حقود يمقت كل عظيم، وينقم على كل كبير، ولا يرى إلا نفسه ولا يفكر إلا في ذاته، ويتمسك ويتعصب لرأيه الباطل.
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206]، وعلى ذلك فإن أهل الكبر والإصرار إلى النار صائرون وأهل الكبر والتجبر مطبوع على قلوبهم, قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]، "فكما طبع الله على قلوب المارقين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتاهم، يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين الذي آبوا أن يوحدوا الله ويصدقوا رسله، واستعظموا عن اتبا الحق، فيصدر عنهم أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب، والجدل بغير الحق"[4].
فيتكبر بذلك على الطاعات، والأوامر ويعتقد في نفسه أنه خير من غيره وأنه يجتهد، وبهذا يزهو بما يكون منه حسنًا أو قبيحًا ويمتنع على ذلك المتكبر للانقياد، والإذعان لمن يعتقد أنه أقل منه علمًا ودراية، وبهذا يضل ويخزى خاصة إذا عائد وأصر وكابر عن الحق، ويطبع هذا الخالق على ق4لب كل متكبر عليه، تكبر على توحيد الله متعظم عن اتباع الحق، إن فرعون علا وتكبر في الأرض فساء مصيره إلى نار جهنم، ولمجادلته في آيات الله بالباطل من غير حجة ولا برهان.
"فالكبر والتكبر على آيات الله من المهلكات، ولن يتم وينجع العلاج إلا بمعرفة الإنسان مقدار نفسه، ويعلم أنه أذل من كل ذليل، ويكفيه أن ينظر في أصل وجوده بعد العدم من تراب، وليعلم أ الكبر لا يليق به وانه إذا تكبر صار ممقوتًا عند الله تعالى بغيضًا عنده"[5]. إن صفة التكبر لا تصح إلا لله سبحانه وتعالى فهو سبحانه المتكبر عن السوء، والنقص والعيوب لعظمته، وكبريائه؛ لأنه سبحانه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد مثله، وهو المتعالي عن صفات الخلق، وعن عتاة خلقه، فسبحانه كامل الذات متكبر وكبير وعظيم، فليس للإنسان أن يتكبر بمال أو جاه أو جمال أو قوة أو كثرة ونحو ذلك فجميعها من عند الله تعالى وهبها لمن شاء وأرادها لمن شاء[6].
أما المتكبر من العباد فهو جاحد طارد للحق مهلك لنفسه، مغلق لأبواب الجنة "فكل من تكبر عن الانقياد للحق أذله الله، ووضعه وصغره وحقره، ومن تكبر عن الإنقايد للحق فإنما تكبر على الله، فإن الله هو الحق، وكلامه حق، ودينه حق، والحق صفته، ومنه وله فإذا رده العبد تكبر عن قبوله، فإنما رد على الله، وتكبر عليه"[7]. فالإنسان ما خلق إلا لعبادة ربه، والتواضع له، واستصغار نفسه واحتقارها أمام عظمة الله.
فكل من لا يرى ذلك فقد يلقي وعيد ووعد ربه، قال تعالى في محكم كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، "فالمتكبر عن آياته الأفقية، والنفسية، والفهم لآيات الكتاب بعدم الاعتبار بها لأنه قد تكبر على عباد الله، وعلى الحق، وعلى من جاء به، ومن كان بهذه الصفة، حرمه الله خيرًا كثيرًا، وخذله، ولم يفقه من آيات الله، ما ينتفع به، بل ربما انقلبت عليه الحقائق، واستحسن القبيح"[8].
فالآية الكريمة شاهد على الوعيد الشديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم كبير، من حيث توعد من ترك طلب الخير منه، واستدفاع الشر بالدعاء بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة الشديدة، فينبغي توجيه الرغبات إليه، والتعويل في كل المطالب على الله، فهو سبحانه أرشد إلى التوكل عليه، وكفل لنا الإجابة، بإعطاء المطالب وحصول الرغبات، فهو كريم جواد يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فسبحانه يغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا"[9].
فبالكبر ينحط العبد في مطالبه، ويتخبط في مسالكه، وطرقه والنتيجة هي العبد عن الله، والشعور بالضيق والضياع، فينبغي على العبد إذا شعر بأثار وأعراض هذا المرض والخلق الذميم في نفسه وأن يعالج نفسه وذلك بقطع وبتر جذور هذا الخلق من مغرس في القلب ويدفع العارف منه بالأسباب التي قد يتكبر فيها، وذلك أن يعرف نفسه ويعطيها قدرها وحقها، ويعرف نفسه صفات ربه تبارك وتعالى، ويكفيه ذلك في إزلة للكبر على الله تعالى وعلى رسوله وطاعة الله وطاعة رسوله، أما المتكبر بالغنى، والجمال والكثرة، وعلو المناصب فهذا يعالج نفسه بأن يعلم أن هذا كله مما أعطاه إياه وتفضل به عليه، وليبادر بشكر الله، والتواضع له.
قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، "فالكبر مفتاح الشقاء، والمتكبر هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهدايته نفسه كفيلًا، وبقى في العمى، فاتخذ الهوى قائدًا، والشيطان دليلًا، فالكبر يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء فضلًا عن عوام الخلق"[10].
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7] وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 7، 8] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40]
فالتكبر هو من الأسباب المبعدة عن الخير وأبوابه، وتبعد عن طاعة الله وعن مأمورات الخالق التعبدية، والقلبية، والسلوكية، فالمتكبر منصرف عن الاستعانة بالله، والإنابة إليه، والتوكل عليه وتعمى بذلك بصيرته، ولا يرى الحق، ويصر على التعالي، ولا يسمع، ولا يعي لنصح ناصح فيهلك، ويغضب الله، ويكرهه الناس وفي هذا: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  في حديث حارثة بن وهب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وسلم : "كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ثم قال: "ألا أخبركم بأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "كل عتل جواظ متكبر"[11].
فلينظر العبد إلى مصيره، وليحاول جاهدًا نفسه لمرضاة ربه ويعمل على تقواه وخشيته، وليدفع عن نفسه الكبر بالتواضع، وليذكر نفسه بمآله ومرجعه ويحاسب نفسه حتى لا يذل، ولا يضل، فكلنا من تراب، وسندس في تراب، فلنعمل وننال المثوبة والجزاء الحسن.


الهوامش:
[1] انظر: للأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص438، وللفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص 602.
[2] ابن القيم، الداء والدواء، ص 195
[3] رواه مسلم، (1/93)/ ح 91، كتاب الإيمان.
[4] انظر: للمراغي، تفسيره (8/70)
[5] انظر (لابن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين، (231-233.
[6] انظر لابن منظور، لسان العرب (5/129-130)، للغزالي أبو حامد، المقصد الأسني في شرح معاني أسماء الله الحسنى، (قبرص، طبعة 1407هـ (ص 75)، مقاييس اللغة، أحمد ابن فارس (5/154.
[7] ابن القيم، مدارج السالكين، (2/346)
[8] السعدي، تيسير الكريم الرحمن، (2/159)
[9] انظر: للمراغي، تفسيره، (8/88)
[10] انظر: للغزالي، إحياء علوم الدين، (القاهرة، دار الشعب) (3/345)
[11] صحيح البخاري، (ح 6657) كتاب الإيمان والنذور، ومسلم (4/2190)، ح (2853)، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها واللفظ له.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التكبر على آيات الله من موانع التوكل على الله doc
التكبر على آيات الله من موانع التوكل على الله pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى