حث النبي صلى الله عليه وسلم على التقوى في رمضان

حث النبي صلى الله عليه وسلم على التقوى في رمضان





الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي

إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد فرضَ الله سبحانه وتعالى صيامَ رمضانَ لغايةٍ محددةٍ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

بلْ إنَّ تقوى الله عز وجل هي مقصودُ العباداتِ جميعِها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وعلى قدرِها في القلبِ يكون قربُ العبدِ أو بعدِه من الله عز وجل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

والتقوى كنزٌ عظيمٌ، وجوهرٌ عزيزٌ، إن خيرَي الدنيا والآخرة مجموعٌ فيها: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] والقبولُ عند الله معلقٌ بها: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] والغفرانُ والثوابُ موعودٌ عليها: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5].

أهلُها هم الأعلون في الآخرةِ والأولى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

غيرَ أن أزمنتَنا المتأخرةِ، وعصورَنا الماديةِ، كست قلوبَ أصحابِ كثيرٍ من أهلها طبقاتٍ من الغفلةِ، وغشتْ على أبصارِها سحبًا من الصدودِ كثيفة؛ فعموا عن الطريقِ، وحسنُ ظنُّهم بالترقي في جاه الدنيا وسلطانِها، فالشقي في ميزانِهم من قلَّت مادتُه وقُدِرَ عليه رزقُه، وهذا لعمرُ الحقِّ غفلةٌ شنيعةٌ، وجهلٌ في المقاييسِ عريضة: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131-132].

وما جاءَ شهرُ رمضانَ إلا ليقربَ الناسَ من ربهم ويزيدَ من صِلاتِهم به، ويقطعَ عن قلوبِهم صلتَها بالدنيا، فهو فرصةٌ نادرةٌ لإحياءِ القلبِ وإيقاظِه من رقدتِه وإشعالِ فتيلِ التقوى وجذوةِ الإيمانِ فيه، ويحققُ التقوى التي يتمثلُ فيها الخوفُ من الجليلِ، والعملُ بالتنزيلِ، والقناعةُ بالقليلِ، والاستعدادُ ليوم الرحيلِ.

تقوى صادقةٌ دقيقةٌ يتركُ فيه الصائمُ ما يهوى حذرًا مما يخشى، ولئنْ كانتْ فرائضُ الإسلامِ وأحكامِه وأوامرِه ونواهِيه كِّها سبيلُ التقوى، فإنَّ خصوصيةَ الارتباطِ بين الصيامِ والتقوى شيءٌ عجيبٌ!

ومنْ لم يحققِ التقوى في رمضانَ، فهو في غيرِ رمضانَ أولى بالبُعدِ، هذا على نطاقِ الفردِ، خاصةً وأنه يجدُ المجتمعَ كلَّه يساعدُه، فأنت إذا ذهبتَ للمدرسةِ وجدتَ الناسَ صائمين، وفي السوقِ صائمين، وفي الشارعِ أيضًا تجدُهم صائمين، فالمجتمعُ كلُّه يقوِّي عزيمتَك، ويشدُّ أزرَك، ولهذا لا يجدُ الصائمُ في رمضانَ ألمَ الصيامِ، ولكنه حين يصومُ النفلَ يجد تعبًا ومشقةً في ذلك الصيامِ؛ لأنه يصومُ والناسُ مفطرونَ، وكذلك لو أفطرَ الإنسانُ في رمضانَ لعذرٍ، لم يجدْ للطعامِ في حلقِه طعمًا، ولم يجدْ للماءِ مساغًا؛ -هذا إن كانَ مؤمنًا - لأن نفسَه وروحَه تكرهُ ذلك، وتمقتُه وتبغضُه، فيتحولُ الحلوُ إلى مُرٍّ علقمٍ.

ثم تقوى المجتمعاتِ كلها، لعلكم تتقونَ في مجتمعاتِكم أيضًا، ولهذا كان رمضانُ شهرًا ذا شخصيةٍ مميزةٍ في واقعِ المسلمينَ كلِّهم، فالغريبُ إذا دخلَ مجتمعاتِ المسلمينَ في شهرِ رمضان، يشعرُ أن هناك أمرًا غير عادي، حتى أهلُ المعاصي والفجورِ، يغلقون حاناتِهم، وأماكنَ فجورِهم وفسادِهم، ويتجهون إلى المساجدِ طاعةً لله عزَّ وجلَّ.

وهذا مصداقُ ما أخبر به صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضانُ فُتِّحَتْ أبوابُ الجنة، وغُلِّقَتْ أبوابُ النار، وصُفِّدَتِ الشياطينُ) وفي رواية: (وسُلْسِلَتِ الشياطينُ)([1]) أي: وُضِعَتْ في السلاسلِ والأصفادِ؛ فلا يَخْلُصون إلى ما كانوا يَخْلُصون إليه قَبْلُ من الوسوسةِ للناسِ، وإغرائِهم بالمعصيةِ، ودعوتِهم إلى الفجورِ.

وفي رمضانَ تتحققُ التقوى فإنَّك تجدُ الصائمَ متلبسٌ بالعبادةِ طوالَ نهارِه، من طلوعِ الفجرِ إلى غروبِ الشمسِ، وأنتَ نائمٌ فأنتَ في عبادة، وحين تنشغلُ فأنتَ في عبادة، وحين تبيعُ فأنتَ في عبادة، وهذا من أسرارِ الصيامِ وخواصِّه.

فالمصلِّي – مثلًا - هو في عبادةٍ أثناءَ الصلاةِ، لا يشتغلُ بغيرها، ثم يُقْبل على ما سواها، أما الصائمُ فهو في عبادةٍ في كلِّ أحوالِه، يتقلبُ على فراشه وهو صائمٌ، يشتغلُ بدنياه وهو صائمٌ، يدرِّسُ وهو صائمٌ، يعملُ في وظيفتِه وهو صائمٌ، يعملُ في حقلِه وهو صائمٌ، يكتبُ وهو صائمٌ، يقرأُ وهو صائمٌ، فعبادةُ الصيامِ لا تنفكُ عنه ولا ينفكُ عنها، من طلوعِ الفجرِ إلى غروبِ الشمسِ.

أفَيَجْدُر بشخصٍ متلبسٌ بعبادةِ أن يعصي الله - عزَّ وجلَّ - وهو في حالِ العبادةِ، فيقولَ زورًا، أو يَشهدَ زورًا، أو يَكذبَ، أو يَغِشَّ، أو يَحلفَ يمينًا كاذبة، أو يَحقدَ، أو يَحسدَ، أو يَظلمَ، أو يفتريَ، أو يتركَ ما أوجبَ الله، أو يفعلَ ما حرَّمَ الله، إن ذلك لَعَيْبٌ، وإذا فعل هذا وهو صائمٌ فأولى به أن يفعله في حالِ الفطرِ.

ولذلك كانَ الصيامُ فرصةً لتصحيحِ الأحوالِ، والتوبةِ إلى الله عزَّ وجلَّ، وتحقيقِ التقوى، وذلك لأنه يغيرُ حياةَ الإنسانِ، ويقلبُ الروتينَ المألوفَ عنده، فهو فرصةٌ لإعادةِ ترتيبِ الأوضاع، والتوبةِ إلى الله عزَّ وجلَّ.

ولهذا جاء في الحديثِ الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صعدَ المنبر، فقال: آمين آمين آمين، قالوا: يا رسول الله، قلت: آمين ثلاثًا، قال: نعمْ.

إن جبريل أتاني آنفًا فقال: مَن أدْرَكَ رمضانَ، فلم يُغْفَر له؛ فأبعدَه الله، قل: آمين، قلتُ: آمين.

قال: مَن أدْرَك أبَوَيه أو أحدهما عند الكِبَر، فلم يَدْخَل الجنة؛ فأبعدَه الله، قل: آمين، قلت: آمين.

قال: مَن ذُكِرتَ عندَه، فلم يصلِّ عليك؛ فأبعدَه الله، قل: آمين، قلتُ: آمين)([2]).

ما بالكَ بدعوةٍ، إمامُ الدعوةِ فيها جبريل، والمؤَمِّنُ محمدٌ -عليه الصلاة والسلام- أفَيَسُرُّك أن تكون ممن دعا عليهمْ جبريلُ، وأمَّن عليهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم، بأن يبعدَك الله تعالى؟ من أبعدَه الله، فمن ذا يقربه؟ لا ينفعُه أن يقربَه المخلوقون، أو يرفعوا شأنَه، أو يقيموا له وزنًا، إذا أبعده الله عزَّ وجلَّ، من وجد اللهَ تعالى فماذا فقَد؟ ومن أبعده اللهُ فلا ينفعُه أن يقربَه العالمَون كلهم.

إنما الصيامُ لكَ؛ ليحققَ التقوى فيك، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

إنه جديرٌ بالمسلمِ أن يحققَ معنى الصيام: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإذا لم يَدَعِ الإنسانُ قولَ الزور، وشهادةَ الزور، واللَّغْوَ والرَّفَثَ، فأيُّ سببٍ يدعوه إلى الصيامِ إذًا؟!

قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)([3])، من لم يدعْ قولَ الزورِ والعملَ به كيف صام؟ وماذا اتقى؟ حظُّه من صيامِه الجوعُ والعطشُ، ونصيبُه من قيامِه السهرُ والنصبُ، أين التقوى في أسماعِهم وأبصارِهم؟ لغوٌ ولهوٌ، وقيلٌ وقال، وأصواتُ معازفٍ، وصورٌ ماجنةٌ، وقصصٌ خالعةٌ، في النهارِ نومٌ في تقصيرٍ، وفي الليل سهرٌ في غير طاعةٍ، متبرمون في أعمالِهم، سيئون في معاملاتِهم، متثاقلون في أداءِ مسئولياتِهم، نشاطٌ في اللهوِّ والسمرِ، وكسلٌ في الجدِّ والعبادةِ.

جوارحُ الإنسانِ عينٌ وأذنٌ، ويدٌ ولسانٌ، وبطنٌ وفرجٌ، والقلبُ من ورائِها أصلُها وحاكمُها، صام القلبُ واتقى إذا جردَّ العبوديةَ لله وحده، وخضعَ لجلالِه، وسعى لقربِه، وأنسَ بمناجاتِه، وخلصَ من الشركِ، وسلمَ من البدعِ، وتطهرَ من المعاصي.

وقد سُئل أبو هريرةَ رضي الله عنه يومًا عن التقوى، فقال لسائله: (هلْ أخذتَ طريقًا ذا شوكٍ؟ قال: نعمْ، قال: فكيفَ صنعتَ؟ قال: إذا رأيتُ الشوكَ عزلتَ عنه، أو جاوزتَه، أو قصرتَ عنه، قال: ذاك التقوى)([4]).

ذلك القلبُ التقيُّ يرى الهوى والشهوةَ، والظنَّ والبغيَ، والعداوةَ والبغضاءَ، والغلَّ والحسدَ، والمراءَ والجدلَ، يرى كلَّ ذلك أمراضًا قلبيةً فتاكةً، تقتلُ الأفرادَ وتهلك الأمم.

القلبُ التقيُّ يرفضُها ويأباها ويتقيها ويتقيؤها، وصيامُه ينفيها ويجفوها، قلبٌ صائمٌ متدينٌ لله بالطاعةِ، مستسلمٌ له بالخضوعِ والاستجابةِ، منقادٌ لتنفيذِ الشرعِ في الأمرِ والنهي، عبوديةٌ لله خالصةٌ، لا يصرفُه عنها شهوةٌ ولا شبهةٌ، ولا يشوشُ عليه فيها أمانٍ ولا مطامعُ، قلبٌ قويٌّ تقيٌّ، لله صلاتُه وصيامُه، ونسكُه ومحياهُ ومماتُه.

وفي رمضانَ يقلُّ الشبعُ فتكبحُ الجماحُ، وتبعدُ نزغاتُ الشياطين: و(الشيطانُ يجري منَ ابنِ آدمَ مجرى الدمِ)([5])، فقلةُ الشبعِ تجعلُ الجوارحَ أقربَ لفعلِ القرباتِ، يرقُّ القلبُ، ويغزرُّ الدمعُ، ويخذلُّ الشيطانُ.

الصائمونَ المتقونَ: لا يزالونَ في صلاةٍ وصيامٍ وتلاوةٍ وذكرٍ وصلةٍ وإحسانٍ وجدٍّ وعملٍ، فاطلبوا الخيرَ دهرَكم، وتعرضوا لنفحاتِ ربكم؛ فخيرُكم من طالَ عمرُه وحسنُ عملُه، وشرُّ الناسِ من طال عمرُه وساءَ عملُه. 



([1]) متفق عليه، البخاري، رقم: (1899)، مسلم، رقم: (1079).

([2]) رواه الطبراني في الكبير (12551) وصححه الألباني في صحيح الجامع (75).

([3]) رواه البخاري (1804).

([4]) جامع العلوم والحكم، ابن رجب، ص(173).        

([5]) رواه أبو داود (2133)، وصححه الألباني.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
حث النبي صلى الله عليه وسلم على التقوى في رمضان.doc doc
حث النبي صلى الله عليه وسلم على التقوى في رمضان.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى