هل الشرك لا يمكن أن يقع في الأمة المحمدية؟

هل الشرك لا يمكن أن يقع في الأمة المحمدية؟





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يستدل المبتدعةُ على أن الشركَ لا يقعُ في الأمةِ المحمديةِ، الأمةِ المرحومةِ، خيرِ الأممِ، ولاسيما في الجزيرةِ العربيةِ المطهرةِ، واحتجوا على هذا بأحاديث([1]):

1- حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطانَ قد أيسَ أن يعبدُه المصلون في جزيرةِ العربِ ولكن في التحريشِ بينهم»([2]).

2- وحديث: «اللهم لا تجعلْ قبري وثناً يُعبد»([3]) فدعاءُ النبي صلى الله عليه وسلم مجابٌ فيقتضي ذلك أن قبرَه لن يُعبد.

3- وحديث عقبة بن عامر مرفوعاً: «وإني واللهِ ما أخافُ عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخافُ عليكم أن تتنافسوا فيها»([4]).

الرد:

الجواب عن الحديث الأول بأوجه:

أولًا: إن معنى الحديث: «إنه يئسَ أن يجتمعوا كلُّهم على الكفرِ»([5])، وأن يرتدوا عن الإسلام عن بكرةِ أبيهم لأن اللهَ تعالى قد وعد باستخلافِ المسلمين في الأرضِ وتمكينه لهم فيها، وأول ما تنطبق عليه تلك الأرض الموعود أهلها بالتمكينِ فيها جزيرة العرب؛ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55]، وقد أجاب الله تعالى دعوةَ النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يسلطَ على أمتِه عدوًّا يستبيح بيضتَهم([6])، فكلُّ هذا يدلُّ على أن أهلَ الجزيرةِ العربيةِ لا يمكن اجتماعهم على الارتدادِ عن الإسلامِ.

ثانيًا: الذي ثبتَ في لفظِ الحديثِ هو نسبة اليأسِ إلى الشيطانِ مبنيًّا للفاعل،ِ ولم يقُل الرسولُ صلى الله عليه وسلم «أيس» بالبناءِ للمفعولِ، ولو قدر أنه يَئِسَ من عبادته في جزيرةِ العربِ أبدَ الآبدين فإنما ذلك حسبَ ظنِّه وتخمينِه لا عن علم؛ لأنه لا يعلمُ الغيبَ وهذا من مفاتيحِ الغيبِ الخمس، لأنه من الأمور المستقبلية([7])؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].

وهذا الظن منه يخالفُ ما أخبرَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم وهو الوجه التالي.

ثالثًا: قد أخبرَ الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة ومتعددة بوقوعِ الشركِ في أمته، ومن ذلك ما هو خاصٌّ بالجزيرةِ، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -: «لا تقومُ الساعةُ حتى تضطربَ أليات نساءِ دوس حول ذي الخلصة»([8])، وذو الخلصة صنمٌ لدوس كانوا يعبدونه في الجاهليةِ وهو في جنوبِ الجزيرةِ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يذهب الليلُ والنهارُ حتى تُعبد اللات والعزى»([9])، واللات كانت بالطائف والعزى كانت بوادي نخلة([10]) قرب مكة.

رابعًا: والواقع التاريخي يؤيد ذلك ولا يمكن إنكار الأمر الواقع، ومن ذلك:

1- أن أكثر من في الجزيرةِ ارتدوا بعد وفاةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فكثيرٌ منهم رجعوا إلى الكفرِ وعبادةِ الأوثان، وكثيرٌ صدَّقوا من ادَّعى النبوة كمسيلمة وغيره([11]).

2- القرامطة الذين أخذوا الحجرَ الأسود وقتلوا الحجيجَ وأجمعت الأمةُ على كفرِهم كانوا في شرقِ الجزيرةِ.

خامسًا: اعترافُ كثيرٍ من العلماء السابقين بوقوعِ الشركِ في هذه الأمةِ، ونكتفي باعترافِ الرازي، فإنه ذكر أقوالَ الكفارِ في عبادتهم الأصنام والأسبابَ الباعثةَ لهم على عبادتها ثم قال: «ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنامَ والأوثانَ على صورِ أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادةِ هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاءَ لهم عندَ اللهِ تعالى، ونظيرُه في هذا الزمانِ اشتغالُ كثيرٍ من الخلقِ بتعظيمِ قبورِ الأكابر على اعتقادِ أنهم إذا عظَّموا قبورَهم فإنهم يكونون شفعاءَ لهم عند الله»([12]).

وهذا اعترافٌ من الرازي بأن كثيرًا من أهلِ زمانِه يشتغلون بتعظيمِ القبورِ، وأنه مثل عبادة التماثيل عند المشركين.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا يُعْبد، اشتدَّ غضبُ اللهِ على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد»؛ فالجواب عنه بوجوه:

أولًا: إن الرسولَ صلى الله عليه وسلم لو لم يَخَفْ وقوعَ الشركِ بقبرِه لما دعا وهو يدلُّ على إمكانِ وقوعِه، وقد دلَّ الواقعُ على وقوعِه، فكم من مستغيث بقبرِه داعٍ له؟!

ثانيًا: إن الحديثَ يحملُ على إجماعِ الأمةِ على جعلِ قبرِه وثناً كما حصل في الأممِ السابقةِ، وهذا لم يحصل - بحمد الله تعالى - فلا تجتمعُ هذه الأمة على ضلالة.

ثالثًا: أو يُقال كما قال بعضُ العلماءِ، بأن اللهَ أجابَ دعوةَ نبيه بأن حفظَ قبرَه بالحيطان الثلاثةِ التي بُنيتْ على قبرِه صلى الله عليه وسلم ، فلا يستطيعُ أحدٌ أن يصلَ إليه حتى ولو أراد عبادتَه ودعاءَه من دونِ اللهِ تعالى.

رابعًا: قد حذَّر المصطفى صلى الله عليه وسلم من الشركِ بقبرِه في آخرِ حياتِه؛ فقال وهو ينازع: «لعنَ اللهُ اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد، قالت عائشةُ: يحذِّر ما صنعوا»([13])، وقال قبلَ موتِه بخمس ليال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبورَ أنبيائِهم وصالحيهم مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ إني أنهاكُم عن ذلك»([14]).

وهذا التحذيرُ البليغُ منه صلى الله عليه وسلم لخوفِه أن يُتخذ قبرُه مسجداً، ولو كان ذلك لا يمكن وقوعه لما خاف وحذَّر منه في مثل تلك الحالة، التي يحتاج فيه إلى التحذيرِ من الشيء الأهمِ والأشدِّ خطرًا.

وأما الجوابُ([15]) عن الحديثِ الثالث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «وإني واللهِ ما أخافُ عليكم أن تشركوا بعدي»؛ فعلى وجوه:

أولًا: إن الحديث خاص بالصحابةِ الذين خاطبهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهرُ الخطابِ الموجه إليهم، وليس المقصود من الحديثِ الأمةَ المحمديةَ بأجمعِها، وهذا يقتضيه الجمُع بين هذا الحديثِ والأحاديث الدالةِ على وقوعِ الشركِ وقد تقدمت الإشارةُ إليها.

ثانيًا: أو أن هذه الأمة تُفتن في أولِ أمرِها بغيرِ الشركِ من فتنةِ الدنيا، ولا يمنع وقوعُ الشركِ في آخرِها.

ثالثًا: أو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا قبلَ أن يُوحى إليه بأن الشركَ سيقعُ في طوائف من أمته.

رابعًا: أو أن الحديثَ يُحمل على أن الشركَ لا يقع في جميعِ الأمةِ حتى يرجعوا إلى ما كانوا عليه، وتجتمعُ الأمة عليه ولا يمنع هذا وقوعه من بعضها، والله أعلم.



الهوامش

([1]) انظر عن هذه الشبهة: مفاهيم (ص:27)، ودحض شبهات على التوحيد: (25)، والبصائر: (474).

([2]) أخرجه مسلم: (4/2166) (رقم:2812)، وأحمد في المسند: (3/313)، (354)، وانظر تخريجه مطولاً في حاشية دحض الشبهات سابقة الذكر، والسلسلة الصحيحة: (رقم:1608).

([3]) أخرجه أحمد: (2/246)، والحميدي: (2/445) رقم: (1525)، والجندي في فضائل المدينة (ص:39) رقم: (51) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً به، وأخرجه مالك في الموطأ: (1/172) رقم: (85) مرسلاً عن عطاء بن يسار. والحديث له طرق وهو صحيح انظر النهج السديد: (115).

([4]) أخرجه البخاري: (3/209)، رقم: (1344)، ومسلم: (4/1795)، رقم: (2296).

([5]) دحض شبهات: (34).

([6]) مسلم: (4/2215)، رقم: (2889)، من حديث ثوبان.

([7]) دحض شبهات: (36).

([8]) البخاري: (13/76) رقم: (7116)، ومسلم: (4/2230)، رقم: (2906)، وأحمد في المسند: (2/271)، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة: (1/38)، وفي الأوائل (ص:76) رقم: (58) من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف وفيه: (وهو أول شرك في الإسلام).

([9]) مسلم: (4/2230) رقم: (2907) وقد روى ابن وضاح (ص:85) عن ابن عمر مرفوعا: {لا تقوم الساعة حتى تنصب الأوثان، وأول من ينصبها أهل مضر من تهامة} ونحوه من قول حذيفة (ص:84-85).

([10]) انظر كتاب الأصنام للكلبي (ص:16، 18).

([11]) دحض شبهات: (39).

([12]) تفسير الرازي: (17/63).

([13]) البخاري: (1/532) (رقم:435، 436)، ومسلم: (1/377) (رقم:531) وله شاهد من حديث أبي هريرة، البخاري (رقم:437)، ومسلم (رقم:530).

([14]) أخرجه مسلم: (1/377) (رقم:532) والأحاديث الواردة في التحذير من اتخاذ القبور مساجد كثيرة ذكر الألباني في تحذير الساجد (ص:27) وما قبلها عن الحارث النجراني وأسامة بن زيد وأبي عبيدة ابن الجراح وزيد بن ثابت وابن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

([15]) انظر الإشارة إلى هذا الجواب في البصائر للمتوسلين بالمقابر (ص:375).

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى