منهج الصحابة رضي الله عنهم في الرد على الشبهات

منهج الصحابة رضي الله عنهم في الرد على الشبهات






ردود أبي بكر الصديق رضي الله عنه

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ أما بعد: إن الصحابة رضي الله عنهم خريجوا المدرسة النبوية، علَّمهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعلم وربَّاهم بتربية كان يتلقَّاها من ربِّه من فوق السماوات السبع، فنشئوا وترعرعوا على التعليمات القرآنية والإرشادات النبوية المطهرة، فكانوا أفضل الناس وصفوة الأخيار، وخير القرون والأمم والأجيال.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضي الله عنهم: ((خيرُ الناسِ قرني، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم، ثم يجيءُ قومٌ تسبقُ شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه))([1])، فهم الذين آمنوا ولم يلبِسُوا إيمانَهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون، بتزكية الله I لهم وثنائه عليهم.

ولأن السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، إلى غير ذلك من أمور الدين، إنما ثبتت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها، وأولهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم عدول ولا يتطرق إليهم الجرح؛ لأن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم زكياهم وذلك مشهور([2]).

فهم ينابيع الهدى، ومصابيح الدُجَى، الذين استضاءت المعمورةُ بنورِهم واستنارت قلوبُ البشرية بجهادهم، قد ضحوا بكل غالٍ ونفيس، وبالنَّفْسِ والنفيس، في سبيل إبلاغ الإسلام لهداية البشر، بدءًا من مكة والمدينة، ثم إلى عالم العرب، ثم إلى أقطار العالم الخارجي، أداءً لواجب الدعوة وامتثالًا بقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: ((بلِّغُوا عني ولو آيةً، وحدِّثُوا عن بني إسرائيلَ ولا حَرَج، ومن كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا فليتبوأ مقعَدَه من النارِ))([3]).

ملتزمين في ذلك بمنهج القرآن والسنة، متمثلين قولَ الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

فمنهجهم رضي الله عنهم في الردِّ على الشبهات كان مشتقًّا ومنبثقًا من القرآن الكريم والسنة النبوية، ويندرج تحت ما ذكرتُه من أقسام المنهج في المبحث الأول من هذا الفصل، وتأتي فيما يلي أمثلة من ردودهم:

ردود أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

1-الشبهة: (الوصول إلى الشام ثم الرجوع منه في ليلة واحدة أمر مستحيل؛ ومن ثَمَّ فادعاء محمد صلى الله عليه وسلم بالإسراء كذبٌ ودليلٌ على أنه يكذب فيما يدعو إليه).

الرد على الشبهة:

ردَّ أبو بكر رضي الله عنه قائلًا: (إنكم تكذِبُون عليه، فقالوا: والله إنه ليقوله - أي: يقول كذا وكذا ما لا يقبله العقل - فقال: إن كان قالَه فلقدْ صَدَقَ، فقالوا: أَتُصَدِّقُهُ بأنه أتى الشامَ في ليلةٍ واحدةٍ ثم رجعَ إلى مكةَ؟! قال: نعم، إني لأصدقُهُ بأبعدَ من ذلك، أصدقُهُ بخبرِ السماءِ إلى الأرضِ في ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ، فأصدقُهُ، وهذا أبعدُ مما تعجبونَ منه)، فهذا رد عقلي قوي.

ثم أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يلزمهم الحجةَ ويفحمهم؛ فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((يا نبي اللهِ، أحدثتَ هؤلاء القومَ أنك جئتَ بيتَ المقدسِ هذه الليلةَ؟ قال: نعم، قال: يا نبي اللهِ فَصِفْهُ لي فإني قدْ جئتُه، فجعلَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم يصفُه، ويقولُ أبو بكرٍ صَدَقْتَ، والمشركون يسمعون))([4])، فكان هذا الرد بالمنهج الحسي بدليل حسي مشاهد.

(2)- الشبهة: إنكار عمرُ رضي الله عنه موتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مصيبةً عظيمة، وهزةً عنيفة للمسلمين، أصيب الجميع بالهم والحزن والهول والدهشة، وفَقَدَ بعضُهم صوابَه؛ حتى إن عمر رضي الله عنه جعلته المصيبةُ ينكر موتَ النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى الناس يكلمهم ويقول: والله ما مات رسولُ الله، ولا يموت حتى يقتل اللهُ المنافقين.

الرد على الشبهة وإزالتها:

جاء أبو بكر رضي الله عنه عقب وصول الخبر إليه بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل على عائشة - رضي الله عنها - فتيمم رسولَ الله وهو مُغَشَّي بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبَّله وبكى، ثم خرج وعمرُ يكلمُ الناسَ فقال: (أيها الحالف على رَسْلِك، وقال: اجلِسْ يا عمر، فأبى عمرُ أن يجلسَ).

فلما تكلم أبو بكر أقبلَ الناسُ إليه وتركوا عمر، فجلس عمرُ رضي الله عنه فحمد أبو بكر اللهَ وأثنى عليه، وقال: (أما بعد، فمن كانَ منكم يعبدُ محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبدُ اللهَ فإن اللهَ حيٌّ لا يموتُ، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]).

فوالله لكأن الناسَ لم يكونوا يعلمون أن اللهَ أنزلَ الآيةَ حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه، وقال عمرُ: (والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلاها فعَقِرْتُ حتى لم تَقِلُّنِي رجلاي، وحتى أهويتُ إلى الأرضِ حين سمعتُه تلاها، وعلمتُ أن النبيَّ قد مات)([5]).

فالمصيبة كانت عظيمةً، والموقفُ كان خطيرًا، والخلافُ كان واقعًا، ولكن أبا بكر رضي الله عنه بفضل اللهِ أزال الشبهةَ وحلَّ الخلافَ وألَّفَ بين القلوب وثبَّتَها، وأسلوب معالجته للقضية واستخدامه الدليلَ العقلي والنقلي في إثبات وقوع وفاة النبي بالفعل، وتثبيت المسلمين على الإيمان والدين والعبادة لله، دليل على أنه أوفر الناس عقلًا، وأنه صاحب حكمة بالغة وشجاعة فائقة رضي الله عنه.

(3)-الشبهة: قول عمر رضي الله عنه نيابةً عن رأي المهاجرين - وهو منهم - حين ارتدَّ من العرب بعد وفاةِ النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا "نصلي ولا نزكي": (يا خليفةَ رسولِ اللهِ، اترك الناسَ يصلُّون ولا يؤدون الزكاةَ، فإنهم لو دخلَ الإيمانُ في قلوبِهم لأقرُّوا بها)، ومما استدل به عمرُ رضي الله عنه قولَه: (كيف تقاتل الناسَ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ اللهِ، ويقيموا الصلاةَ، ويؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلامِ، وحسابُهم على الله))([6])؟!

الرد على الشبهة وكشف النقاب عنها:

ردَّ أبو بكر رضي الله عنه قائلًا: (والذي نفسي بيده، لأن أقعَ من السماءِ أحبُ إليَّ من أن أتركَ شيئًا قاتلَ عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلا أقاتلُ عليه)؛ فتبيَّن من هذا أن أبا بكر رضي الله عنه كان على يقين أن الامتناع عن أداء الزكاة هو من ضمن ما قاتل عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

ويتضح هذا أكثر من ردِّه على عمر رضي الله عنهما، عند احتجاجه على عدم القتال بالحديث حيث قال: كيف تقاتلُ الناسَ وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ اللهِ، ويقيموا الصلاةَ، ويؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلامِ، وحسابُهم على الله))([7])؟!

فردَّ أبو بكر رضي الله عنه: (ألم يَقُلِ الرسولُ ((إلا بحقِّها))؟! ألا إن الزكاةَ من حقِّه؟ واللهِ لأقاتلنَّ من فَرَّقَ بين الصلاةِ والزكاةِ، واللهِ لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعِه، يا ابن الخطاب رجوتُ نصرتَك وجئتَني بخذلانك!! أجبَّارٌ في الجاهليةِ وخوارٌ في الإسلامِ!! إنه قد انقطعَ الوحيُ وتمَّ الدينُ، أَوَيَنقُصُ وأنا حَي؟!).

فهذا الردُّ الذي منبعه شدة التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، واستخدامه الدليل النقلي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل العقلي حينما قال: (انقطعَ الوحيُ وتمَّ الدينُ، أوينقُصُ وأنا حَي)، وأزال بفضل الله عز وجل الشبهةَ، فاجتمعَ رأيُ المهاجرين والأنصار مع رأي أبي بكر رضي الله عنه، فقاتلوا العربَ حتى رجعوا إلى الإسلام، فقال عمر رضي الله عنه: (والذي نفسي بيدِه، لذلك اليومُ خيرٌ من آلِ عمر)([8]).

(4)- الشبهة: "ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث لا يضرنا ضلالُ الضالين"([9])، يقول بعضُ الناس: لا يجب علينا القيام بالأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر حيث لا يضرُّنا ضلالُ الآخرين، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105].

فقد روى الإمامُ أبو داود عن قيس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد أن حَمِدَ اللهَ وأثنى عليه: (يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآيةَ وتضعونَها على غيرِ موضعِها: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإنا سمعنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلمْ يأخذُوا على يديه أوشَكَ أن يعمهم اللهُ بعقابٍ)))([10]).

فبيَّن الصديقُ رضي الله عنه المنهج الصحيح للاستدلال؛ وهو وضع النص في موضعه عند الاستدلال به، أما جرُّ مدلول النصِّ إلى حيث تشتهي النفس، فذلك غواية لايؤدي إلى سبيل الرشاد، ثم جاء رضي الله عنه بنصٍّ صريحٍ في الموضوع من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث يُفَسَّرُ بها القرآن كما يُفَسَّرُ القرآن بالقرآن.

الهوامش


([1]) رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، فضائل أصحاب النبي r ورضي الله عنهم، (3651)، ورواه مسلم، (2533).

([2]) أسد الغابة، ابن الأثير، (1/1).

([3]) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ذكر عن بني إسرائيل، (3461).

([4]) البداية والنهاية، ابن كثير، (3/113)، وتاريخ الخلفاء، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ص(32)، ط1، 1371هـ، 1952م، مطبعة السعادة، مصر.

([5]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، الإمام ابن حجر، كتاب المغازي، باب مرض النبي r ووفاته، (8/146)، البداية والنهاية، ابن كثير، (5/242،243)، والحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد القحطاني، ص(215،216).

([6]) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة، (25).

([7]) تقدم تخريجه.

([8]) البداية والنهاية، ابن كثير، (1/311)، وحياة الصحابة، الشيخ محمد يوسف الكنداهولي، تحقيق الشيخ نايف عباس ومحمد علي دولة، (10/434)، ط2، 1414هـ، 1993، دار القلم، دمشق.

([9]) شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د. فضل إلهي، ص(13)، ط 1، 1411هـ، 1991م.

([10]) رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب في الأمر والنهي، (4338).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
ردود أبي بكر الصديق رضي الله عنه.doc doc
ردود أبي بكر الصديق رضي الله عنه.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى