مشروعية الرد على الشبهات من السنة النبوية

مشروعية الرد على الشبهات من السنة النبوية






الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ أما بعد: هي المصدرُ الثاني للتشريع الإسلامي وأدلته، وهي من الأدلة المتفق عليها بين أئمة المسلمين، وقد دلَّت السنةُ على مشروعية الردِّ على الشبهات؛ فمن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على ذلك مثلًا:

الدليل الأول: حديثُ أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((جاهدوا المشركين بأموالِكُم وأنفسِكُم وألسنتِكُم))([1])، الشاهد: "وألسنتكم"، والحديث دليلٌ على وجوبِ الجهادِ بالنفسِ والمال وباللسان، أي بدعوة المشركين إلى اللهِ، وإقامة الحجة عليهم، والرد على شبهاتهم وافتراءاتهم، وزجرهم ونحوه([2]).

الدليل الثاني: حديثُ علي بن أبي طالب ومعاذ وابن عمر وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يحملُ هذا العلمَ منْ كلِّ خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تَحريفَ الغالين، وانتحالَ المُبْطِلِين، وتأويلَ الجاهلين))([3]).

(والمقصودُ أن هذه الأمةَ - ولله الحمد - لم يزل فيها من يتفطنُ لما في كلامِ أهلِ الباطلِ من الباطل ويَرُدُّ، وهم لِمَا هداهُم اللهُ بِه يتوافقون في قبولِ الحق وردِّ الباطل، رأيًا وروايةً من غيرِ تشاعرٍ ولا تواطؤ)([4]).

وقد وقف النبيُّ صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة، وردَّ فيها على شبهةٍ يقعُ فيها أحدٌ من صحابته رضي الله عنهم، أو من المدعوين غير المسلمين، ولا يتركه ينقادُ لشبهتِه فيضل عن سواءِ السبيل، وتؤكدُ هذه المواقفُ النبويةُ مشروعيةَ الردِّ على الشبهات وأهميته لصيانةِ الدين والدعوةِ إليه، وفيما يلي ذكرُ أمثلةٍ من تلك المواقف كأدلة على مشروعية الرد:

الموقف الأول:

عن عبد الله بن عمرو قال: ((حُدِّثْتُ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: صلاةُ الرجلِ قاعدًا نصفُ الصلاة، قال: فأتيتُه فوجدتُه يصلي جالسًا، فوضعتُ يدي على رأسِه، فقال: ما لك يا عبد الله بن عمرو؟ قال: حُدِّثْتُ يا رسول الله أنك قلت: صلاة الرجل قاعدًا نصفُ صلاة، وأنت تصلي قاعدًا، فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لإزالةِ شبهتِه قائلًا: أجل، ولكني لستُ كأحدٍ منكم))([5]).

نجد في هذا الحديث الشريف دلالةً واضحةً على الردِّ على الشبهة، فلما رأى عبدُ الله بن عمرو النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدًا، وكان قد سمع بأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاةُ الرجلِ قاعدًا نصفُ الصلاة))؛ التبس عليه الأمرُ، ووقع في شبهة أن إذا ما كان الحديث صحيحًا، فسأله قائلًا: ((وأنت تصلي قاعدًا))، فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لإزالةِ شبهتِه قائلًا: ((أجل، ولكني لستُ كأحدٍ منكم)).

الموقف الثاني:

عن عبد الله قال: ((لما كان يوم حنين، آثَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ناسًا في القسمةِ، فأعطى الأقرع بن حابس مائةً من الإبلِ، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العربِ، وآثَرَهُم يَومَئِذٍ في القسمة، فقال رجلٌ: والله!! إن هذه لقسمةٌ ما عدل فيها، وما أُريد فيها وجه اللهِ!!

قال: قُلتُ: والله لأُخْبِرَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيتُه فأخبرتُه بما قال، قال: فتَغَيَّرَ وجهُه حتى كان كالصرف([6])، ثم قال: فمنْ يَعْدِلُ إنْ لَمْ يَعْدِلْ اللهُ ورسولُه، قال: ثم قال: يَرْحَم اللهُ موسى، قد أوذي بأكثَر مِنْ هذا فَصَبَرَ، قال: قلتُ: لا جَرَمَ ولا أَرْفَعُ إليه حديثًا))([7]).

قولُه: ((إن هذه القسمةَ ما عَدَلَ فيها، وما أُريد فيها وجهُ اللهِ))؛ طعنٌ في رسولِ الله، وشبهةٌ في أمانته، وتقول على اللهِ تبارك وتعالى، إن هذه الشبهة كفرٌ ونفاقٌ وكيدٌ على المسلمين، وفي الحديثِ دلالةٌ صريحةٌ على الردِّ على الشبهةِ، حيث لما بَلَغَت النبيَّ صلى الله عليه وسلم هذه المقولةُ تغيَّرَ وجهُه بالغضبِ وقال:  ((فمنْ يَعْدِلُ إنْ لَمْ يَعْدِلْ اللهُ ورسولُه))؟!

كما يوجد في الحديث جوازُ إخبارِ الإمامِ وأهلِ الفضلِ بما يُقال فيهم مما لا يليق بهم، وذلك لتحذيرِ القائل([8])، ولم يكن ذلك إلا للقضاء على الشبهةِ ومنعها من الانتشارِ، وإزالتِها عن نفوسِ الناس.

وعن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: ((لما أفاءَ اللهُ على رسولِه صلى الله عليه وسلم يوم حُنَيْن، قَسَّمَ في الناسِ في المؤلفةِ قلوبهم، ولم يُعْطِ الأنصارَ شيئًا؛ فكأنهم وجدوا، إذ لم يُصِبْهم ما أصابَ الناسَ، فخطبهم فقال: يا معشر الأنصار، ألم أجدكُم ضُلَّالًا فهداكُم اللهُ بي؟! وكنتم مفترقون فألَّفَكُم اللهُ بي؟! وكنتم عالةً فأغناكم اللهُ بي؟! كلما قال شيئًا؛ قالوا: اللهُ ورسولُه أَمَنُّ.

قال: لو شِئْتُم قُلْتُم: جِئْتَنَا كذا وكذا ... لولا الهجرة لكنتُ امرءًا من الأنصارِ، ولو سَلَكَ الناسُ واديًا وشِعْبًا، لسلكتُ وادي الأنصار وشعبِها، والأنصارُ شعارٌ والناسُ دِثَارٌ، إنكم سَتَلْقَوْن بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوضِ))([9]).

فإن خطابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم هذا لإزالةِ ما وجده الأنصارُ في أنفسهم من شبهةٍ أو شَكٍّ لِمَا لم يعطِهم شيئًا من القسمة، يدلُّ دلالةً واضحةً على مشروعيةِ الردِّ على الشبهات.

الموقف الثالث:

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لم أزل حريصًا أن أسأل عمرَ رضي الله عنه؛ مَن المرأتين مِنْ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]؟ حتى حجَّ عمرُ وحججتُ معه، فلما كنا ببعضِ الطريقِ عَدَلَ عمرُ وعَدَلْتُ معه بلا إرادة، فتَبَرَّزَ، ثم أتاني فسكبتُ على يديه، فتوضأَ، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، من المرأتين من أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم اللتان قال اللهُ سبحانه وتعالى لهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}؟

قال عمر رضي الله عنه: واعجبًا لك يا ابن عباس!! - قال الزهري: كره واللهِ ما سأله عنه ولَمْ يكتُمْه -، قال: هي حفصة وعائشة، ثم أخذ يسوقُ الحديثَ؛ قال: كنا - معشرَ قريش - قومٌ نغلبُ النساءَ، فلما قدمنا إلى المدينة وجدنا قومًا تغلِبُهم نساؤهم، فَطَفِقَ نساؤُنا يتعلَّمْن من نسائِهم.

قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد، بالعوالي، فتغضَّبْتُ يومًا على امرأتي، فإذا هي تُراجِعُنِي، فأنكرتُ أن تراجعَني، فقالتْ: ما تُنكِرُ أن أراجعُك؟! فوالله، إن أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليراجِعْنَه، تهجرُه إحداهن اليومَ إلى الليل.

فانطلقتُ فدخلتُ على حفصة؛ فقلتُ: أتراجعين رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم، فقلتُ: أتهجُرُه إحداكُن اليومَ إلى الليلِ؟ قالت: نعم، قلتُ: قد خابَ من فعلَ ذلك منكنَّ وخَسِرَ، أفتأمن إحداكُنَّ أن يغضبَ اللهُ عليها لغضبِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فإذا هي قد هلكت!! لا تُراجعي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا تسأليه شيئًا، وسليني ما بدا لكِ، ولا يغرَّنَّك أن كانت جارتُك هي أوسمُ وأحبُّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم منك - يريد عائشة -.

قال: وكان لي جارٌ من الأنصارِ، فكنا نتناوبُ النزولَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فينزلُ يومًا وأنزلُ يومًا، فيأتيني بخبرِ الوحيِّ وغيرِه، آتيه بمثلِ ذلك، وكنا نتحدث، أن غسان تنعَّلَ الخيلَ لغزونا، فنزل صاحبي ثم أتاني عشاءً فضرب بابي، ثم نادني، فخرجتُ إليه، فقال: حَدثَ أمرٌ عظيمٌ!! قلتُ: ماذا، أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءَه.

فقلتُ: قد جائتْ حفصةُ وخَسِرَت، قد كنتُ أظنُّ هذه كائنًا، حتى إذا صليتُ الصبحَ شددتُ عليَّ ثيابي، ثم نزلتُ فدخلتُ على حفصة وهي تبكي، فقلتُ: أطلقكُنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟! فقالت: لا أدري، هاهو ذا معتزلٌ في هذه المشربة، فأتيتُ غلامًا له أسود، فقلتُ: أستأذن لعمرَ، فدخل ثم خرج إليَّ، فقال: قد ذكرتُك له فَصَمَتَ.

فانطلقتُ حتى انتهيتُ إلى المنبر فجلستُ، فإذا عنده رهطٌ جلوسٌ يبكي بعضُهم فجلس قليلًا، ثم غلبني ما أجدُ، ثم أتيتُ الغلامَ فقلتُ: استأذن لعمر، فدخل إليَّ، فقال: قد ذكرتُك له فصمت.

فوليتُ مدبرًا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخُل؛ فقد أَذِنَ لكَ، فدخلتُ فسلَّمتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا هو متكئٌ على رملٍ حصير، قد أثَّر في جنبِه، فقلت: أطلَّقْتَ يا رسول اللهِ نساءَك؟ فرفع رأسَه إليَّ وقال: لا.

فقلتُ: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشرَ قريش قومًا نغلبُ النساءَ، فلما قَدِمْنَا المدينةَ وجدنا قومًا تغلبًهم نساؤُهم، فطَفِقَ نساؤُنا يتعلَّمْنَ من نسائِهم، فتغضَّبْتُ على امرأتي يومًا، فإذا هي تراجعُني، فأنْكَرْتُ أن تراجعَني، فقَالَتْ: ما تُنْكِرُ أن أراجعُك؟ فواللهِ إن أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليراجعْنَه، وتهجرُه إحداهنَّ اليومَ إلى الليلِ، فقلتُ: قد خابَ من فعلَ ذلك منهنَّ وخَسِرَ، أفتأمنُ إحداهنَّ أن يغضبَ اللهُ عليها لغضبِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فإذا هي قد هَلَكَتْ؟!

فتَبَسَّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسول اللهِ، قد دَخَلْتُ على حفصة، فقلتُ: لا يغرُّك أن كانت جارتُك هي أوسم منكِ، وأحب إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم منكِ، فتَبَسَّمَ أخرى، فقلتُ: استأنس يا رسول الله؟ قال: نعم، فجَلَسْتُ، فرفعتُ رأسي في البيتِ، فواللهِ ما رأيتُ فيه شيئًا يردُّ البصرَ، إلا أهيا ثلاثة، فقلتُ: ادعُ اللهَ يا رسول اللهِ أن يوسِّعَ على أمتك، فقد وسَّعَ على فارس والروم، وهم لا يعبدونَ اللهَ.

فاستوى جالسًا، ثم قال: أفي شكِّ أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قومٌ عُجِّلَتْ لهم طيباتُهم في الحياةِ الدنيا، فقلتُ: استغفر لي يا رسولَ اللهِ، وكان أقسمَ أن لا يدخلَ عليهنَّ شهرًا من شدةِ ما وجده عليهنَّ، حتى عاتَبَهُ اللهُ عز وجل))([10]).

من الشواهد في الحديث: ((ادعُ اللهَ يا رسول اللهِ أن يوسِّعَ على أمتك، فقد وسَّعَ على فارس والروم، وهم لا يعبدونَ اللهَ، فاستوى جالسًا، ثم قال: أفي شكِّ أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قومٌ عُجِّلَتْ لهم طيباتُهم في الحياةِ الدنيا)).

لما وَجَدَ عمرُ رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم مضطجعًا على رملٍ حصيرٍ، ليس بينه وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلم فراشٌ، قد أثَّرَ الرملُ بجنبِه، متكئًا على وسادة من أدم، ولم يرَ في بيته من شيءٍ يردُّ البصرَ غيرَ أهية ثلاثة، وهو رسولُ اللهِ وخليلُه، وكان يعلمُ ما كان يعاني المؤمنون من ضيقٍ وفقرٍ، فلما رأى رضي الله عنه فارس والروم ينعمون بنعمِ اللهِ وهم كفارٌ، ظنَّ بأن المؤمنين أولى وأحق منهم بنِعَمِ اللهِ جل وعلا، فلماذا هم في ضيقٍ وفقرٍ؟! فطلبَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يدعوا اللهَ ليوسعَ على أمتِه.

ولكن أدركَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن السببَ الذي ذكره عمرُ رضي الله عنه فيه شبهة وشك، وهو أن المؤمنين يعبدون اللهَ ولا يشركون به شيئًا، فهم إذًا أحقُّ وأولى من الكفارِ بنعمه عز وجل، فلماذا الواقعُ على عكس ذلك؟!

فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه بما فيه إزالة شكِّه ورد شبهته وبيان الحقيقة، وهو أن الكفار ينالون من نعيمِ الدنيا وما لهم في الآخرةِ من خلاق، والدنيا فانيةٌ، ونعيمُها زائلٌ، أما الآخرةُ فهي أبديةٌ ونعيمها باقٍ ثابت، ومن الأحاديث التي تؤكدُ هذا الأمرَ وتبينُ حقيقةَ الدنيا ونعيمِها للمؤمن ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا سِجْنُ المؤمنِ وجنَّةُ الكافرِ))([11]).

الموقف الرابع:

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((صنع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرًا فترخصَ فيه، فبلغَ ذلك ناسًا من أصحابِه، فكأنهم كَرِهُوه وتنزَّهوا عنه، فبلغه ذلك؛ فقام خطيبًا فقال: ما بالُ رجالٍ بلغَهم عني أمرًا ترخَّصتُ فيه، فكرِهوه وتنزَّهوا عنه، فواللهِ لأنا أعلمُهم باللهِ وأشدُّهم له خشيةً))([12]).

إن كراهة هؤلاء لما ترخَّص فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ورغبتهم عنه لم تكن إلا لشبهةٍ وقعوا فيها، وهي أن الرخصة منافية لخشية الله، أو هي أقل أجرًا وثوابًا، لذا لما بلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام بالردِّ على الشبهة لإزالتها عن نفوس أصحابها، حيث خطب فيهم بما بيَّن من خلاله بأن الرخصة لا تنافي خشيةَ الله، فلا تعارض بينهما، واستدل على ذلك بقوله بأنه صلى الله عليه وسلم: ((أعلمُهم باللهِ وأشدُّهم له خشيةً)).

الموقف الخامس:

عن الأحنف بن قيس قال: ((خرجتُ وأنا أريدُ هذا الرَّحْلَ، فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد يا أحنف؟ قلتُ: أريدُ نصرَ ابن عمِّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم - يعني عليًّا - قال: فقال لي: يا أحنف ارجِع؛ فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتلُ والمقتولُ في النارِ، قال: فقلتُ - أو قيل -: يا رسولَ اللهِ هذا القاتلُ، فما بالُ المقتولِ؟ قال: إنه قد أراد قتلَ صاحبِه))([13]).

الشاهد: سؤال أبي بكرة: ((... فقلتُ - أو قيل -: يا رسولَ اللهِ هذا القاتلُ، فما بالُ المقتولِ؟ قال: إنه قد أراد قتلَ صاحبِه))، حيث يُفهَم من سؤال أبي بكرة بأن الأمر قد التبس عليه، فرأى بأن دخول القاتلِ النارَ أمرٌ مفهومٌ ومعقولٌ إذ يتطلبه العدلُ، أما المقتول فهو مظلومٌ فكيف يدخل النار؟! فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه بأنه كان حريصًا على قتلِ صاحبِه، وبهذا زال الالتباس وتبيَّن الأمرُ، ففي الحديث فائدة جواز سؤال العالم عند الوقوع في شكٍّ أو شبهةٍ، كما أن فيه دليلًا على إزالة الشبهة ورفع الالتباس ببيان الحق وتوضيحه.

الموقف السادس:

حديثُ الإفك([14])، والشاهد فيه قول عائشة - رضي الله عنها -: ((فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على شبهةٍ كاذبةٍ، ومن يقفُ وراءَها ويشيعُها للنيلِ منه عليه أفضل الصلاة والسلام))، كما يجد المتأملُ في هذا الحديث دروسًا كثيرةً وفوائد حسنة، والتي كثيرًا ما يحتاجُ إليها المرءُ في حياته الأسرية والاجتماعية للتعامل السليم الصحيح مع نفسه وأسرته ومجتمعه، في حالات مماثلة أو متشابة لما ذُكِرَ في الحديث.

ومما يتعلق من الفوائد بموضوع الدراسة:

1- قيام أمير المؤمنين أو من يَعْنِيه الأمر بالتحقيق من شبهةٍ أشبعت، أو أمرٍ حصل فيه شكٌّ والتباس.

2- التعرُّف على مدى تصديق الناس للشبهة المُشاعة.

3- استشارة ذوي علم وبصيرة للبحث عن حلٍّ مناسب عند الأزمات.

الموقف السابع:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((جاءَ ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوتِ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقد غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه وما تأخَّر.

قال أحدُهم: أما أنا فإني أُصلي الليلَ أبدًا، وقال آخرُ: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزلُ النساءَ فلا أتزوجُ أبدًا، فجاء رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قُلْتُم كذا وكذا؟! أما واللهِ إني لأخشاكم للهِ وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلي وأَرْقُد، وأتزوجُ النساءَ، فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مني))([15]).

("تقالُّوها" أي: استقلُّوها، وأصلُ تقالُّوها تقاللوها، أي: رأى كلٌّ منهم أنها قليلة، وقولهم: ((وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقد غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه وما تأخَّر))؛ أي: أن من لم يعلم بحصول ذلك له – أي المغفرة - يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل بخلاف ما حَصَلَ له.

لكن قد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس بلازم، فأشار إلى هذا بأنه أشدُّهم خشيةً، وذلك بالنسبة لمقام العبودية في جانب الربوبية، وأشار في الحديث الآخر عن عائشة والمغيرة، إلى معنى آخر بقوله: ((أفلا أكونُ عبدًا شكورًا))، ففيه إشارة إلى ردِّ شبهتهم، أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أَخْشَى للهِ وأَتْقَى من الذين يشدِّدُون، وإنما كان ذلك لأن المشدد لا يأمن من الملل، بخلاف المقتصد فإنه أمكن لاستمراره، وخيرُ العمل ما داوم عليه صاحبُه)([16]).

(وقولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ((لكني)) استدراكٌ من شيءٍ محذوفٍ دلَّ عليه السياق، أي: أنا وأنتم بالنسبة إلى العبوديةِ سواء، لكن أنا أعمل كذا، وقوله: ((فمن رَغِبَ عن سنَّتِي فليس مني))؛ المراد بالسُّنَّة الطريقة، والمراد: من تَرَكَ طريقتي وأخذ بطريقةِ غيري فهو ليس مني، أي ليس على ملَّتِي.

ولمَّح بذلك إلى طريقِ الرهبانيةِ، فإنهم الذين ابتدعوا التشديدَ كما وصفهم اللهُ تعالى، وقد عاتبهم بأنهم ما وفُّوا بما التزمُوه، وطريقةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الحنيفيةُ السمحةُ، فيُفْطِر ليتقوَّى على الصوم، وينام ليتقوَّى على القيام، ويتزوج لكسرِ الشهوةِ وإعفاف النفس وتكثير النسل)([17]).

فمن دلالات الحديث مشروعيةُ إزالةِ الشبهةِ عن المجتهدين، كما فيه الردُّ على شبهة الذين منعوا استعمال الحلال من الأطعمة والملابس وآثروا غليظ الثياب وخشن المأكل([18]).

 

الهوامش

([1]) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب كراهة ترك الغزو، (2504)، وصححه الألباني.

([2]) عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد أشرف الصديقي العظيم آبادي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، كتاب الجهاد، باب كراهة ترك الغزو، (7/77078)، ط 2، 1421هـ-2001م، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([3]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، الإمام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر الأندلسي، (1/28)، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكريم البكري، ط 2، الناشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية "المملكة المغربية".

([4]) مجموع فتاوى الإمام ابن تيمية، (90/223).

([5]) رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب صلاة الليل وعدد ركعات، (735).

([6]) الصِّرف: بكسر الصاد، وهو صبغ أحمر يصبغ به الجلود، ويُسمى الدم أيضًا؛ انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، النووي، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر والقناعة والحث عل كل ذلك، (7/158).

([7]) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، (1062).

([8]) فتح الباري، ابن حجر، (100/512)، ط:1379، دار المعرفة بيروت.

([9]) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، (4330).

([10]) رواه مسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء، (1479)، والبخاري، (2468).

([11]) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب ما بين النفختين، (2956).

([12]) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب علمه r بالله تعالى، (3356).

([13]) روى البخاري نحوًا منه، كتاب الإيمان، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا، (31)، ومسلم، كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، (2888).

([14]) رواه البخاري، كتاب الشبهات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا، (2661)، ومسلم، (2770).

([15]) رواه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، (5063).

([16]) فتح الباري، ابن حجر، (9/7).

([17]) المرجع السابق، (9/807).

([18]) المرجع السابق، (9/8).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
مشروعية الرد على الشبهات من السنة النبوية.doc doc
مشروعية الرد على الشبهات من السنة النبوية.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى