العلم والمعرفة من أسباب الخوف من الله

العلم والمعرفة من أسباب الخوف من الله






الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ فقد تقدم بأن اللهَ أمرَ بالخوف، وأثنى على من اتصف به، بل وجعل الخوفَ شرطًا في صحة الإيمان، كما بيَّنَّا أيضًا أن الخوف هو الدافع إلى فعل المأمور وترك المحظور.
  • العلم والمعرفة:
وفي مقدمة هذه الأسباب - لاشك - هو العلم والمعرفة بالله وعظمته، ومعرفة أسمائه وصفاته، وقد بيَّن شيخُ الإسلام أن الخوف من الله يستلزم معرفتَه، ومعرفتُه تستلزم خشيتَه، وخشيتُه تستلزم طاعتَه، فمن عرفَ الله خافه، ومن خافه خشي عقابه وامتثل طاعته وانتهى عن معصيته.
يقول شيخ الإسلام: (فكما أن الخوفَ يستلزمُ العلمَ به، فالعلمُ به يستلزم خشيتَه، وخشيتُه تستلزم طاعتَه، فالخائفُ من اللهِ ممتثلٌ لأوامره مجتنبٌ لنواهيه، وهذا هو الذي قصدنا بيانه أولًا، ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 9-12]، فأخبر أن من يخشاه يتذكر والتذكر هنا مستلزم لعبادته.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر 13]، وقال تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}، ولهذا قالوا في قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى}، سيتعظُ بالقرآنِ من يخشى اللهَ.
وفي قوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} [غافر: 13]: إنما يتعظُ من يرجعُ إلى الطاعةِ، وهذا لأن التذكر التام يستلزمُ التأثر بما تذكره، فإن تذكر محبوبًا طَلَبَه، وإن تذكر مرهوبًا هرب منه.
ومنه قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يس 10].، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ}، فنفى الإنذار عن غير هؤلاء مع قوله: {وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، فأثبت لهم الإنذار من وجه، ونفاه عنهم من وجه، فإن الإنذار هو الإعلام بالمخوف، فالإنذار مثل التعليم والتخويف، فمن عَلَّمْتُه فتعلم فقد تم تعليمُه، وآخر يقول علَّمْتُه فَتَعَلَّم.
وكذلك من خَوَّفْتُه فخافَ، فهذا الذي تم تخويفه، وأما من خُوِّفَ فما خافَ فلم يتم تخويفه، وكذلك من هديته فاهتدى تم هداه، ومنه قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة 2]، ومن هديته فلم يهتدِ، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ} [فصلت 17]، فلم يتم هداه، كما تقول: قطعتُه فانقطع، وقطعتُه فما انقطع.
فالمؤثر التام يستلزمُ أثرَه، فمتى لم يحصل أثرُه لم يكنْ تامًّا، وبالفعل إذا صادف محلًّا قابلًا تَمَّ، وإلا لم يَتِم، والعلم بالمحبوب يورثُ طلبه، والعلمُ بالمكروه يُورث تركه، ولهذا يُسمى هذا العلم: الداعي)([1]).
ولهذا فأكثرُ الناس خشيةً لله هم أهل العلم المنتفعين بعلمهم، الذين وصفهم الله في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر 28]، والمعنى أنه لايخشاه إلا عالم، فقد أخبر اللهُ أن كل من خشي اللهَ فهو عالم، كما قال في الآية الأخرى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]([2]).
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي أرى ما لا ترون، وأسمعُ ما لا تسمعون، أَطَّت السماءُ وحقَّ لها أن تَئِط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملكٌ واضعٌ جبهتَه ساجدًا لله، لو تعلمونَ ما أعلمُ لضحكتُم قليلًا ولبكيتُم كثيرًا وما تلذذتم بالنساءِ على الفُرُشِ، ولخرجتُم إلى الصعُدات تجأرون إلى اللهِ، لَوَدَدَّتُ أنِّي كنتُ شجرةً تُعَضد))([3]).
قال ابن القيم: (فصاحبُ الخوفِ يلتجئُ إلى الهربِ والإمساكِ، وصاحبُ الخشيةِ يلتجئُ إلى الاعتصام بالعلمِ، ومَثَلُهُمَا مثلُ من لا عِلْمَ له بالطبِّ ومثل الطبيبِ الحاذق، فالأولُ يلتجئُ إلى الحميةِ والهرب، والطبيبُ يلتجئُ إلى معرفتِه بالأدويةِ والأدواء)([4]).
وعن عائشة أن ناسًا كانوا يتعبدون عبادةً شديدة؛ فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((واللهِ إنِّي لأعلَمُكُم باللهِ عز وجل وأخشاكم له))، وكانَ يقولُ: ((عليكُم مِنَ العملِ ما تطيقون، فإنَّ اللهَ عز وجل لا يمل حتى تملُّوا))([5])، قال ابن القيم: (وعلى قدرِ العلمِ والمعرفةِ يكون الخوف والخشية)([6]).
وقال: (فكلما كان العبدُ باللهِ أعلمَ كان له أخوف، قال ابن مسعود: وكفى بخشيةِ اللهِ علمًا، ونقصان الخوفِ من اللهِ إنما هو لنقصان معرفة العبدِ به، فَأَعْرَفُ الناسِ أَخْشَاهُم للهِ، ومن عَرفَ اللهَ اشتد حياؤه منه وخوفُه له وحبُّه له، وكلما ازدادَ معرفةً ازداد حياءً وخوفًا وحبًّا، فالخوفُ من أَجَلِّ منازل الطريق، وخوفُ الخاصةِ أعظم من خوفِ العامةِ، وهم إليه أحوج، وهو بهم أليق ولهم ألزم)([7]).
 

الهوامش:
([1]) الإيمان الكبير، ابن تيمية، ص(/23-24).
([2]) المصدر السابق، ص(20).
([3]) رواه الترمذي، (2312)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، (2449).
([4]) مدارج السالكين، ابن القيم، (1/513).
([5]) رواه أحمد في مسنده، (24956)، تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
([6]) مدارج السالكين، ابن القيم، (1/513).
([7]) طريق الهجرتين، ابن القيم، (1/424).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
العلم والمعرفة من أسباب الخوف من الله doc
العلم والمعرفة من أسباب الخوف من الله pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى