وحدة الوجود.. عقيدة كل الصوفية

وحدة الوجود.. عقيدة كل الصوفية





 
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: إن الصوفيين كلهم، من أولهم إلى آخرهم، (إلا المبتدئين)، يؤمنون بوحدة الوجود.
يقول أبو بكر الكلاباذي في التعرف: قال الجنيد: المعرفة وُجودُ جهلك عند قيام علمه. قيل له: زدنا. قال: هو العارف وهو المعروف.
يفسر أبو بكر الكلاباذي هذا الكلام فيقول: (معناه: أنك جاهل به من حيث أنت، وإنما عرفته من حيث هو)([1]).
- قوله: (العارف هو المعروف)، واضح تماماً، فالعاوف (وهو مخلوق) هو نفس المعروف (الذي هو الله).
- وقول الكلاباذي: (أنك جاهل به من حيث أنت..)، فضمير المخاطب (أنت) يرمز به إلى (الفرق)، فهو يريد أن يقول: (إنك جاهل به) (أي: بالحق) من حيث تعتقد أنك (أنت) ولست (هو)، وإنما عرفته من حيث أنك (هو).
وبيت لابن الفارض قد يساعد على توضيح المعنى، يقول:
فقد رُفِعت تاء المخاطب بيننا                 وفي رفعها عن فرقة الفرق رِفعتي
- هذا هو نفس المعنى الذي أراده الجنيد بقوله: (المعرفة وجود جهلك..).
وقال أيضاً (أي: الجنيد):
حقيقة التوكل: أن يكون لله تعالى كما لم يكن، فيكون الله له كما لم يزل([2]).
- قوله: أن يكون (أي: المتوكل الذي هو خلق)، كما لم يكن (أي: كأنه غير موجود كما كان سابقاً)، وهذا ما يسمونه (الفناء عن الخلق)، فيكون الله له كما لم يزل (أي: هو الموجود الوحيد ولا موجود غيره).
ويقول سهل بن عبد الله التّستري:
يا مسكين! كان ولم تكن، ويكون ولا تكون. فلما كنت اليوم صرت تقول: أنا وأنا!
كن الآن كما لم تكن، فإنه اليوم كما كان([3])...
- قول سهل هذا، هو نفس قول الجنيد، لكنه أكثر وضوحاً منه، وهو في الواقع لا يريد من جملته كلها إِلا قوله: (كان ولم تكن، وإنه اليوم كما كان)، وليس في باقي كلامه معنى يزيد على هذا.
ويقول أبو نصر الطوسي في (اللمع):
وبلغني عن أبي حمزة (الصوفي)([4]) أنه دخل دار حارث المحاسبي، وكان لحارث دار حسنة وثياب نظاف، وفي داره شاة مُرغية، فصاحت الشاة مرغية، فشهق أبو حمزة شهقة، وقال: (لبيك يا سيدي)، قال: فغضب الحارث وعمد إلى سكين، فقال: إن لم تتب من هذا الذي أنت فيه أذبحك. قال: فقال له أبو حمزة: أنت إذا لم تحسن هذا الذي أنت فيه فلِمَ لا تأكل النخالة بالرماد..
يعلق الطوسي على هذا الكلام فيقول: يريد (أبو حمزة) بذلك أن إنكارك عليّ يشبه أحوال المريدين والمبتدئين([5]).
- أي: إن الشاة هي الله (أو جزء منه) وإن صوتها صوته (!) تعالى الله علواً كبيراً.
وتكلم أبو حمزة في جامع طرسوس فقبلوه، فبينا هو ذات يوم يتكلم، إذ صاح غراب على سطح الجامع، فزعق أبو حمزة، وقال: لبيك لبيك، فنسبوه إلى الزندقة، وقالوا: حُلولي زنديق، وبيع فرسه بالمناداة على باب الجامع: (هذا فرس الزنديق)[6]
وأبو الحسين النوري: سمع أذان المؤذن فقال: طعنة وشم الموت، وسمع نباح الكلاب، فقال: لبيك وسعديك([7]).
- وهذا يعني أن الله هو كل ما نرى (وما لا نرى) بما في ذلك (؟!) تعالى الله.
وقد مر معنا قول الشبلي، وهو يجيب الجنيد: (أنا أرى وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري).
وهذا قول بعيد الإشارة بعض الشيء، على أن الشبلي يكون أكثر وضوحاً عندما يقول لبعض زواره عند خروجهم من عنده: أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وكلاءتي([8]).
يقول الطوسي شارحاً: (أراد بقوله ذلك: إن الله تعالى معكم حيث ما كنتم وهو يرعاكم..).
ويقول الشبلي أيضاً:
كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً، إلا أنه أظهر وكتمت([9]).
ويقول أبو يزيد البسطامي:
غبتُ في الجبروت، وخضت بحار الملكوت، وحُجُبَ اللاهوت، حتى وصلتُ إلى العرش، فإذا هو خالٍ، فألقيت نفسي عليه، وقلت: سيدي أين أطلبك؟ فكشف، فرأيت أني أنا، فأنا أنا، أوّلي فيما أطلب، وأنا لا غيري فيما أسير([10]).
وقال عندما تجلى له هذا النور (أي: نور وحدة الوجود): (سبحاني ما أعظم شأني)([11])!!
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
اقتبس هذا المقال من كتاب: (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ) للمؤلف: (محمود عبد الرؤوف القاسم).


الهوامش

([1]) التعرف لمذهب أهل التصوف، باب: (22)، (ص:66).
([2]) التعرف، باب: (44)، (ص:101).
([3]) إحياء علوم الدين: (4/222).
([4]) قُتل على الزندقة، ولم أقف على تاريخ قتله، وهو من أقران الجنيد.
([5]) اللمع، (ص:495)، وقد أورد القصة أيضاً عبد الفتاح أبو غدة في ترجمته للحارث المحاسبي في (رسالة المسترشدين)، (ص:23).
([6]) تلبيس إبليس، (ص:169).
([7]) اللمع، (ص:492).
([8]) اللمع، (ص:478).
([9]) من كتاب (الحلاج) لـ (طه عبد الباقي سرور)، وهو شيخ الصوفية في مصر، معاصر، (ص:104).
([10]) شطحات الصوفية، (ص:164).
([11]) إيقاظ الهمم، (ص:156).

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى