موقف بن عطاء الله السكندري من عقيدة وحدة الوجود

موقف بن عطاء الله السكندري من عقيدة وحدة الوجود





 
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فهذه بعض عبارات عطاء الله السكندري في وحدة الوجود، نبينها للقارئ ليكون على بصيرة مما يدعو إليه هذا الرجل وأمثاله.
يقول ابن عطاء الله السكندري في حِكَمِه:
لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل عنه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون، ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى)) [النجم:42]([1]).
- قوله: (لا ترحل من كون إلى كون...ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون). هو تماماً مثل قول عبد القادر الجيلاني: ..إلى متى الدنيا؟ إلى متى الآخرة؟ إلى متى سوى المولى؟.. إذ المعنى واحد تماماً، وكذلك هو مثل قوله: اخلع نعليك: دنياك وآخرتك..، لكن يزيد عليه إن الذي يبتغي الآخرة يكون كحمار الرحى (كانت الطواحين تدار بالحمير)، إذ إن حمار الرحى يدور، يدور ثم يرجع إلى مكانه، وهكذا طالب الآخرة عند السكندري؟!
ويقول: لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عن ما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز([2]).
- في هذا النص يتضح لنا معنى المصطلح (حضور) ومعنى العبارة (غيبة عن ما سوى المذكور..)، وسنشاهدهما كثيراً في كتبهم.
ويقول: إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه وارداً([3]).
أورد عليك الوارد ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار([4]).
أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك([5]).
- في هذه النصوص، يتبين لنا معنى (الوارد). وبدهياً، أننا الآن نعرف بدقة معنى العبارات (لتكون به عليه وارداً، ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار، ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك). فهي كلها تعني (شهود وحدة الوجود)، ويعني بالآثار شهود الخلق.
ويقول: فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحُجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار([6]). مما يدلك على وجود قهره سبحانه أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه([7]).
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء([8])!
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء([9])! كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر لكل شيء([10]). كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء([11])! كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ليس معه شيء([12])!
- لنركيف يقدم ابن عجيبة (الذي يشرح حكم ابن عطاء الله) هذه التعجبات! إنه يقول: ...ثم استدل (أي: ابن عطاء الله) على بطلان وجود الحجاب في حقه تعالى بعشرة أمور، متعجباً من كل واحد، لظهوره مع خفائه، أي لشدة ظهوره عند العارفين، وشدة خفائه عند الغافلين الجاهلين، فأشار إلى الأول بقوله: كيف نتصور أن يحجبه شيء...، ومعنى هذا الكلام، أن الحجاب الذي يحجب الحق تعالى عن الغافلين الجاهلين هو الوهم فقط، لأن الحق ظاهر شديد الظهور، لكنه اختفى عن الغافلين بسبب غفلتهم وجهلهم. فهم يظنون أن المخلوقات هي غير الله. وهذا باطل عند العارفين.
- ويعلق ابن عجبية على قول ابن عطاء الله: وهو الذي أظهركل شيء، شارحاً فيقول: والظاهر هو الباطن، ما بطن في عالم الغيب هو الذي ظهر في عالم الشهادة، فحياض الجبروت متدفقة بأنوار الملكوت:
انظر جمالي شاهداً            في كل إنسان
الماء يجري نافداً              في أس الأغصان
تجده ماءً واحداً              والزهر ألوان
يا عجباً كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف([13])...
- ويشرح قوله:..وهو الذي ظهر بكل شيء، فيقول: بباء الجر، أي تجلى بكل شيء، فلا وجود لشيء مع وجوده، فكيف يحجبه شيء، والفرض أن لا شيء. قال صاحب العينية رضي الله عنه:
تجليت في الأشياء حين خلقتها                فها هي ميطت عنك فيها البراقع([14])
- ويشرح قوله: ...وهو الظاهر قبل وجود كل شيء، فيقول: فكل ما ظهر فمنه وإليه، فكان في أوله ظاهراً بنفسه، ثم تجلى لنفسه بنفسه، فهو الغني بذاته عن أن يظهر بغيره، أو يحتاج إلى من يعرفه غيره، فالكون كله مجموع، والغير عندنا ممنوع([15]).
- ويشرح قوله: ...وهو الواحد الذي ليس معه شيء، فيقول: لتحقق وحدانيته أزلاً وأبداً، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، أإله مع الله، تعالى الله عما يشركون، أفي الله شك، فكل ما ظهر للعيان فإنما هو مظاهر الرحمن، قال صاحب العينية:
تجلى حبيبي في مرائي جماله            ففي كل مرأى للحبيب طلائع
فلما تجلى حسنه متنوعاً               تسمى بأسماء فهن مطالع
فالحق تعالى واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فلا شيء قبله ولا شيء بعده ولا شيء معه([16]).
- هذا النص الأخير يبين مرادهم من قولهم: توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال التي تعني كلها وحدة الوجود.
ويقول ابن عطاء الله:
ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، ولكن حجبك عنه توهم موجود معه([17]).
من عرف الحق شهده في كل شيء، ومن فني به غاب عن كل شيء، ومن أحبه لم يؤثر عليه شيئاً([18]). إنما حجب الحق عنك شدة قربه منك، إنما احتجب بشدة ظهوره، وخفي عن الأبصار لعظيم نوره([19]).
قبل الانتقال من حكم (بل نقم) ابن عطاء إلى غيرها يجب أن نعرف قيمتها عند القوم.
يقول ابن عجيبة: سمع شيخ شيخنا مولاي العربي (أي: الدرقاوي) رضي الله عنه يقول: سمعت الفقيه البناني يقول: كادت حكم ابن عطاء الله أن تكون وحياً، ولو كانت الصلاة تجوز بغير القرآن لجازت بكلام الحكم أو كما قال([20]).
كما أنها تدرس في مساجد المسلمين، يدرسها علماء لهم شهرة، ويحمل بعضهم ألقاباً علمية.
ويقول ابن عطاء الله أيضاً:
..((قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)) [الإسراء:110]، وإن تعددت الأسماء، فالمقصود منها واحد، وهو الله، وكل الأسماء هي صفته ونعته، وهو أولها وأصلها، والأسماء كلها سرت في العالم سريان الأرواح في الأجساد، وحفت منه محل الأمر من الخلق، ولزمته لزوم الأعراض للجواهر، فإنه ما من موجود دق أو جل، علا أو سفل، كثف أو لطف، كثر أو قل، إلا وأسماء الله جل وعز ذكره محيطة به عيناً ومعنى، ومقتضى اسم الألوهية جامع لجميعها([21])...
* الملحوظة:
قوله: (فإنه ما من موجود دق أو جل، علا أو سفل...) إلى آخر النص، هو مثل قولهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا...وبقية العبارات.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
اقتبس هذا المقال من كتاب: (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ) للمؤلف: (محمود عبد الرؤوف القاسم).


الهوامش

([1]) إيقاظ الهمم، (ص:72).
([2]) إيقاظ الهمم، (ص:79).
([3]) إيقاظ الهمم، (ص:86).
([4]) إيقاظ الهمم، (ص:86).
([5]) إيقاظ الهمم، (ص:86).
([6]) إيقاظ الهمم (ص:40).
([7]) إيقاظ الهمم (ص:41).
([8]) إيقاظ الهمم (ص:43).
([9]) إيقاظ الهمم (ص:43).
([10]) إيقاظ الهمم (ص:43).
([11]) إيقاظ الهمم (ص:44). موجودة كلها في حاشية لطائف المنن (ص:603).
([12]) إيقاظ الهمم (ص:44). موجودة كلها في حاشية لطائف المنن (ص:603).
([13]) إيقاظ الهمم (ص:43).
([14]) إيقاظ الهمم (ص:43).
([15]) إيقاظ الهمم (ص:44).
([16]) إيقاظ الهمم (ص:44).
([17]) إيقاظ الهمم، (ص:199).
([18]) إيقاظ الهمم، (ص:235).
([19]) إيقاظ الهمم، (ص:236).
([20]) إيقاظ الهمم، (ص:4).
([21]) القصد المجرد، (ص:33).

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى