عقيدة وحدة الوجود عند ابن عجيبة

عقيدة وحدة الوجود عند ابن عجيبة





 
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فإن ابن عجيبة يعتبر من كبار أرباب التصوف، حيث وأن كتبه منتشرة في كثير من الأقطار، وقد بث في هذه المصنفات عقائد فاسدة، وخرافات وسخافات ظنها من الدين وهي بعيده عنه كل البعد، وهنا نبين نتفاً من عقائده حول القول بوحدة الوجود...
يقول ابن عجيبة([1]) شارحاً قول ابن عطاء الله السكندري:
الحق ليس بمحجوب عنك، إنما أنت المحجوب عن النظر إليه، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو قاهر له، وهو القاهر فوق عباده، يقول: ...قلت: الحق تعالى محال في حقه الحجاب.. فلا يحجبه شيء، لأنه ظهر بكل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، فلا ظاهر معه، ولا موجود في الحقيقة سواه، فهو ليس بمحجوب عنك، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه، لاعتقادك الغيرية، وتعلق قلبك بالأمور الحسية، فلو تعلق قلبك بطلب المولى، وأعرضت بالكلية عن رؤية السوى، لنظرت إلى نور الحق ساطعاً في مظاهر الأكوان، وصارماً كان محجوباً عنك بالوهم في حق الشهود والعيان، ولله در القائل:
لقد تجلى ما كان مخبى                 والكون كله طويت طي
مني علي دارت كئوسي              من بعد موتي تراني حي
فالناس كلهم يشاهدون ولا يعرفون، وكلهم في البحر ولا يشعرون، وسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول: والله ما حجب الناس عن الله إلا الوهم، والوهم أمر عدمي لا حقيقة له([2]).
ويقول ابن عجيبة أيضاً:
...واعلم أن هذه الأوصاف البشرية التي احتجبت بها الحضرة، إنما جعلها الله منديلاً لمسح أقذار القدر (كالنفس والشيطان والدنيا)، فجعل الله النفس والشيطان منديلاً للأفعال المذمومة، وجعل البشرية منديلاً للأخلاق الدنيئة، وما ثم إلا مظاهر الحق وتجليات الحق، وما ثم سواه([3]).
ويقول: ...فإذا تكامل إشراق نور الإيقان، وغطى وجود الأكوان، ووقع العيان على فقد الأعيان، ولم يبق إلا نور الملك الديان، كما أشار (أي: ابن عطاء الله) إلى ذلك بقوله: ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، ولكن حجبك عنه توهم موجود معه.
قلت: الحق تعالى ظاهر، ونوره للبصائر باهر، وإنما حجبه مقتضى اسمه الحكيم واسمه القاهر، فما حجبك عن شهود الحق وجود شيء معه: {أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63]، ولكن حجبك عن شهوده توهم وجود موجود معه، ولا شيء معه، وكما كان ولا شيء، بقي ولا شيء([4]).
- أرجو أن ينتبه القارىء إلى كيفية تفسيرهم للآية: {أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:63].
ويقول: واعلم أن سر الخصوصية الذي جعله الله في بواطن أوليائه، وستره بظهور وصف بشريتهم، قد يظهره عليهم على وجه خرق العادة، فقد يظهر على وليه من قدرته وعلمه وسائر كمالاته ما تحار فيه العقول، وتذهل فيه الأذهان، لكن لا يدوم ذلك لهم، بل يكون على سبيل الكرامات وخرق العادات، يشرق عليهم شموس أوصافه، فيتصفون بصفاته، ثم يقبض ذلك عنهم فيردهم إلى حدودهم، فنور الخصوصية، وهي المعرفة، ثابت لا يزول، ساكن لا يحول؛ وسرها، وهو كمالاته تعالى، تارة يشرق على أفق بشريتهم فيستنير بأوصاف الربوبية، وتارة ينقبض عنهم فيردون إلى حدودهم وشهود عبوديتهم، فالمعرفة ثابتة، والواردات مختلفة، والله تعالى أعلم([5]).
ويقول: ...وقال سيدي علي رضي الله عنه، على قول الشيخ أبي الحسن الشاذلي في شأن الخلق: أراهم كالهباء في الهواء، إن فتشتهم لم تجدهم شيئاً، قال: بل إن فتشتهم وجدتهم شيئاً، وذلك الشيء ليس كمثله شيء يعني: وجدتهم مظاهر من مظاهر الحق، أنواراً من أنوار الملكوت فائضة من بحر الجبروت([6]).
- نرى في هذا النص أن عبارات عارفيهم ليست دائماً موافقة لما يريدون، فقد يُخْطِئون ويُخَطِّئون.
ويقول ابن عجيبة أيضاً:
...والتحقيق ما قدمناه من أن التعلق بأوصاف الربوبية يكون في الباطن، والتحقق بأوصاف العبودية يكون في الظاهر، فالحرية في الباطن على الدوام، والعبودية في الظاهرعلى الدوام، فحرية الباطن هي شهود أوصاف الربوبية، وهو معنى التعلق بها؛ لكن إن كان مجاهدةً فهو تعلق، وإن كان طبيعة وغريزة فهو تحقق.
...والحاصل أن عظمة الربوبية ظهرت في مظاهر العبودية، فمن نظر للعظمة صرفاً تحقق بعظمة الربوبية، ومن نظر بظاهر المظهر تحقق بأوصاف العبودية، والكامل ينظر لهما معاً، فيتحقق بعظمة الربوبية في الباطن، ويتحقق بأوصاف العبودية في الظاهر، فيُعطي كل ذي حق حقه. فالتجمع في باطنه مشهود، والفرق في ظاهره موجود([7])...ويقول: ...اعلم رحمك الله ووفقك للتسليم لأوليائه، أن الحرية إذا تحققت في الباطن، لا بد من رشحات تظهر على الظاهر، فكل إناء بالذي فيه يرشح...ولذلك نجد أهل الباطن رضي الله عنهم، جلهم أقوياء في الظاهر، فربما تصدر منهم مقالات تستخرجها القدرة منهم، فيظن الجاهل بحالهم أن ذلك دعوى وظهور! وليس كذلك. وإنما ذلك رشحات من قوة الباطن لا قدرة لهم على إمساكها، منها ما يكون تحدثاً بالنعم، ومنها ما يكون نصحاً للعباد ليعرفوا حالهم فينتفعوا بهم في طريق الإرشاد، ومن هذا الأمر رفضهم كثير من أهل الظاهر المتعمقون في العبادة أو المتجمدون على ظاهر الشريعة([8])...
- يوضح ابن عجيبة في هذا النص سبب تصريح العارفين بمعارفهم وطبعاً، صار القارئ الآن يعرف معنى عبارة (الحرية)، فهي ضد العبودية، وتحققها في الباطن يعني استشعار السالك أنه ليس عبداً بل هو الله.
ويقول: ...وقال في لطائف المنن: وأشبه شيء بوجود الكائنات إذا نظرت إليها بعين البصيرة وجود الظلال...ومن هاهنا تبين لك أن الحجاب ليس أمراً وجودياً بينك وبين الله تعالى، ولو كان بينك وبينه حجاب وجودي للزم أن يكون أقرب إليك منه! ولا شيء أقرب من الله، فرجعت حقيقة الحجاب إلى توهم الحجاب([9])...
ويقول (معلقاً على قول ابن البنا السرقسطي):
حتى إذا جاء بطور القلب            خوطب إذ ذاك بكل خطب
فقيل لو عرفتني بكوني                قيل إذن فاخلع نعال الكون
يقول: إذا وصل النور، من ناحية المذكور، إلى جبل الطور، وهو قلبك المستور، بحجاب هيبة المذكور، رفع عنه الستور، وخاطبه حينئذ بكل أمر جليل، وسر جليل، فلا تعلم نفس ما خصص به من المساررة، والمصافاة، والمكالمة، والمناجاة، فيناديه لسان الملكوت مترجماً عن عالم الجبروت: يا أيها العبد الشائق إلى حضرتي، لتعاين سر قدرتي، هلا عرفتني بكوني، وقنعت بذلك مني؟ فيقول العبد المشتاق إلى حضرة التلاق: لا أريد إلا وجهك الكريم، ومشاهدة سرك العظيم، فيقول له الحق جل جلاله: إن أردت هذا الخطب الجسيم، والأمر العظيم، فاخلع عنك نعال الكونين، وتخط بقدم همتك نعيم الدارين، فإذا خلعت عنك الحظوط والهوى، فأنت بالوادي المقدس طوى([10]). ويقول: ...فأوصاف الربوبية رفيعة القدر عظيمة الشأن، وأوصاف العبودية خسيسة القدر دنيئة المقدار، فلا مناسبة بينهما في القدر، مع تلازمهما في المحل بتحقيق الوحدة، فهما متلازمان في القيام، متضادان في الأحكام([11])...
- هذا القول مثل قولهم: واتحد فيه النجو مع الورد، وقولهم: وفي الخنازير مع القرود.. وغيرها..
ويقول: إذا حققت أن الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، علمت علم يقين أن الأكوان والمكان والزمان لا وجود لها، وأن الحق كما كان وجوده وحده ولا أين ولا مكان، بقي كذلك، لا أين ولا مكان ولا زمان، نورُ أحديته محى وجود الأكوان، فانتفى بوجوده الزمان والمكان، ولم يبق إلا الواحد المنان([12])...
ويقول: ...ثم قال أي ابن البنا السرقسطي:
أو قال بالظهور والحلول             فبدعة يقدح في الأصول
قلت -القائل ابن عجيبة-: مراده بالظهور: ظهور الذات العالية لبصر الحس، حتى تدرك بالبصر الحسي، وقد قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وإنما تدركه البصيرة، فإذا انفتحت وقوي نورها، استولت على البصر، فصار الحكم لها، فالبصر لا يرى إلا الحس، والبصيرة لا ترى إلا المعنى؟ وقد يتلطف الحس فيصير كأنه معنى، فيكون ما تراه البصيرة في حق العيان، وهو محل الشهود، إذ الحس لا يفارق المعنى، وأما الحلول، فمعناه: إثبات السوى وحلول الألوهية فيه، وهو كفر صراح، فمن ادعى شيئاً من الظهور والحلول فارفضه، فقد أتى ببدعة تقدح في أصول إيمانه والعياذ بالله من الزلل.
ثم قال (أي: السرقسطي):
وقوله أنا الذي أهواه                 قبل الفنا عنه فما أقصاه
إذا قال الفقير: أنا من أهوى ومن أهوى أنا، قبل تحقق فنائه، فما أبعده عن الصواب، وإذا تحقق فناؤه، فلا يقول ذلك إلا مع من يصدقه في حاله، وإلا تعرض لقتله([13])...
* تعليق:
يعني بالظهور: الرؤية بالعين المجردة (الحاسة البصرية)، في عصرنا هذا، عن الحلول بقولهم: التلبس، وقد سمعت من يقول: إن الولي يتلبسه الله، وفي هذه الحالة عندما يتكلم الولي، فالمتكلم حقيقة هو الله..، وطبعاً قائل هذا القول هو إنسان جاهل بالصوفية، فالحلول عندهم كفر، وكذلك الاتحاد! لأن هذا وذاك لا يكون إلا بين اثنين، ولا يوجد إلا واحد.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
اقتبس هذا المقال من كتاب: (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ) للمؤلف: (محمود عبد الرؤوف القاسم).

الهوامش

([1]) أحمد بن عجيبة الدوريس الشاذلي الفاسي، توفي سنة (1224هـ).
([2]) إيقاظ الهمم، (ص:64، 65).
([3]) إيقاظ الهمم، (ص:66).
([4]) إيقاظ الهمم، (ص:199).
([5]) إيقاظ الهمم، (ص:157).
([6]) إيقاظ الهمم، (ص:166).
([7]) إيقاظ الهمم (ص:184).
([8]) إيقاظ الهمم (ص:186).
([9]) إيقاظ الهمم، (ص:201).
([10]) الفتوحات الإلهية، (ص:342).
([11]) إيقاظ الهمم، (ص:419).
([12]) إيقاظ الهمم، (ص:297).
([13]) الفتوحات الإلهية، (ص:455، 456).

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى