طريقةُ محاسبةِ النفسِ وَمجالاتُها (2)

طريقةُ محاسبةِ النفسِ وَمجالاتُها (2)





الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وَبَعد.. أَورَدَ الإمامُ ابنُ القيمِ - رحمه اللهُ - فِي حديثِه عَنْ المحاسبةِ وصفًا للطريقةِ التِي ينبغي للمسلمِ أَنْ يسلكَها فِي محاسبةِ نفسِه وَالتدقيقِ على أعمالِه؛ فقَالَ: (وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَه أولاً عَلَى الْفَرَائِضِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِيهَا نَقْصًا تَدَارَكَهُ إِما بِقَصَاءٍ أَوْ إِصْلاحٍ، ثُمَّ يُحَاسِبُ عَلَى الْمَنَاهِي، فَإنْ عَرَفَ أَنَّهُ ارْتَكَبَ مِنْهَا شَيْئًا تَدَارَكَهُ بالتَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ والْحسناتِ الْمَاحِيةِ، ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَه على الْغَفْلَةِ فإن كَانَ قَدْ غَفَلَ عَمَّا خُلِقَ لَهُ تَدَارَكَهُ بالذِّكْرِ والإِقْبَالِ على الله.

ثُمَّ يُحَاسِبُهَا بِمَا تَكَلَّمَ به لِسَانُهُ أَوْ مَشَتْ بِهِ رِجْلاهُ أَوْ بَطَشَتْهُ يَدَاهُ أَوْ سَمِعَتْهُ أُذْنَاهُ مَاذَا أَرَدْتَ بِهَذَا؟ وَلِمَ فَعَلْتُ؟ وَعَلَى أَيْ وَجْهٍ فَعَلْتُهُ؟ وَيَعْلَمُ أنَّه لابد أَنْ يُنْشَرَ لِكلَّ حَرَكةٍ وَكَلِمَةٍ مِنْه دِيوانٌ لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَكَيْفَ فَعَلْتَهُ؟ فَالأوَّلُ: سُؤالٌ عَنْ الإِخْلاصِ، والثَّانِي: سُؤالٌ عَنْ الْمُتَابَعَةِ)([1]).

فالمحاسبةُ تشملُ حياةَ المسلمِ، وَكُلَّ صغيرةٍ وَكبيرةٍ يعملُها أَوْ يتركُها أوْ يعزمُ عليها فِي قَلْبِه، وَكُلَّمَا أحكمَ العبدُ رقابتَه على نفسِه كَانَ أكثرَ سلامةً مِنْ شُرورِها.

وَيُمْكِنُ تقسيمَ مجالاتِ محاسبةِ النفسِ إلى الأقسامِ التاليةِ:

1- المحاسبةُ على تفريطِ الطاعاتِ وَتضيعِ الأوقاتِ:

الغفلةُ داءٌ عضال يجبُ الحذرُ منْه وَالمسارعةُ إلى علاجِه؛ لكي يتيقظَ قلبُ المسلمِ ويبادرَ إلى اغتنامِ أوقاتِه في مرضاةِ ربِّه، ولذلك لابدَّ منْ محاسبةِ النفسِ على ضياعِ الأوقاتِ وَتفويتِ الطاعاتِ، وقدْ صرَّحتْ الأحاديثُ النبويةُ بوجوبِ حفظِ أوقاتِ المسلمِ مِنَ الضياعِ، وأنَّه سيُسألُ عنْ ذلكَ يومَ القيامةِ:

   عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ))([2]).

  يقولُ الإمامُ ابنُ القيمِ - رحمه اللهُ -: (إنَّ الغافلَ عَنْ الاستعدادِ للقاءِ رَبِّه وَالتزودِ لِمَعَادِه بمنزلةِ النائمِ بَلْ أسوأُ حالًا مِنْهُ، فَإِنَّ العاقلَ يعلمُ وَعْدَ اللهِ وَوَعِيدَه، لَكِنْ يحجُبُهُ عَنْ حقيقةِ الإدراكِ وَيُقْعِدُه عَنْ الاستدراكِ سِنَةُ القَلْبِ، وَهيَ غفلتُه التِي رَقَدَ فيهَا فَطَالَ رقودُه.

وَانْغَمَسَ فِي غمارِ الشهواتِ، وَاستولتْ عليه العاداتُ، وَمخالطةُ أهلِ البطالاتِ، وَرضيَ بالتشبهِ بأهلِ إضاعةِ الأوقاتِ، فهوَ فِي رُقَادِه مَعَ النائمين، فَمَتَى انكشفَ عَنْ قلبِه سِنَةُ هذِه الغفلةِ بزجرةٍ مِنْ زواجرَ الحقِّ فِي قلبِه، استجاَب فيهَا لواعظِ اللهِ فِي قلبِ عبدِه المؤمنِ، وَرَأَى سرعةَ انقضاءِ الدنيا، فنهَضَ فِي ذلكَ الضوءِ على ساقِ عَزْمِهِ قائلًا: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]، فاستَقْبَلَ بقيةَ عمرِه مُسْتَدْرِكًا بِهِ مَا فَات، مُحْيِيًا بِهَا ما تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ العثراتِ.

ثُم يبرقُ لَهُ فِي نورِ اليقظةِ بارقةٌ أخرى يرَى فِي ضوئِها عيوبَ نفسِه وَآفاتِ عملِه، وَمَا تقدَّمَ لَهُ مِنَ الخباياتِ وَالإساءاتِ، وَهَتْكِ الحُرُمَاتِ، وَالتقاعدِ عَنْ كثيرٍ مِنَ الحقوقِ وَالواجباتِ، فَإِذَا انضمَّ ذلكَ إلى شهودِ نِعَمِ اللهِ عليه وَأيادِيه لديه؛ رأى أَنَّ حَقَّ المُنْعِمِ عليه فِي نِعَمِهِ وَأمره لَمْ يبقَ لَهُ حسنةٌ واحدةٌ يرفعُ بِهَا رأسَه، وَانكسرتْ نفسُه وَخَشَعَتْ جوارحُهُ.

ثُمَّ تبرقُ لَهُ بارقةٌ أخرى يرَى في ضوئِها عزَّةَ وقتِه وَخَطَرَهُ وَشَرَفَهُ، وَأَنَّه رأسٌ مالِ سعادتِه، فيبخل بِه أَنْ يضيعَه فيمَا لا يُقَرِّبَه إلى رَبِّهِ، فَإِنَّ فِي إضاعتِه الخسرانَ وَالحسرةَ وَالندامةَ، وَفِي حفظِه وَعِمَارَتِه الربحُ وَالسعادةُ، فَيَشِحَّ بأنفاسِه أَنْ يضيعَها فيمَا لا ينفعُه يومَ معادِه.

ثُمَّ يلحظُ فِي ضوءِ تلكَ البارقةِ مَا تقتضيه يقظتُه مِنْ سِنَةِ غفلتِه، مِنَ التوبةِ وَالمخاسبةِ وَالمراقبةِ وَالغيرةِ لربِّه أَنْ يؤثِّرَ عليه غيرُه.

فَهَذَا كُلُّه مِنْ آثارِ اليقظةِ وُموجباتِها، وَهيَ أولُ منازل النفسِ المطمئنةِ)([3]).

وَبِهَذَا يتبين للمسلمِ أهميةُ محاسبةِ النفسِ على ما ضَيَّعَتْ مِنْ أوقاتٍ، وَكَيْفَ يكونُ إيقاظُ النفسِ وَشَدُّ هِمَّتِها لاغتنامِ الأوقاتِ، فالوقتُ هوَ الحياةُ، وَمَا أحسن قولَ الشاعر:

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَلْفَيْتَ حَاصِدًا             نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ البَذْرِ

وَيوضحُ الإمامُ الغزالي طريقةَ محاسبةِ النفسِ على تضييعِ الأوقاتِ وَالغفلةِ عَنْ الطاعاتِ؛ فيقول: (إِذَا أَصْبَحَ العبدُ، وَفَرَغَ مِنْ فريضةِ الصُّبْحِ، ينبغي لَهُ أَنْ يُفْرِغَ قَلْبَهُ ساعةً لمشارطةِ النفسِ فيقولَ للنفسِ: مَا لِي بضاعةٌ إلا العُمُر، وَمَتَى فَنِيَ فَقَدْ فَنِيَ رأسُ المالِ، وَهذَا اليومُ الجديدُ قَدْ أَمْهَلَنِي اللهُ فِيه، وَلَوْ توفانِي لكنتُ أتمنى أنْ يُرْجِعَنِي إلى الدنيا يومًا واحدًا حتَّى أعملَ فيه صالحًا، فاحسَبِي أنَّكِ قَدْ توفيتِ ثُمَّ رُدِدِّتِ، فإياكِ ثُمَّ إياكِ أَنْ تُضَيِّعِي هذا اليوم، فَإِنَّ كُلَّ نفسٍ مِنَ الأنفاسِ جوهرةٌ)([4]).

وَالواقعُ أَنَّ الإنسانَ يرغبُ فيمَا يُحِبُّ، وَيُسَارِعُ إلَى مَا يهفو قلبُه إليه، فَإِنْ كانَ قلبُه متعلقًا بالدنيا؛ أَلْفَيتَهُ سابقًا إلى أعمالِها وَأموالِها، بطيئًا عَنْ طاعةٍ رَبِّهِ، وَإذَا تعلَّقَ قلبُه باللهِ سبحانه وَخَلَّصَهُ ممَّا يشغلُ عنه كانتْ هِمَّتُهُ إلى الطاعاتِ كبيرةً وَغَفَلَاتُه عَنْ اللهِ قليلةً.

وَلِذلكَ ينبغي أَنْ تكونَ محاسبةُ العبدِ لنفسِه فِي هذا المجالِ ميزانًا يَعْرِفُ بِهِ مستوى الإيمانِ فِي قلبِه فيسارعَ إلى تغذيةِ شجرةِ الإيمانِ لِتُثْمِرَ المسارعةَ إلى الأعمالِ الصالحةِ.

2- المحاسبةُ علَى النِّعَمِ:

 أَخْبَرَ اللهُ سبحانه بِأَنَّ العبدَ سَيُسْأَل يومَ القيامةِ عَنْ شُكْرِ مَا أُنْعِمَ بِه عليه مِنَ النِّعَمِ؛ فَقَالَ تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8].

وَلَاشَكَّ أَنَّ نِعَمَ اللهِ على عبادِه لا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَأبرزُها نعمةُ الأمنِ وَالصحةِ وَالرزقِ وَالفراغِ وَالأولادِ وَالذريةِ وَنحو ذلكَ؛ قَالَ تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].

وَلذلكَ ينبغي على المسلمِ أَنْ يستشعرَ نِعَمِ اللهِ، وَيحاسِب نفسَه على القيامِ بِشُكْرِهَا وَيعاتب تلكَ النفسَ إذَا تهاونَتْ فِي شَيءٍ مِنَ النِّعَمِ أَوْ استَقَلَّتْ بشأنِه.

قَالَ الإمامُ ابنُ القيمِ - رحمهُ اللهُ -: (وَالنعيمُ المسئولُ عَنْهُ نوعان: نوعٌ أُخِذَ مِنْ حِلِّهِ وَصُرِفَ فِي حَقِّهِ، فيُسْأَل عَنْ شُكْرِهِ، وَنَوْعٌ أُخِذَ بِغَيرِ حِلِّهِ وَصُرِفَ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَيُسْأَل عَنْ مُسْتَخْرَجِهِ وَمَصْرَفِه فَإِذَا كَانَ العبدُ مسؤولًا وَمُحَاسبًا علَى كُلِّ شيءٍ، حتَّى على سمعِه وَبصرِه وَقلبِه، فهوَ حقيقٌ أَنْ يُحَاسِبَ نفسَه قَبْلَ أَنْ يُنَاقَشَ الحسابَ)([5]).

وَقَالَ أيضًا مُبينًا مجالاتِ محاسبةِ النفسِ على النِّعَمِ وَعبوديةَ العبدِ تجاهها: (وَأمَّا عبوديةُ النِّعَمِ فمعرفتُها وَالاعترافُ بِهَا أولًا، ثُمَّ العياذُ بِهِ سبحانه أَنْ يقعَ فِي قلبِه نسبتُها وَإضافتُها إلى سواه، وَإِنْ كانَ سببًا مِنَ الأسبابِ فهوَ مُسَبِّبُهُ وَمُقِيمُهُ، فالنعمةُ مِنْهُ وَحده بِكُلِّ وجهٍ وَاعتبارٍ، ثُمَّ الثناءُ بِهَا عليه وَمحبتُه عليها، وَشُكْرُه بِأَنْ يستعملَها فِي طاعتِه، وَمِنْ لطائف التعبُّدِ بالنعمِ أنْ يستكثرَ قليلَها عليه، وَيستقل كثيرَ شكرِه عليها)([6]).

كَمَا بَيَّنَ - رحمهُ اللهُ - أَنَّ على العبدِ أَنْ يقايسَ بَيْنَ نعمةِ اللهِ عليه وَبيْنَ مَا يقعُ فيه مِنَ المعاصي، فحيئذٍ يظهرُ له التفواتُ، وَيعلم أنَّه ليسَ لَهُ إلا عفوُ اللهِ ورحمتُه، فيعاتبَ نفسَه وَيتوبَ إلى رَبِّهِ([7]).


الهوامش:

([1]) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ابن القيم، (1/83).

([2]) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، (2417)، وقال: حديث حسن صحيح.

([3]) الروح، ابن القيم، ص(223-225).

([4]) إحياء علوم الدين، الغزالي، (4/349).

([5]) إغاثة اللهفان، ابن القيم، (1/84).

([6]) الفوائد، ابن القيم، ص(113).

([7]) مدارج السالكين، ابن القيم، (1/170).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
طريقةُ محاسبةِ النفسِ وَمجالاتُها (2).doc doc
طريقةُ محاسبةِ النفسِ وَمجالاتُها (2).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى