أسماءُ اللهِ الحسنى: (البصيرُ)

أسماءُ اللهِ الحسنى: (البصيرُ)





الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وَبعد..

الأدلةُ فِي القرآنِ وَالسُّنةِ:

وَرَدَ البصيرُ فِي عدةِ آياتٍ مِنْ كتابِ اللهِ تعالى؛ منها قولُه تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].

وَقولُه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].

أمَّا مِنَ السنةِ فَقَدْ جاءِ فِي قولِه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غائِبًا، وَلَكَنْ تدعون سميعًا بصيرًا))([1]).

المعنى فِي حَقِّ اللهِ تعالى:

مِنْ أَهَمِّ معاني اسمِ اللهِ البصير:

1- أنَّ البصيرَ هوَ المُبْصِرُ لكلِّ شيءٍ، وَلهُ صفةُ البصرِ التي تليقُ بجلالِه وَعظمتِه، فيرى كُلَّ مَا ظهرَ وَخفيَ وَكُلَّ مَا عَظُمَ وَدَقَّ.

2- أنَّه سبحانه بصيرٌ، ذو إبصارٍ بالأشياءِ كلِّهَا، عليمٌ بها خبيرٌ بدقائِقِها.

3- أنَّه البصيرُ الذي أحاطَ بصرُه بجميعِ المبصراتِ فِي أقطارِ الأرضِ وَالسمواتِ، حتى أخفى مَا يكون فيها: فيرى دبيبَ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصماءِ، فِي الليلةِ الظلماءِ، وَجميعَ أعضائِها الباطنةِ وَالظاهرةِ، وَسريانَ القوتِ فِي أعضائِها الدقيقةِ، وَيرى سريانَ المياهِ فِي أغصانِ الأشجارِ وَعروقِها، وَجميعَ النباتاتِ على اختلافِ أنواعِها وَصغرِها وَدقتِها، وَيرى نياطَ عروقِ النملةِ وَالنحلةِ وَالبعوضةِ، وَأصغرَ مِنْ ذلكَ.

فسبحانَ مَنْ تحيرتْ العقولُ فِي عظمةِ وَسعةِ متعلقاتِ صفاتِه، وَكمالِ عظمتِه وَلطفِه وَخبرتِه بالغيبِ وَالشهادةِ، وَالحاضرِ وَالغائبِ، وَيرى خياناتِ الأعينِ وَتقلباتِ الأجفانِ، وَحركاتِ الجِنَانِ؛ قَالَ تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 218-220]؛ أي مطلعٌ وَمحيطٌ علمُه وَبصرُه وَسمعُه بجميعِ الكائناتِ([2]).

المعنى عندَ المخالفين وَالمناقشةُ وَالرَّدُّ:

أولًا ـ المعنى عندَ المعتزلةِ:

البصيرُ: بمعنى العليمِ.

وَهذَا مَا نَصَّ عليه القاضي عبدُ الجبارِ بقولِه: (عندَ شيوخِنا البصريين أَنَّ اللهَ تعالى سميعٌ بصيرٌ مدركٌ للمُدْرَكَاتِ، وَأَنَّ كونَه مدركًا صفةٌ زائدةٌ على كونِه حيًّا، وَأَمَّا عند مشايخِنا البغداديين، هوَ أَنَّه تعالى مدركٌ للمُدْرَكَات على معنى أنَّه عالمٌ بِهَا)([3]).

وَيقولُ أبو الحسن الأشعري: (زَعِمَتْ - أي المعتزلة - أنَّ معنى "سميع بصير" بمعنى عليم)([4]).

الردُّ على ذلكَ:

وَمِمَّا لَاشَكَّ فيه أنَّ تفسيرَ اسمِ البصير بمعنى العليم فقطْ لا يُثْبِتُ للهِ تعالى الكمالَ الذي يدلُّ عليه اسمُ البصيرِ، فهذا الإمامُ البخاريُّ - رحمهُ اللهُ - بَوَّبَ فِي صحيحِه في كتابِ التوحيدِ: باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134].

وَقَالَ ابنُ بطال: (غرضُ البخاريِّ فِي هذا البابِ الردُّ على مَنْ قَالَ إنَّ معنى "سميع بصير": عليم، قَالَ: وَيلزمُ مَنْ قَالَ ذلك أنْ يسويَّه بالأعمى الذي يعلمُ أَنَّ السماءَ خضراءَ وَلَا يراها، وَالأصمِّ الذي يعلمُ أَنَّ فِي الناسِ أصواتًا وَلا يسمعُها، وَلَاشَكَّ أَنَّ مَنْ سَمِعَ وَأَبْصَرَ أُدْخِلَ فِي صفةِ الكمالِ ممنْ انفَرَدَ بأحدِهما دونَ الآخرِ، فصحَّ أنَّ كونَه سميعًا بصيرًا يفيدُ قدرًا زائدًا على كونِه عليمًا، قَالَ: وَهذا قولُ أهلِ السنةِ قاطبةً)([5]).

وَهوَ ما ذهب إليه ابنُ خزيمة حيثُ يقولُ: (فَأَعْلَمَ الرحمنُ - جل وعلا - أنَّه سميعٌ مخاطبةَ كليمِه موسى وَأخيه هارون - عليهما السلام - وَمَا يجيبُهما بِهِ فرعونُ، وَأَعْلَمَ أنَّه يرى مَا يكونُ مِنْ كلامِ كُلٍّ منهما)([6]).

وَفِي ذلكَ يقولُ ابنُ القصابِ أيضًا: ({قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ} [طه: 46]؛ حجةٌ على المعتزلةِ شديدةٌ لَا مخلصَ لهم منها، إذ لوْ كانَ معنى السمعِ وَالبصرِ معنى العلمِ وَالإحاطةِ لاقتصرَ - وَاللهُ أعلمُ – على: {قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ} [طه: 46]، كَمَا قَالَ فِي سورةِ المجادلة: {لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].

فَلَمَّا قَالَ: {أَسْمَعُ وَأَرَى} بعدَ تمامِ المعنى الذي يشيرون إليه أزالَ كُلَّ ريبٍ، وَكَشَفَ كُلَّ غُمَّةٍ عَنْ أنَّه يسمعُ بسمعٍ، وَيرَى ببصرٍ غيرِ مخلوقين)([7]).

وَنختمُ بقولِ ابنِ تيمية القائلِ: (وَاللهُ سبحانه وَتعالى أخبَرَنَا أنَّه عليمٌ، قديرٌ، سميعٌ، بصيرٌ، غفورٌ، رحيمٌ ...، إلى غيرِ ذلكَ مِنْ أسمائِه وَصفاتِه، فنحنُ نفهمُ معنى ذلكَ، وَنُمَيِّزُ بينَ العلمِ وَالقدرةِ، وَبينَ الرحمةِ وَالسمعِ وَالبصرِ، وَنعلمُ أَنَّ الأسماءَ كلَّها اتفقتْ فِي دلالتِها على ذاتِ اللهِ، مَع تنوعِ معانيها فهيَ متفقةٌ متواطئةٌ مِنْ حيثُ الذاتِ، متباينةٌ مِنْ جهةِ الصفاتِ)([8]).

علمًا بأنَّ تفسيرَ اسمِ البصيرِ بالمبصرِ لكلِّ شيءٍ، وَإثباتَ صفةِ البصرِ للهِ تعالى لا يمنعُ مِنْ إثباتِ عِلْمِهِ بذلكَ؛ لأنَّ إثباتَ العلمِ مِنْ لوازمِ سمعِه وَبصرِه.

فالحقُّ فِي ذلكَ أَنَّ الاسمَ يُفَسَّرُ بمعناه الحقيقي المراد مِنْ قولِ اللهِ تعالى وَقولِ رسولِه - صلى اللهُ عليه وسلم -، مَعْ ذكرِ لوازمِه، لأنَّ لازمَ المعنى مرادٌ أيضًا، لكنْ تفسيرَه باللازمِ فقطْ مَع تركِ معناه الحقيقي هذا غيرُ مرادٍ مِنْ قولِ اللهِ تعالى وَقولِ رسولِه - صلى اللهُ عليه وسلم-.

ثانيًا ـ المعنى عندَ الأشاعرةِ:

البصيرُ هوَ المُبْصِرُ: فعيلٌ بمعنى مُفْعِل، كقولِهم أليمٌ بمعنى مُؤْلِم([9]).

وَهوَ الذي يشاهدُ وَيرَى حتى لا يعزبُ عنه ما تحتَ الثرى، وَإبصارُه أيضًا منزهٌ عَنْ أَنْ يكونَ بحدقةٍ وَأجفان، وَمُقَدَّسٌ عَنْ أَنْ يرجعَ إلى انطباعِ الصورِ وَالألوانِ فِي ذاتِه كمَا ينطبعُ فِي حدقةِ الإنسانِ، فَإِنَّ ذلكَ مِنَ التأثرِ المقتضي للحدثان، وَإذَا نُزِّهَ عَنْ ذلكَ كانَ البَصَرُ فِي حقِّه عبارةً عنْ الصفةِ التِي ينكشفُ بها كمالُ نعوتِ المبصراتِ، وَذلكَ أوضحُ وأجلى مما تفهمُه مِنْ إدراكِ البصرِ القاصرِ على ظواهر المرئياتِ)([10]).

وَيقولُ المكلاتي - وَهوَ أحدُ الأشاعرةِ -: (وَقَدْ تَرَدَّدَ جوابُ أبي الحسن الأشعري - رضيَ اللهُ عنه - في ذلك؛ فتارةً قَالَ: إنَّ كونَه سميعًا بصيرًا هما صفتان زائدتان على كونِه عالمًا، وَإلى هذا المذهبِ ذهبَ القاضي، وَأبو المعالي، وَجماعةٌ مِنَ الأشعريةِ، وَتارةً صَرَفَ كونه سميعًا بصيرًا إلى كونِه عالمًا، وَإلى هذا ذهبَ أبو حامد وَجماعةٌ مِنَ الأشعريةِ، وَهذا المختارُ عندنا)([11]).

الرَّدُّ على ذلكَ:

مِنْ خلالِ مَا سَبَقَ يتبينُ اختلافُ الأشاعرةِ فِي معنى البصير، أمَّا مَنْ فَهِمَ معناه كونه عالمًا فهذا مذهبُ المعتزلةِ وَقَدْ سَبَقَ الردُّ على ذلكَ.

ثالثًا ـ المعنى عندَ الماتريدية:

البصيرُ: الذي لا يخفى عليه شيءٌ([12]) مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَل([13]).

وَيُرَدُّ عليهم في هذا بما سَبَقَ بيانُه.

 

الهوامش:

([1]) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب ما يُكْرَهُ من رفع الصوت في التكبير، (2992)، وكتاب الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة، (6384)، ورواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، (2704).

([2]) الحق الواضح المبين، ابن سعدي، (ضمن المجموعة الكاملة)، (3/229).

([3]) شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجابر المعتزلي، ص(168).

([4]) الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري، ص(158).

([5]) فتح الباري، ابن حجر، (13/456).

([6]) كتاب التوحيد، ابن خزيمة، (1/107).

([7]) نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام، ابن القصاب، (2/288).

([8]) التدمرية، شيخ الإسلام ابن تيمية، ص(100).

([9]) شرح أسماء الله الحسنى، الرازي، ص(234).

([10]) القصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، الغزالي، ص(148).

([11]) لباب العقول، المكلاتي، ص(213-214).

([12]) تفسير الماتريدي، (3/222).

([13]) المصدر السابق، (7/4).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
أسماءُ اللهِ الحسنى: (البصيرُ).doc doc
أسماءُ اللهِ الحسنى: (البصيرُ).pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى