الردُّ على الذكرِ وَالغناءِ عِنْدَ الصوفيةِ (2)

الردُّ على الذكرِ وَالغناءِ عِنْدَ الصوفيةِ (2)





الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وَبَعد .. وَرَابِعًا: إِنَّ مَا قالَه الغزاليُّ عَنْ الذكرِ عامةً وَتفضيلَه للذكرِ الصوفيِّ على الشرعيِ خاصةً، هوَ قولٌ غيرُ صحيحٍ، وَشاهدٌ دامغٌ على تركِ الرجلِ للأورادِ الشرعيةِ وَرَاءَ ظهرِه، وَتقديمِ الوِردِ الصوفيِّ عليها، فليسَ فِي الذكرِ الشرعيِّ الصحيحِ دعاءٌ أوْ ذِكرٌ يأمرُنا بأنْ نذكرَ اللهَ كَمَا زعمَ الغزاليُّ بقولِه: (فلَا يزالُ بعدَ جلوسِه فِي الخلوةِ قائلًا بلسانِه: "الله الله" على الدوام مَع حضورِ القلبِ ...)([1])، فهذَا الذكرُ المزعومُ منْ مختَلَقَاتِ الصوفيةِ التي أسسوا عليها تصوفَهم.

وَلا يصح القولُ بأنَّ ذلكَ خاصٌّ بالمُريدِ دونَ غيرِه مِنَ الناسِ، فهذا مبررٌ باطلٌ وَمرفوضٌ؛ لأنَّ المريدَ وَالصوفيَّ عامةً - بحكمِ انتمائِه إلى الإسلامِ وَأهلِه - يجبُ عليه أنْ يتلزمَ بالشرعِ فِي كُلِّ أحوالِه، قلبًا وَقالبًا، وَلا يصح لَه أنْ يخالفَه، وَلا أنْ يختلقَ عباداتٍ مِنْ عندِه، وَأمَّا إنْ أصرَّ على موقفِه فهُنا يجبُ عليه أنْ يعلنَ صراحةً أمامَ المسلمين بأنَّه ليسَ مسلمًا؛ لأنَّه لا يحق لَهُ أنْ يتسترَ بالإسلامِ انتصارًا للتصوفِ، وَكيدًا للشرعِ وَأهلِه.

وَأمَّا مَا قالَه في مقارنتِه بَيْنَ قراءةِ القرآنِ الكريمِ وَممارسةِ الذكرِ الصوفي، وَتفضيلِه للثاني على الأولِ بالنسبةِ للصوفي، فهوَ غيرُ صحيحٍ، بَلْ وَكلامٌ باطلٌ مردودٌ عَلَى صاحبِه، فهوَ شاهدٌ قطعيٌّ عَلَى أنَّ الغزاليَّ على طريقِهم وَتعامُلِهم عليه، وَازدرائهم مِنْ جهةٍ أُخرى!!

فهلْ يُعْقَلُ أَنْ يكونَ كتابُ اللهِ تعالى قاطعًا لطريقِ الإيمانِ الصحيحِ، وُالطريقُ الصوفيُّ دالًا عليه؟! طبعًا لا وَألف لا، لكن الرجلَ قَالَ ذلكَ أخذًا بالعبادةِ الصوفيةِ لَا الشرعيةِ، وَبِهذا يزولُ تعجبُنا منه وَينكشفُ أمرُه رُغْمَ محاولتِه إخفاء حالِه وَتبرير موقفِه.

وَمِمَّا يؤكدُ ذلكَ أيضًا أَنَّ هذا الرجلَ ذَكَرَ صراحةً بأنَّه على الصوفيِّ الذي يريدُ اللهَ لا ينبغِي لَهُ أنْ يلتفتَ إلى الجنةِ وَنعيمِها، وَهذَا كلامٌ باطلٌ قطعًا، لَا يقولُه مسلمٌ يعي مَا يقولُ، وَلَا يصحُّ أنْ يصدرَ عنه، وَمَنْ يقولُه إمَّا جاهلٌ أوْ أنَّه لا يعي مَا يقولُ، أوْ تعمدَ قولَه لغايةٍ فِي نفسِه.

وَالحقيقةُ أنَّ الغزالي وَإخوانَه لَا يريدون عبادةَ اللهِ كَمَا أَمَرَنَا هوَ سبحانه، وَإنَّما يريدُ عبادتَه حسبَ أهوائِهم وَمرادِهم مِنْهُ تحقيقًا لغاياتِ العبادةِ الصوفيةِ التي سنُفَصِّلُ فيها لاحقًا بحولِ اللهِ تعالى.

وَأشيرُ هُنَا إلى أَنَّ الغزالي فَرَّقَ بينَ المسلمِ العادي وَبينَ الذاهبِ إلى اللهِ؛ فالأولُ يلتزمُ بالقرآنِ وَالثاني جَعَلَ لَهُ منهجًا صوفيًّا خاصًّا ليصلَ بِهِ إلى اللهِ!!

وَهذَا كلامٌ فيه حقٌّ وَباطلٌ؛ لأنَّ الحقيقةَ هيَ أنَّ المسلمَ الملتزمَ بالقرآنِ هوَ السائرُ إلى اللهِ تعالى السيرَ الصحيحَ، إنَّه سائرٌ إليه باتباعِ دينِه وَالالتزامِ قَلبًا وَقَالبًا، وَالسيرُ إليه سبحانه يكونُ كاملًا وَشاملًا وِفْقَ شرعِه، وَلَا يكونُ بالذكرِ فقطْ كَمَا زَعَمَ الرجلُ.

وَأمَّا الصوفيُّ الذي خصَّه الغزاليُّ بالسيرِ إلى اللهِ فهوَ فِي الحقيقةِ ليسَ سائرًا إلى اللهِ تعالى، وإنما ادَّعَى ذلك وَتَوَهَمَه، بَلْ هوَ سائرٌ إلى هواه وَشيطانِه، وَإلى ضلالِه وَهلاكِه؛ لأنَّ مَنْ يطلبُ الفناءَ فِي اللهِ - وحدة الوجود - لا يمكنُ أنْ يكونَ سائرًا إلى اللهِ بأي حالٍ مِنَ الأحوالِ، وَإنَّما هوَ مُهَلْوِسٌ وَمخدوعُ وَمُلَبَّسٌ عليه.

وَهذَا الرجلُ بذلكَ المنهجِ الذي تبنَّاه وَدعا إليه، هوَ فِي الحقيقةِ يَصُدُّ بِهِ عَنْ سبيلِ اللهِ وَيعملُ على إفسادِ شَرْعِهِ وَالكفرِ بِه فِي النهايةِ، وَكلامُه لا يقولُه مسلمٌ صادقُ الإيمانِ، وَهوَ طعنٌ صريحٌ فِي القرآنِ وَرَدٌّ لَه وَتعالمٌ عليه وَتقزيمٌ له، بَلْ وَفِي كلامِه غرورٌ وَقلةُ أدبٍ مَعَ اللهِ تعالى وَكتابِه.

وَأمَّا بالنسبةِ لما رواه عبدُ الوهاب الشعراني عنْ شيخِه المرصفي، بأنَّه قرأَ بينَ المغربِ وَالعشاءِ خمسَ ختماتٍ، وَفِي حالاتٍ قَرَأَ ثلاثمائة وَستين ألفَ ختمةٍ فِي يومٍ وَليلةٍ([2])!!

فأقولُ: إِنَّ اللهَ تعالى أنزلَ كتابَه لفهمِه وَتدبرِه، وَتطبيقِه وَاكتشافِ كنوزِهِ وَمعانِيه وَأسرارِه، وَلَمْ يُنْزِله لمجردِ الإكثارِ مِنْ قراءتِه وَختماتِه؛ بدليلِ قولِه تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

وَقولِه تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

وَقولِه تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

وَمِنَ السنةِ النبويةِ عَنْ عبدِ الله بن عمرو، أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - قَالَ: ((لَمْ يفقَه مَنْ قَرَأَ القرآنَ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاث))([3])؛ فذلكَ الصوفيُّ لم يلتزمْ بالشرعِ فِي قراءةِ القرآنِ الكريمِ، وَلا تَدَبَّرَ وَلَا انتفعَ بِه، وَهوَ بهذه الطريقةِ يسيرُ على منهجِ إخوانِه الصوفيةِ فِي تعمدِهم مخالفةَ الشرعِ وَالحرصِ على ذلكَ حتى في قراءتِهم للقرآنِ الكريمِ.

فَمَع أنَّه يقرأُ فِي القرآنِ فإنَّه لا يلتزمُ بآدابِ قراءتِه، وَيُفَوِّتُ على نفسِه تدبرَه وَالانتفاعَ بِه، فأية فائدة مِنْ قراءةِ خَمْسِ ختماتٍ بَيْنَ المغربِ وَالعشاءِ، أَوْ قراءةِ 360 ألف ختمةٍ فِي يومٍ وَليلةٍ، حسبَ زعمه؟! أليسَ هذا تلاعبٌ بالشرعِ؟!

فاللهُ تعالى أَمَرَنَا بتدبرِ كتابِه، فهي مخالفةٌ للشرعِ وَتعطيلٌ وصَدٌّ عنه أنَّه قرأَ تلكَ الختماتِ مِنْ جهةٍ، غيرَ أنَّه غارقٌ فِي مخالفةِ الشرعِ وَتعطيلِه وَالصدِّ عنه منْ جهةٍ أخرى.

فإذَا فَرَضْنَا جدلًا أنَّه قرأَ كُلَّ تلك الختماتِ كَمَا زَعَمَ، فلماذَا اجتهدَ وَأَجْهَدَ نفسَه لقراءةِ تلكَ الآلافِ مِنَ الختماتِ، وَلَمْ يجتهدْ لعرضِ التصوفِ على ميزانِ الشرعِ وَالعقلِ ليتخلصَ مِنَ انحرافاتِه وَضلالاتِه، ثُمَّ حملَ نفسَه على الالتزامِ بالشرعِ قلبًا وَقَالِبًا؟! أليسَ هذا هو الأنفعُ لَهُ، بَل الواجبُ عليه بدلًا مِنْ أنْ يبقى على تصوفِه وَيقرأ تلكَ الختمات؟!

وَأمَّا بالنسبةِ لعددِ الختماتِ الذي ذكرَه الشعرانيُّ أَنَّ شيخَه قرأها، حتى أنَّه قَرَأَ خمسَ ختماتٍ بينَ المغرب وَالعشاء، وَقَرَأَ 360 ختمة في يومٍ وَليلةٍ؛ فهذَا مستحيلُ الحدوثِ، وَخبرٌ مكذوبٌ مِنْ دُونِ شَكٍّ، وَنحنُ لا نتركُ عقولَنا وَحقائقَ الواقعِ، وَنُصَدِّقُ روايةً ظنيةً وَصوفيةً مخالفةً لطبيعةِ البشرِ.

وَعليه؛ فإنَّ الرجلَ وَلَا غيرُه يستيطعُ أَنْ يختمَ القرآنَ خمسَ مراتٍ بينَ المغربِ وَالعشاء، فنحنُ نرى فِي صلواتِ التراويحِ وَغيرِها أسرعَ القُرَّاءِ قَدْ يقرأُ أربعةَ أحزابٍ فِي ساعةٍ؛ وَعليه فلا يستطيعُ قراءةَ ختمةٍ واحدةٍ بينَ المغربِ وَالعشاءِ.

وَأمَّا زعمُه بأنَّه قَرَأَ 360 ألف ختمةٍ فِي يومٍ وَليلةٍ، فهوَ مستحيلٌ قطعًا، وَبعمليةٍ حسابيةٍ سريعةٍ يتبينُ استحالةُ ذلكَ، فحسبَ زَعِمِه أنَّه قَرَأَ 360 ألف ختمةٍ فِي يومٍ وَليلةٍ = 24 ساعة، 360000 ÷ 24 =1500 ختمة في الساعةِ الواحدة، وَهذَا مِنَ المستحيلات مِنْ دُونِ شَكٍّ، فانظرْ كيفَ يضحكُ الصوفيةُ على أنفسِهم، وَعَلَى الناسِ وَيتلاعبونَ بعقولِهم، وَلَا يتورعونَ عَن اختلاقِ الأخبارِ المستحيلةِ وَروايتِها على أنَّها مِنْ فضائل الصوفيةِ وَكراماتِهم.

وَأخيرًا ـ خامسًا: إِنَّ مَا ذكرَه أبو طالب المكي عنْ حكايةِ المسبعات العشر، هوَ زعمٌ باطلٌ جملةً وَتفصيلًا، بَلْ وَمستحيلٌ قطعًا؛ لأنه:

أولًا: بالنسبةِ لإسنادِ الخبرِ فهوَ لا يصحُّ؛ لأنَّ مِنْ رواتِه رجلًا – الشامي - مجهولُ العينِ وَالحالِ، وَلأنَّه مُرْسَلٌ بينَ إبراهيمَ التيمي وَالنبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -؛ لأنَّ التيمي هذا تابعي وَليسَ صحابيًّا([4]).

علمًا بأنَّه لا يمكنُ قبولُ حديثٍ عَنْ غَيْرِ صحابي، لأنَّ الصحابةَ همُ الذين عاشوا مع النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -، وَأية روايةٍ مِنْ غيرِ طريقتِهم فهي لا تُقبلُ، وَأمَّا وَصْلُ الحديثِ بالخِضرِ، فهذَا باطلٌ؛ لأنَّ الخضرَ ليسَ صحابيًّا، وَقَدْ عاشَ وَمَاتَ زَمَنَ موسى - عليه السلام -.

وَقَالَ الحافظُ العراقي فِي ذلكَ الحديثِ: (ليسَ له أصلٌ، وَلَمْ يصح فِي حديثٍ قطْ اجتماعُ الخضرِ بالنبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -، وَلا عدمُ اجتماعِه وَلَا حياته وَلَا موته).

وَثانيًا: إنَّ متنَ الحديثِ يشهدُ على عدمِ صحتِه؛ لأنَّه زَعْمٌ أنَّ الخضرَ هوَ الواسطةُ بينَ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَإبراهيمَ التيمي، وَهذا زعمٌ باطلٌ قطعًا؛ لأنَّ الخضرَ قَدْ مَاتَ زمنَ نبيِّ اللهِ موسى - عليه السلام -، وَأمَّا الزعمُ بأنَّه كانَ مَا يزالً حيًّا زَمَنَ النبوةِ، بَلْ وَإلى يومِنا هذَا كَمَا يدَّعِي الصوفيةُ، فهوَ زعمٌ باطلٌ مِنْ دونِ شَكٍّ بدليلِ الشواهد الآتيةِ:

  أولها: إنَّ القولَ ببقاءِ الخضرِ حيًّا إلى زمنِ النبوةِ وَبعدَه هوَ مجردُ زعمٍ لا يوجدُ دليلٌ يُثْبِتُهُ، وَليسَ عندَ القائلين بِهِ دليلٌ موضوعيٌّ صحيحٌ يُثْبِتُ زعمَهم، لَا مِنَ التاريخِ الصحيحِ، وَلَا مِنَ الواقعِ المشهودِ، وَلَا مِنَ الوحيِّ الصحيح، وَليسَ عندَ القومِ إلا الروايات الضعيفةُ وَالمُخْتَلَقَةُ وَمناماتُ شيوخِهم.

وَالمناماتُ ليستْ مصدرًا للشرعِ، وَلَا للتاريخِ، وَلَا للعلمِ، وَهيَ أمورٌ ذاتيةٌ قدْ تكونُ مِنَ النفسِ، أوْ مِنَ الشيطانِ، أوْ مِنَ الملائكةِ، وَهيَ لا تحملُ أيَّ دليلٍ موضوعيٍّ يثبتُها لتكونَ حجةً موضوعيةً يُحْتَجُّ بِهَا، وَيستطيعُ أيُّ إنسانٍ أَنْ يدعي باسمِ المناماتِ مَا يريدُ، وَيستطيعُ إنسانٌ آخر أَنْ يُكَذِّبَه وَيأتي هوَ بأمور أخرى مخالفةٍ لِمَا قالَه الأولُ، وَهَكَذَا دواليك.

وَعليه؛ فلا يصحُّ الاحتجاجُ بِهَا أبدًا، علمًا بَأَنَّ اللهَ تعالى لم يتعبدْنا إلَّا بكتابِه وَسنةِ نبيِّه، لا بالمناماتِ وَلَا بآراءِ البشرِ، وَلَوْ كانتْ المناماتُ مصدرًا مِنْ مصادر الشرعِ لنَصَّ عليها دينُنا، وَلَأَمَرَنَا اللهُ تعالى بالأخذِ بِها، وَلَاسْتَخْدَمَهَا الصحابةُ لتلقي السنةِ النبويةِ، وَمِنَ الثابتِ تاريخيًّا أَنَّ الصحابةَ عندما كانوا يحتاجون إلى السنةِ لَمْ يلجؤوا إلى المناماتِ، وَإنِّما كانوا يسألون عنها، فَإِنْ لَمْ يجدوا كانوا يجتهدونَ بآرائِهم وَلَا يعودون إلى المناماتِ أبدًا([5]).

وَالشاهدُ الثاني: إنَّ القرآنَ الكريمَ نَصَّ صراحةً على أَنَّ اللهَ تعالى لَمْ يجعلْ لأحدٍ مِنْ قَبْلِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم – الخُلْدَ؛ فقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]، وَبِمَا أَنَّ الخضرَ كَانَ زَمَنَ موسى - عليه السلام - فهوَ قَدْ مَاتَ وَلَمْ يلحقْ بنبيِّنا - صلى اللهُ عليه وسلم -.

وَالشاهدُ الثالثُ: إِنَّ القولَ ببقاءِ الخضرِ حيًّا مِنْ زمنِ موسى - عليه السلام - إلى ما بعدَ العهدِ النبوي قولٌ لا يصحُّ، لأنَّه مخالفٌ لسننِ المجتمعِ وَطبيعةِ الإنسانِ الذي لا يمكنُه أَنْ يعيشَ هذِه المدة الطويلة جدًّا، فهذَا أمرٌ مخالفٌ للطبيعةِ، وَلَا يُعْقَلُ وَلَا يَصِحُّ القولُ بِأَنَّ إنسانًا واحدًا لا يخضعُ لهذِه السنةِ الكونيةِ.

فهذَا مخالفٌ للطبيعةِ، وَمِنْ حقِّنا رفضُه وَيجبُ رفضُه؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يجعلْ لأحدٍ مِنَ البشرِ الخُلْدَ فِي الحياةِ الدنيا، وَهذَا أمرٌ ثابتٌ بالشرعِ وَالواقعِ؛ وَعليه فكلُّ إنسانٍ يزعمُ خلافَه فكلامُه باطلٌ، وَمِنْ حقِّنا رفضُه، بَلْ ويجبُ رفضه.

ونحنُ لسنا أغبياءَ وَلَا مغفلين حتى نتخلى عَنْ عقولِنا وَندوسَ عليها مِنْ أجلِ روايةٍ صوفيةٍ وَمستحيلةٍ، بَلْ إنَّه حتى إذا افترضنا جدلًا إمكانيةَ حدوثِ ذلكَ، فعلينا أنْ نرفضَها لأنَّها مخالفةٌ للشرعِ وَالعقلِ وَالعلمِ، فمَا بالك وأنَّها مستحيلة الحدوثِ بدليلِ الشرعِ وَالعقلِ وَالعلمِ.

وَالشاهدُ الأخيرُ "الرابع": إنَّ تلكَ الروايةَ نقضتْ مبدأَ ختمِ النبوةِ، وَهذَا دليلٌ دامغٌ على بطلانِها؛ لأنَّها زعمتْ أَنَّ الصوفيَّ التيمي تلقَى أوامرَ وَتشريعاتٍ عَنْ طريقِ الخضر بأمرٍ مِنَ النبيِّ حَسْبَ زعمِها، وَهذَا باطلٌ؛ لأنَّ دينَ الإسلامِ قَدْ اكتملَ بوفاةِ نبيِّنا - صلى اللهُ عليه وسلم -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].

وَعليه؛ فلا يصحُّ تلقي أية أوامرَ تشريعيةٍ مِنْ بعدِه، وَلِأَنَّ وجودَ الخضر بعدَ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - يعني أنَّه وُجِدَ نبيٌّ بعدَه، وَهَذَا نقضٌ لمبدأِ ختمةِ النبوةِ، وَعليه فالخبرُ باطلٌ بالضرورةِ، وَكُلُّ مَنْ يزعمُ أنَّه تلقَّى الأوامرَ الشرعيةَ بعدَ وفاةِ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم - منه أو مِنْ غيرِه فهوَ إمَّا جاهلٌ لا يعي ما يقولُ، أوْ مخطئٌ مُلَبَّسٌ عليه، أوْ أنَّه كذابٌ تعمَّدَ القولَ لغايةٍ فِي نفسِهِ.

وَيُلاحظُ على تلكَ الروايةِ وَمختلقِها أنهما نقضا ختمَ النبوةِ، وَشَرَعَا مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللهُ تعالى بطريقةٍ ظاهرِها الحرصُ على الذكرِ وَعبادةِ اللهِ تعالى، وَباطنِها تحريفُ الدينِ وَالافتراءُ عليه، وَهذِه مِنْ أخطرِ الوسائل التي استخدَمَها الصوفيةُ انتصارًا للدينِ الصوفي، وَمخالفةً لدينِ الإسلامِ وَهدمًا لَهُ.

وَبذلكَ يُسْتَنْتَجُ ممَّا ذكرنَاه أنَّ الذكرَ الصوفيَّ يختلفُ عَنْ الذكرِ الشرعيِّ مُنْطَلَقًا وَمَفًهُومًا وَغَايَةً، وَأنَّه وسيلةٌ عندَ الصوفيةِ لجمعِ النفسِ وَإشغالِها لبلوغِ غايةِ التصوفِ: الفناء فِي اللهِ - وحدة الوجود -.

وَهوَ ليسَ عندهم عبادةً شرعيةً، وَلهذَا لم يلتزموا بالأورادِ الشرعيةِ، وَخالفُوهَا صراحةً، حتى أنَّ الصوفيَّ ابن سبعين قَالَ لأحدِ تلاميذِه: (وَجميعُ مَا توجَّه الضميرُ إليه اذْكُرْهُ بِهِ وَلَا تُبَالِ، وَأي شيءٍ يَخْطُرُ ببالِكَ سَمِّهِ بِه)([6])!!

وَنفسُ الأمرِ أكَّدَه الشيخُ تقي الدين ابن تيمية بقولِه: (وَأبلغُ مِنْ ذلكَ مَنْ يقولُ: ليسَ مقصودَنا إلَّا جمعُ النفسِ بأي شيءٍ كَانَ، حتَّى يقولَ: لَا فَرْقَ بينَ قولِك: "يا حي"، وَقولِك: "يا جحش"، وَهذَا ممَّا قالَه لي شخصٌ منهم، وَأَنْكَرْتُ ذلك عليه، وَمقصودُهم بذلك أنْ تجتمعَ النفسُ حتَى يتنزلَ عليها الشيطانُ)([7]).

وَيجبُ أَنْ لَا يغيبَ عنَّا أَنَّ مبالغةَ هؤلاءِ فِي الذكرِ لا يعني تعظيمًا للشرعِ وَالتزامًا بِه، وَإنَّما الذكرُ عندَهم هوَ وسيلةٌ يشتغلُ بها المريدُ أثناءَ مجاهدتِه فِي خلوتِه وَجوعِه وَسهرِه، لكنَّهم مِنْ جهةٍ أخرى حرصُوا على استخدامِ ألفاظٍ شرعيةٍ بمضماينَ صوفيةٍ، كتسميةِ أورادِهم بالذكرِ، مَعْ أَنَّه ذكرٌ مخالفُ للذكرِ فِي الإسلامِ مُنْطَلَقًا وَمَفْهُومًا وَغايةً، فَعَلُوا ذلكَ – كعادتِهم - تقيةً وَتَسَتُّرًا بالإسلامِ للغايةِ فِي نفوسِهم.


الهوامش

([1])الغزالي: إحياء علوم الدين (3/19).

([2])الشعراني: الطبقات الكبرى (466).

([3]) رواه أبو داود، (1390)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، (225) (1108).

([4]) تذكرة الحفاظ، الذهبي، (1/59).

([5]) تاريخ الفقه الإسلامي، عمر سليمان الأشقر، ص(64) وما بعدها.

([6])عن: محمود القاسم: الكشف عن حقيقة التصوف (1/252).

([7])الشعراني: الطبقات الكبرى (466).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الردُّ على الذكرِ وَالغناءِ عِنْدَ الصوفيةِ (2).doc doc
الردُّ على الذكرِ وَالغناءِ عِنْدَ الصوفيةِ (2).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى