الواقعُ المعاصرُ للأماكن المأثورةِ المتواترةِ في مكةَ المكرمةِ

الواقعُ المعاصرُ للأماكن المأثورةِ المتواترةِ في مكةَ المكرمةِ






الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...

أولًا ـ المندثرُ مِنَ الأماكن المأثورةِ المتواترةِ في مكةَ المكرمةِ في الوقتِ الحاضر:

إنَّ عنوانَ معالي الدكتور هنا فيه لبسٌ وَإجمالٌ، فهلْ يقصدُ بالمأثورِ ما دُوِّنَ في كُتبِ التاريخِ، سواء وصلَ إلينا أو لمْ يصلْ؟ وعليه؛ فلماذا خصَّ هذه المواطنَ فقط؟ مع أنَّ هناك من المواطنِ أضعاف ما تَرَكَ، وَلَا يتحملُ كتابُه هذا ذكرَها، ولو حاولَ جمعَها لأصبحَ كتابُه هذا أضعافَ حجمِه، ولاضطُّر معالي الدكتور إلى أنْ يجعلَه عِدَّةَ مجلدات، مع أنَّ بعضَ ما أهملَ ذكرَه باقٍ إلى اليومِ مثلُ مقبرةِ المعلاةِ، وَالتخصيصُ لغيرِ علةٍ مُوجِبَةٍ أوْ دليلٍ صحيحٍ يُعْتَبَرُ تحكمًا وَعبثًا، أُنَزِّهُ معالي الدكتور عنه.

وَإنْ كانَ يقصدُ بالمأثورِ ما دُوِّنَ ولمْ يَصِلْ، فهذا حكمُه مثلُ الذي قبلِه سواءً بسواء، وَلا يصحُّ التفريقُ بينهما بحالٍ؛ إذ القضيةُ هنا جزءٌ منْ فَرْضَي الاحتمالِ في المسألةِ السابقةِ.

وَإنْ كانَ يقصدُ بالمأثورِ ما وصلَ إلينا فهذا تناقضٌ، إذ كيفَ يكونُ مندَثِرًا ثمَّ هو في نفسِ الوقتِ قدْ وَصَلَ إلينا.

وَفِي تقديري أنَّ على معالي الدكتور حذفَ هذا البحثِ؛ لأنَّ التفصيلَ السابقَ يقضي بعدمِ وجودِ أي فائدةٍ في تخصيصِ هذه الأماكن بالذكرِ وَالتعدادِ.

ثانيًا ـ الباقي مِنَ الأماكن المأثورةِ المتواترةِ في مكةَ المكرمةِ في الوقتِ الحاضرِ:

لوْ تأمَّلْنَا القائمةَ التي ذَكَرَها معالي الدكتور سنلحظُ ما يلي:

(1) إنَّ جميعَ ما ذَكَرَهُ معالي الدكتور مِنَ الأماكن المأثورةِ المتواترةِ فِي مكةَ المكرمةِ الباقيةِ فِي الوقتِ الحاضرِ، هوَ مِنْ قبيلِ ما أُزِيلَ وَهُدِمَ وَأُعِيدَ بناؤُه:

فمكانُ المولِدِ المزعومِ هُدِمَ وَأُعِيدَ بناؤُه، وَكذلك الحالُ بالنسبةِ لمسجدِ الرايةِ، وَهوَ مسجدُ الملكِ فهد، فقدْ هُدِمَ تمامًا، بلْ وَغُيِّرَ اسمُه، وَكذلك مسجدُ الإجابةِ هُدِمَ وَأُزِيلَ ثمَّ بُني مكانَه مسجدٌ على نفقةِ معالي الشيخ إبراهيمَ العنقري، وَكذلكَ مسجدُ الخيف تمَّ هَدْمُه تمامًا وَبُني بناءً حديثًا أُزِيلَت معه كلُّ المباني القديمة، بلْ حتى البلاط الذي فيه، وَمثلُه تمامًا مسجد التنعيم إذ كانَ ابتداءُ ذلك من (1398 هـــ).

فإذا كانَ الأمرُ كذلكَ، فهذه الأماكنُ في حقيقتِها مِنَ المندثرِ؛ لأنَّها غيرُ موجودةٍ على حقيقتِها، بلْ ليسَ لها وجودٌ في الحقيقةِ، وَلا فَرْقَ بينها وَبينَ المندثرِ، فإنَّ منزلَ السيدةِ خديجة وَدارَ الأرقمِ قدْ هُدِمَا وَأُزِيلا وَبُني مكانَهما المسعى، فَلِمَا لا يُقالُ إنَّهما مِنَ الأماكن الباقيةِ؟! فَلِمَ لا يُقالُ فِي حقِّهما ما قيلَ في مسجدِ الخيف، وَكذلكَ الحالُ في دارِ العباسِ إذ هو ضمنُ التوسعةِ، إذ يعني هذا أنَّه هُدِمَ وَبُني مكانه توسعةُ الحرمِ، وَمسجدُ المرسلاتِ أُزِيلَ وَدَخَلَ ضمنَ توسعةِ مسجدِ الخيف ... إلى غيرِ ذلك.

فكلُّ الآثارِ المندثرةِ وَالباقيةِ على تقسيمِ معالي الدكتور، قَدْ أُزِيلَ وَبُني مكانَها شيءٌ آخر، فضابطُ التفريقِ عندَه ضعيفٌ، فإمَّا أنْ يجعلَ الجميعَ مندثِرًا أوْ يجعلَ الجميعَ مما هو باقٍ، وفِي نظري أنَّ الجميعَ مِنْ قبيلِ المندثرِ الذي لا وجودَ له؛ وعليه فهذا الفصلُ برمَّتِه لا حاجةَ له في الكتابِ لأنَّه مِنْ قبيلِ التكرارِ، فهذه الأماكنُ قدْ تقدَّمَ ذكرُها في الكتابِ مرارًا، فعلى معالي الدكتور حذفُها هنا وَإضافةُ أيِّ معلومةٍ جديدةٍ هنا إلى المواطن المتقدمةِ، إذْ لا وجودَ لهذه الآثار.

وَالغريبُ أنَّ الآثارَ الباقيةَ وَالمتواترةَ فِعلًا لمْ يتكلمْ عنها، وَلمْ يُشِرْ إليها تمامًا، فلمْ يذكرْ الكعبةَ وَلا المقامَ وَلا جبلَ الصفا وَالمروةِ، وَلا عرفات وَلا المزدلفةَ وَلا مِنَى، مع أنَّها مِنَ الأماكن المأثورةِ المنصوصِ عليها شرعًا، وَهذَا مما يُسْتَغْرَبُ من معالي الدكتور طيلةَ كتابِه، إذ لمْ يُلْقِ معالي الدكتور لها بالًا.

(2) - مسجدُ أبي بكرٍ الصديق:

وَقَدْ أفرَدتُّه بالذكرِ عنْ الباقي؛ لأنَّ معالي الدكتور جاءَ فيه بما لا يقبلُه عقلٌ جاهلٌ فضلًا عنْ عالِمٍ عاقلٍ، فإنَّ مسجدَ أبي بكرٍ الصديق - رضي اللهُ عنه - كانَ مبنيًّا على الأرضِ، فعندما أُزِيلَ وَأُقِيمَتْ مكانَه شركةُ "مكةَ للإنشاءِ وَالتعميرِ" أصبحَ المسجدُ جزءًا مِنْ هذِه الشركةِ، التي قامتْ على مجموعةِ العقاراتِ بتلك المنطقةِ، وَأصبحَ مكانَ تلك العقاراتِ أبراجٌ سكنيةٌ، وَمحلاتٌ تجاريةٌ، وأسواق، وَمطاعم بأدوارٍ متكررة، ومكان مسجدِ أبي بكرٍ الصديق على توصيفِ معالي الدكتور سيكونُ فِي موقعِ مطاعم "كنتاكي" وَصيدلية "الهدى" تقريبًا!!

وَلمَّا كانَ هذا الأمرُ لا يوافقُ ما يريدُه الدكتور، عمدَ معالي الدكتور إلى المسجدِ المهدومِ وَرَفَعَه عن الأرضِ قرابةَ عشرين مترًا، فجعلَه مكانَ المصلى الموجود بالشركةِ بالدورِ الرابع، وقالَ نقلًا عن "بهجت صادق": (فقدْ أصبحَ يشغلُ طابقًا متسعًا، وَمُجهزًا تجهيزًا حديثًا في الدورِ الرابع ...)([1])، فهل هذا كلامٌ مقبولٌ يثبتُ معه أنَّ المسجدَ موجودٌ إلى اليومِ الحاضرِ؟!

وَإذا ما نظرنا إلى آخرِ سطرٍ كَتَبَه معالي الدكتور في هذه الفقرةِ؛ فسنجدُ تعقبًا له على "بهجت صادق" بقولِه: (الواقعُ أنَّ المسافةَ بينَ عمارة شركةِ "مكة للإنشاءِ وَالتعمير" وَالمسجدِ الحرامِ ثلاثمائة متر)([2])؛ وَهذَا يعني أنَّ مسجدَ أبي بكرٍ الصديق مكانُه الآنَ دوراتِ مياه السوقِ الصغيرِ المُقَابِلَةِ لبابِ (86) قسم الرجال أو نفق السوقِ الصغير!!

فعلى الاحتمالين: هلْ يقبلُ عاقلٌ أنْ يقولَ أنَّ مسجدَ أبي بكرٍ الصديق مُعَلَّقٌ فِي السماءِ على ارتفاعِ نحو عشرين مترًا مِنَ الأرضِ، أو يقولَ: هو دوراتُ المياه أو نفقُ السيارات؟!

هذه مغالطةٌ غيرُ مقبولةٍ، وعلى كلِّ حالٍ فجميعُ ما ذَكَرَه معالي الدكتور هوَ مِنْ قبيلِ المُنْدَثِرِ الذي لم يبقٍ إلا تاريخُه فقط.

(3) - يلحظُ القارئُ طوالَ هذا الكتابِ، مِنَ المقدمةِ إلى الخاتمةِ، حسرةَ معالي الدكتور على عدمِ الاهتمامِ بالآثارِ، وَاندثارِ كثيرٍ منها، وَأنَّ الحفاظَ عليها بالطريقةِ العقلانيةِ السلفيةِ يقتضي المحافظةَ عليها، لِمَا لها منْ إيحاءاتٍ وَإشعاعاتٍ إيمانيةٍ.

إذ يقولُ في المقدمةِ: (حَرَصَ السلفُ الصالحُ: مُحَدِّثُون وَفقهاءُ، وَمؤرخون وأدباءُ، منذُ القرنِ الأولِ الهجري، على ترسيمِ تلكَ الأماكن وَتوقيعِها وَتحديدِها تخليدًا للحَدَثِ، مرتبطًا بمشاهدةِ المكانِ، فللمكانِ إيحاءاتُه وَإشعاعاتُه، بقيتْ تراثًا خالدًا عبرَ الأجيالِ المتعاقبةِ في أمانةٍ وَصدقٍ ...)([3]).

وقالَ في هذا الفصلِ: (وَمِمَّا يحزُّ في النفسِ ألَّا تُعطى بعضُ هذه الأماكن الاهتمامَ اللائقَ بتاريخِها الإسلامي، وَلا يسهلُ الوصولُ إليها بالوسائل الحديثةِ رحمةً بالحجاجِ)([4]).

وقالَ في الخاتمةِ: (الدعوةُ لإزالةِ الأماكن المأثورةِ فِي المدينتين المقدستين مكةَ المكرمةِ وَالمدينةِ المنورةِ محوٌ للتاريخِ الإسلامي فِي مواطنِه الأصليةِ)([5]).

وَهُنَا أمورٌ مِنَ المهمِّ إيضاحُها:

أولًا: إنَّ السلفَ لَمْ يكنْ بينَهم وَبينَ هذه المشاهد عداوةً أوْ نفرةً، وَلكنْ كانَ الضابطُ عندَهم واضحًا، وَهو كالتالي:

1 - عدمُ الاهتمامِ إلَّا بما نصَّ الشرعُ على الاهتمامِ بِه: كبيتِ اللهِ الحرامِ، معْ عدم تجاوزِ النصِّ في اتباعِ طريقةِ التعظيمِ، وَمِنَ الأدلةِ التي تدلُّ على عدمِ اهتمامِ الصحابةِ بالأماكن التاريخيةِ فضلًا عَنْ بنائِهم مساجدَ فيها، أنَّ ابنَ عمرَ - رضيَ اللهُ عنهما - قالَ عن شجرةِ بيعةِ الرضوان: (رَجَعْنَا مِنَ العامِ المقبلِ، فما اجتمعَ اثنانُ على الشجرةِ التي بايعْنَا تحتَها، كانتْ رحمةً مِنَ اللهِ)([6]).

قالَ ابنُ حجرٍ تعليقًا على هذا الحديثِ: (وَبيانُ الحكمةِ فِي ذلكَ وَهوَ أنْ لَا يحصلُ بها افتتانٌ لِمَا وقعَ تحتَها مِنَ الخيرِ، فلوْ بقيتْ لَمَا أَمِنَ تعيظمِ بعضِ الجهَّالِ لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقادِ أنَّ لهَا قوةَ نفعٍ أوْ ضرٍّ، كما نراه الآنَ مُشَاهَدًا فيما هو دونها، وَإلى ذلكَ أشارَ ابنُ عمرَ بقوله: (كانتْ رحمةً مِنَ اللهِ)؛ أيْ كانَ خفاؤُها عليهمْ بعدَ ذلك رحمةً مِنَ اللهِ تعالى)([7]).

2 - إنَّ المَشَاهِدَ إذا احتاجَ الناسُ لإزالتِها لأجلِ مصالحهم وَمعاشِهم فلا حَرَجَ فِي إزالتِها: وَلذلكَ لا تجدُ فتوى لعالمٍ مُعْتَبَرٍ فِي تحريمِ إزالةِ مشهدٍ مع حاجةِ الناسِ للموقعِ؛ لذا أُزِيلَت كثيرٌ مِنَ البيوتِ كمنزلِ السيدةِ خديجة - رضي الله عنها - وَدارِ الأرقم عندَ الحاجةِ إلى توسعةِ المسجدِ الحرامِ، وَلَمْ يعارضْ أحدٌ مِنَ العلماءِ المُعْتَبَرِين.

3 - إذا أُقِيمَت مظاهرُ الشركِ حولَ المَشهدِ وَلمْ يكنْ المشهدُ معتَبَرًا شرعًا، فإنَّ على أهلِ العلمِ مطالبةَ ولاةِ الأمرِ بإزالتِه حفاظًا على جنابِ التوحيدِ: وَإنكارًا للمنكرِ الشنيعِ، وَهوَ انتقاصُ عظمةِ اللهِ - عز وجلَّ - بأنْ يُصرفَ شيءٌ مِنَ العبادةِ لغيرِه.

وَهذا ما فَعَلَهُ الرسولُ - صلى اللهُ عليه وسلم - بأمرِه وَإرسالِه للصحابةِ إلى المناطق التِي بِها أصنام وَأوثان لِتُهْدَمَ، وَقَدْ تكونُ هذه الأصنامُ وَالأوثانُ لأناسٍ صالحينَ، وَقَدْ أوضحَ هذا الأمرَ كمثالٍ تطبيقيٍّ بعدَ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - الفاروقُ عمرُ بن الخطابِ - رضيَ اللهُ عنه - كما ذكرنا أعلاه.

ثانيًا: مَا ذكرَه معالي الدكتور مِنْ أنَّ هذِه الأماكنَ لَها إيحاءاتٌ وَإشعاعاتٌ إيمانيةٌ يُذَكِّرُنَا ببدايةِ الشركِ في العالمِ؛ فقصةُ نوح - عليه السلام - معلومةٌ، حيثُ كانوا يجدون في صورِ صالحيهم وَتماثيلِهم تحريكًا لنفوسِهم للعبادةِ، وَكانتْ تلكَ الأصنامُ وَالأماكنُ تخرجُ منها إشعاعاتٌ وَإيحاءاتٌ حَرَّكَت نفوسَ قومِ نوح، لَكِنْ حَرَّكَتْهَا إلى الباطلِ وَإلى الشركِ.

فتحريكُ النفوسِ موجودٌ في كُلِّ أمةٍ، وَلكننا نبحثُ عن أمرين في تحريكِ النفوسِ؛ الأول: أينَ مَنْ يحرِّكُ النفوسَ للحقِّ لَا الباطل؟ الثاني: أينَ المنهج الصحيح؟ أينَ منهج النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَطريقته في تحريكِ النفوسِ؟

فالرسولُ - صلى اللهُ عليه وسلم - لَمْ يأخذْ الصحابةَ - رضيَ اللهُ عنهم - إلى مكانِ مولدِه ليُحَرِّكَ نفوسَهم!! وَإنِّما حرَّكَ نفوسَهم بالمواعظَ الإيمانيةِ وَالقرآنِ وَالقدوةِ الحسنةِ، فالتأثيرُ الصحيحُ على النفوسِ إنَّما يكونُ بتذكيرِها بهذا الوحي العظيمِ، تذكيرها بكتابِ اللهِ تعالى وسُنةِ رسولِه - صلى اللهُ عليه وسلم -، كما كانَ يفعلُ صلى اللهُ عليه وَسلم؛ قالَ تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].

فالبحثُ عنْ تحريكِ النفوسِ بأيِّ طريقةٍ حتى لوْ خالفَتْ طريقَ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - فيه هلاكٌ للعبدِ، وَمَنَ تأملَ قصةَ قومِ نوح - عليه السلام -؛ فإنَّه سيحذرُ أشدَّ الحذرِ في هذه القضيةِ؛ قالَ تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، قالَ ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -: (هذه أسماءُ رجالٍ صالحين مِنٍ قومِ نوح، فلمَّا هلكُوا أوحى الشيطانُ إلى قومِهم: أنْ انصبُوا إلى مجالسِهم التي كانوا يجلسونَ فيها أنصابًا وَسمُّوها بأسمائِهم، ففعلوا وَلَمْ تُعْبَدْ، حتى إذا هَلَكَ أولئك وَنُسِي العلمُ عُبِدَت)([8]).

فقومُ نوح لم يريدوا بفعلِهم هذا إلا الخيرَ، وَالتزودَ في العبادةِ، وَتحريكَ النفوسِ، لَكِنْ هَلْ الطريقَ الذي أرادوا به الخيرَ طريقٌ صحيحٌ؟!

الجوابُ: لًا.

بَلْ إنَّ الذي دعاهم إلى هذا الطريقِ في تحريكِ النفوسِ هوَ الشيطانُ - نعوذُ باللهِ منه -، حتى زَيَّنَ لهم ذلك المكانَ الذي كانَ يجلسُ فيه الصالحون، بأنَّ ذلكَ المكانَ إذا وُضِعَت فيه الصورةُ ذكرتهم بالعبادةِ، فَرَقَّتْ قلوبُهم.

وهكذا النصارى إذا نظروا إلى آثارِ الصالحينَ وَقبورَهم؛ وجدوا تلكَ الإشعاعاتِ وَالإيحاءاتِ، وَلكنَها قادَتْهُم إلى الشركِ باللهِ عياذًا باللهِ مِنْ ذلكَ.

وَكثيرٌ مِنْ أصحابِ البدعِ لَمْ يأتوا ببدعتِهم إلَّا لزعمِهم أنَّها تُؤثِّرُ على قلوبِهم وَتُحرِّكُ نفوسَهم، أوْ تُؤثِّرُ على غيرِهم([9]).

ثالثًا: يُلَاحَظُ أنَّ معالي الدكتور يُقَرِّرُ أنَّ هذه المشاهدَ الباقيةَ لَمْ يُعْطَ بعضُها الاهتمامَ اللائقَ([10]).

لقدْ أجملَ معالي الدكتور هذه الدعوى وَلمْ يُفَصِّلْ، فما ندري ما يريدُ بهذِه الدعوى: هلْ يريدُ أنْ تُبنى عليها المساجدُ وقدْ نهى النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - عنْ ذلك؟! أمْ يريدُ الصلاةَ عندَها أو التبركَ وَالتمسحَ، فهذا منهيٌّ عنه أيضًا؟! أمْ يريدُ أنْ تكونَ آثارًا سياحيةً وَبعضُها هوَ كذلكَ الآن؟

فليتقِ اللهَ، فلقدْ شاهدَ كلُّ منصفٍ ذهبَ إلى تلكَ البقاعِ كيفَ أنَّ الزوارَ إليها يقيمون معالمَ الشركِ وَالبدعةِ عندها وَلا يستجيبونَ لنصحِ ناصحٍ، وَلا لموعظةِ واعظٍ، فلمَاذا يريدُ معالي الدكتور أنْ يروِّجَ لِمَا سيكونُ طريقًا للوثنيةِ وَالشركِ فِي بلادِ الحرمين، بعباراتٍ منمقةٍ، وَدعاوى خاليةٍ مِنَ الدليلِ؟!

وَهذا كتابُ معالي الدكتور قرأتُه مراتٍ متعددة، حاولتُ أنْ أَجِدَ دليلًا واحدًا يُعَضِّدُ قولَ معالي الدكتور مِنْ قولِ اللهِ وَرسولِه أَوْ حتى مِنْ أقوالِ الصحابةِ؛ فلم أجدْ، بلْ ما وجدتُّهُ هوَ ما يخالفُ تقريرَه.

فعلى معالي الدكتور أنْ يراجعَ نفسَه، وَيعرضَ مَا كَتَبَ على كتابِ اللهِ - جلَّ جلاله - وَسنةِ رسولِه - صلى اللهُ عليه وسلم - وَأقوالَ الصحابةِ - رضيَ اللهُ عنهم -، وَأنْ يعيدَ النظرَ فِي كلِّ مَا كَتَبَ، وَأنْ يَتَّقِ اللهَ فيما كَتَبَ، فتقوى اللهِ وَمرضاتُه أولى مِنْ أيِّ أمرٍ آخر.



([1]) انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل، د.عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، ص(168).

([2]) المرجع السابق، ص(169).

([3]) المرجع السابق، ص(12).

([4]) المرجع السابق، ص(174).

([5]) المرجع السابق، ص(178).

([6]) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب البيعة في الحرب ألَّا يفروا، (2958).

([7]) فتح الباري، ابن حجر، (6/118).

([8]) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، (4920).

([9]) انظر: رد فهد بن سعد بن محمد أبا حسين على مقال عبد الوهاب أبو سليمان، موقع صيد الفوائد: www.saaid.net

([10]) انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل، ص(174).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الواقعُ المعاصرُ للأماكن المأثورةِ المتواترةِ في مكةَ المكرمةِ.doc doc
الواقعُ المعاصرُ للأماكن المأثورةِ المتواترةِ في مكةَ المكرمةِ.pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى