أراء العلماء في زيارة الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة (2)

أراء العلماء في زيارة الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة (2)





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛
رأي المؤيدين لزيارة الأماكن المأثورة في مكة المكرمة وأدلتهم:

الوقفة الأولى: قال معالي الدكتور بعد نقله عن ابن عطية في أن البركة نوعان يستخلص من هذا: "أن كل مكان حل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مكان مبارك، ولا يخالف في هذا مسلم جاهل فضلا عن عالم عاقل"[1].

وهذا الكلام من معالي الدكتور عاطفي عَري عن الدليل، فهل الأماكن التي زارها عند اليهود بالمدينة ستكون مباركة؟ فقد زار النبي صلى الله عليه وسلم يهوديا ودعا ابنه إلى الإسلام وهو على فراش الموت فأسلم الابن ولم يسلم أبوه[2]، فهل ستكون دار اليهودي مباركة؟ وعندما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود ودخل بيت المدراس ليحكم في الرجل والمرأة الذان زنيا[3]، فهل ستكون هذا الدار دارا مباركة؟ وهل سيقول الجاهل أو العالم بأنها دور مباركة، آمل من معالي الدكتور أن يراجع هذه القاعدة التي قررها، فلن يقول بها جاهل فضلا عن مسلم عاقل عالم.

الوقفة الثانية: استنتج معالي الدكتور نتيجة غريبة حيث قال:" وحيث عرف تعليل كونها مباركة، نتيجة لهذا، يكون الدعاء فيها مستجابا بإذن الله عز وجل، وهذا اعتراف من أئمة التفسير بان الأماكن تتفاضل بحسب من حل بها، وما حل فيها"[4]، وهذا استنتاج عجيب نسبه إلى بعض أئمة التفسير.

وهذه النتيجة مرفوضة وبعيدة عن الصحة، فلا تلازم بين البركة والدعاء، إذ القضية مبنية على ثبوت النص، فهذه النخلة قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها شجرة مباركة كما روى ابن عمر" إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم"[5] فهل يعني هذا أننا نذهب إلى النخل وندعوا الله هناك، لأن النخل مبارك؟ هذا لم يقل به عالم، وهل سنذهب عند شجر الزيتون لندعوا الله، لأنه مبارك كما قال تعالى: {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35]؟ وهل سيقول بهذا مسلم جاهل فضلا عن عالم عاقل؟

وأما قوله:" وهذا اعتراف من أئمة التفسير بأن الأماكن تتفاضل بحسب من حل بها، وما حل فيها" فلا يقبله والجاهل ولا العالم، فمن ذا الذي سيقول بأن الحمامات وأماكن قضاء الحاجة من بول وغائط بأنها ستتفاضل بحسب من حل بها من صالحين وأتقياء!!

الوقفة الثالثة: يقول معالي الدكتور:" وحيث عرف تعليل كونها مباركة، نتيجة لهذا يكون الدعاء فيها مستحبا بإذن الله...، لهذا المعنى أفرد الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في صحيحه، باب بعنوان:" باب المساجد التي على طريق المدينة، المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم"[6].

وهذا تَقوَل على الإمام البخاري وتجني عليه، فالإمام البخاري إنما ذكر هذا الباب ليثبت الأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم وصلى فيها، وأصحاب الحديث والسير يذكرون الأماكن التي سار فيها النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره حفظا للواقعة، فهم يذكرون الأماكن التي مر بها في ذهابه لغزوة بدر وأحد وخيبر وغيرها كثير جدا، وهذا لا يعني أنهم ذكروها لزيارتها، ولو تأملنا قول البخاري آنفا، أين سنجد فيه جواز الزيارة، إذ لا يستفاد من التحديد جواز الزيارة، وما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه هو اجتهاد لم يوافقه عليه جمهور الصحابة رضي الله عنهم، بل كان أبوه أول من نهى عن مثل فعل ابن عمر، وسنة عمر رضي الله عنه هي التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بها بقوله:" فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين"[7].

ولم يأمرنا صلى الله عليه وسلم التمسك بسنة ابن عمر، على أن ابن عمر لم يكن يذهب لزيارة ترك الأماكن اصالة، بل كان إذا ذهب إلى مكة للعمرة أو الحج مر بها، أما أنه كان يفردها بالزيارة لذاتها فهذا ليس بصحيح، ولم ينقله أحد عن ابن عمر أو أحد من الصحابة رضي الله عنهم.

الوقفة الرابعة: نلحظ أن معالي الدكتور عند نقله لقول المجيزين انتقل من ذكر جواز الزيارة إلى إثبات البركة ليصل إلى نتيجة مفادها:" أن كل مبارك تستحب زيارته أو على أقل تقدير تجوز زيارته كما يجوز تعبد الله عنده بصلاة أو دعاء، وفات معالي الدكتور أنه لا يلزم من بركة الشيء استحباب زيارته كما مثلنا لذلك في الوقفة الخامسة بالنخل وشجر الزيتون، وأما استناده لقول ابن حجر[8] فغير سديد لأمرين:

1- أن توجيه ابن حجر بأن ابن عمر كان يتبرك بتلك الأماكن فغير صحيح، بل الصحيح أنه كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بدليل أنه كان يفعل مثل ذلك في أمور أخرى لا أظن أن معالي الدكتور يقول بها، حيث كان يذهب إلى الأماكن التي بات ونام فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيبات وينام فيها، فعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما :" كان يهجع هجعة بالبطحاء ثم يدخل مكة ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك"[9]، وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:" بات النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعله"[10]، فهل سيدعو معالي الدكتور الناس إلى النوم بالبطحاء وذي طوى، بل وأشد من ذلك فقد كان يشتري الهدي من قديد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه من هناك فعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما أتى قديدًا واشترى هديه فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة، وقال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع هكذا"[11]، ولم يقل أحد أن شراء الهدي من قديد بركة أو سنة، بل كان يفعله ابن عمر تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهل سيحث معالي الدكتور الناس على شراء الهدي من قديد؟ فالأمران عند ابن عمر متساويان.

2-أن ابن حجر رحمه الله نقل معه فعل أبيه عمر وإنكاره تتبع أماكن وآثار الأنبياء، وجمهور الصحابة رضي الله عنهم  مع الأب لا مع الابن[12] ، وهذا دليل على أن ما فعله ابن عمر رضي الله عنه اجتهاد غير صحيح لا يتابع عليه، بل المتابعة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنته، أما محاولة توجيه قول عمر فضعيف، وكان على ابن حجر أن لا يوجه قول عمر رضي الله عنه، بل عليه أن يوجه قول ابن عمر، لأن من المعلوم أن التوجيه والاعتذار يكون للقول الضعيف لا للقول القوي، فقول عمر رضي الله عنه هو القوي وهو الذي عليه جمهور الصحابة، أما قول ابن عمر فهو اجتهاد مفرد لم يتابعه عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فالمفترض أن يعتذر له ابن حجر ويوجه قوله.

وأما استدلاله بحديث عبتان رضي الله عنه فقد أخطأ ابن حجر في تعميم القضية بالصالحين وجواز التبرك بآثارهم، لأنه من المعلوم أن التبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فيجوز التبرك به أو بأثر من آثاره، ولايقاس عليه، لذلك لم يكن أحد من الصحابة يتبرك بأبي بكر أو أحد من المبشرين بالجنة، ولا يتبعون آثارهم، حتى ابن عمر رضي الله عنه لم يكن يتبرك بأبيه أو يتبع أثرا من آثاره، وعليه فاستناد معالي الدكتور ضعيف ولا يفي بالمطلوب، لا في إثبات ولا في استحباب الزيارة.

الوقفة الخامسة: أن ما نقله معالي الدكتور عن أبي جمرة الأندلسي[13] لا علاقة له بموضوعنا، لأن وادي العقيق قد جاء النص على اعتباره مباركا واستحباب الصلاة وعقد نية الحج والعمرة فيه[14]، وأما تعميم أبي جمرة بقوله:"وفيه دليل على أن المقصود منا في الأمكنة والأزمنة المباركة التعبد، يؤخذ ذلك من قوله:" صل في هذا الواد المبارك" فمن أجل بركته أمر بالصلاة فيه[15]، فهذا تعميم غير صحيح قد أخطأ فيه أبو جمرة، لأن هذا الباب لا يصح فيه القياس، بل لابد من إثبات البركة من الدليل كما لابد من إثبات التعبد في المكان المبارك بالدليل أيضا، لأننا نعلم أن المسجد مبارك والنخلة مباركة، ولم يقل عاقل بأن التعبد عند النخلة مشروع قياسا على المسجد، بل لابد لكل مكان دليله الخاص، وهذا خطأ أبي جمرة وتبعه معالي الدكتور.

وما نطالب معالي الدكتور به من أول البحث فنحن نريد من معالي الدكتور أن يثبت لتلك الأماكن الدليل على أنها مباركة تستحب زياتها والتعبد عندها، وأي مكان يثبت فيه النص يرتفع الخلاف فيه، بل هناك أماكن ثبتت فيها نصوص، بل نصوصها أقوى من نص وادي العقيق ولم يذكرها معالي الدكتور، من تلك الصلاة الأماكن، خلف المقام، والطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة، فهذه قد ثبتت فيها النصوص المتواترة.

والذي غاب عن معالي الدكتور طيلة كتابته لهذا البحث أنه لا يصح القياس على الأماكن، فالأماكن التي تجوز أو تستحب زيارتها شرعا هي خاصة لا يجوز القياس عليها بعلة وجود الأولياء والصالحين فيها، فهذه العلة غير مؤثرة وغير معتبرة.

وإلا فسوف ندخل أكثر مدن العالم حتى من بلاد الكفر لوجود الصالحين فيها، فمن درس من المسلمين الصالحين في جامعة لندن مثلا، فهل ستكون جامعة لندن مباركة، لان هذا العبد الصالح درس فيها وقطعا قد أدى الصلاة المفروضة في أرجاءها، وذكر الله وهو فيها، ما أظن أن مسلما جاهلا سيقول بهذا فضلا عن عالم عاقل.

والخلاصة: أنه لا يصح الاستدلال بحديث وادي العقيق لأن دليله خاص لا يقاس عليه.

الوقفة السادسة: استدلال معالي الدكتور بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك، فقال رول الله صلى الله عليه وسلم :" اسكن حراء، فما عليك إلا نبي، أو صديق أو شهيد..."[16].

وبالتأمل في هذا النص يمكن أن نستنبط ما يلي:

1-عدم وجود شيء في النص يدل على استحباب الزيارة أو مشروعيتها.

2-لا يمكن الجزم بأن الذهاب إلى حراء من النبي صلى الله علي وسلم كان لزيارته فهناك احتمالات أخرى منها أنه كان على طريقه فصعد عليه، وصعوده لا يعني ذهابه إلى قمته أو إلى مكان تحنثه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، بل وقوفه على أي جزء من الجبل يصح أن يقال أنه على الجبل سواء كان على القمة أو الوسط أو أدنى الجبل، وما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.

3- ليس في النص حث على زيارته لا من قريب ولا من بعيد، وكون النبي صلى الله عليه وسلم عليه ليس فيه حثا، بل النبي صلى الله عليه وسلم مر بأماكن كثيرة في سفره وغزواته، وبعضها قد كرر مروره بها كما في غزوة بدر الموعد، وكانت بعد عام من غزوة بدر الكبرى، كما هو معلوم، وما نص أحد من أهل العلم على استحباب الزيارة، فلم يقل أحد من أهل العلم المعتبرين باستحباب زيارة بدر أو الخندق أو ديار بني النضير أو بني قينقاع، أو حتى بيت المدراس التابع لليهود، وقد دخله النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من المواقع كثير جدا.

4- إن الزيارة بغير نية قربة، كالذهاب للمشاهد والإطلاع عليها لا خلاف في جوازها بين العلماء، والخلاف في الأماكن التي تزار لأجل نية القربة وطلب الأجر.

ومعالي الدكتور يستدل بالأول على الثاني وهذه مغالطة، فيجوز لكل مسلم زيارة حراء من أجل المشاهدة والاطلاع، ولكن الذي لا تجوز له الزيارة من أجل طلب الأجر أو التعبد أو اتباع آثار الأنبياء أو الدعاء أو التبرك ونحوها.

هذا هو الفرق الذي غاب عن معالي الدكتور في هذا الفصل، فلم يستطع معالي الدكتور بذلك تحرير محل النزاع، مما جعل هذا الفصل يحفل بالعديد من الأخطاء العلمية والمغالطات المنهجية.

والخلاصة: أن هذا النص ليس فيه أي دعوة للزيارة أو الحث عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم كما ذهب إلى حراء فد ذهب إلى أحد وأسواق المدينة وذهب إلى مكة وذهب إلى كثير من الأماكن في سفره وغزواته، وهل سيطرد معالي الدكتور الحكم على جميع الأماكن والمواقع التي مر بها أو زارها.

الوقفة السابعة: قول معالي الدكتور:" الإجابة في هذه الأماكن قد تكون مرفوعة"[17]، فهذا لم يذكر عليه دليل يعتمد عليه، وأن ما نقله عن العلامة عبد الله ميرغني عند نقله عن الحسن البصري قوله:" والظاهر أنه لا يقول ذلك إلا عن توقيف"[18]، فهذا خطأ قطعا من وجوه:

1- أن هذه العبارة لا تقال إلا في حق الصحابة رضي الله عنهم وبشرط، أما التابعون لا يصح إطلاق هذه العبارة على كلامهم، وإنما استثنى الصحابي، لانه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وجالسه ويمكن أن يكون ما قاله منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لذا قيد أهل العلم مثل هذا القول بشروط يمكن أن يحكم لقول الصحابي بالرفع حال توفرها، والمسألة مبحوثة في علم مصطلح الحديث.

2- أن التابعي يستدل لقوله ولا يستدل بقوله مهما كانت جلالته أو علت منزلته، فقولهم ليس بحجة، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم.

3- أن كلام الحسن البصري كان على مواطن كلها حول الكعبة أو المشاعر وهي مما جاء فيه نص صحيح وآخر ضعيف، فيقبل من قول الحسن ما جاء النص الصحيح عليه، ويرد ما لا نص فيه أو كان النص فيه ضعيفا.

4- أنه لا يجوز القياس على الأماكن التي صح فيها النص، وإصرار معالي الدكتور على القياس هو أحد أسباب وقوعه في الخطأ، وهو أمر مستغرب من عالم له إسهاماته العلمية في الفقه وأصوله.

الوقفة الثامنة: ما نقله معالي الدكتور عن الشيخ محمد بن علان في شرح الإذكار: عن جده عبد الملك بن علي أن الحسن البصري رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو خطأ قطعا، وذلك أن الرسالة بين أيدينا مطبوعة، وليس فيها عند ذكر المواطن رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعالي الدكتور قد أطلع عليها، وكان المفترض منه أن يصحح غلط ابن علان، لا أن يستدل به.

الوقفة التاسعة: أما ما نقله معالي الدكتور عن الأزرقي بسنده إلى ابن جريج عن إسماعيل بن أمية أن خالد بن مضرس آخره[19]، فهذا إسناد  لا يصح وعلته، خالد بن مضرس وهو مجهول أو على أقل الأحوال مستور الحال[20]، وإذا ثبت ضعف هذا النص فكيف يصح نسبة هذا العمل للصحابة؟؟

فلا يليق بمعالي الدكتور وهو من هو في العلم أن يستدل بالضعيف ليثبت قضية أو مسألة، بل عليه أن يتحرى الصحيح، وإذا أورد نصا ليستدل به فعليه أن يثبت صحته.

وأما هذا الصنيع  فعهو تعمية على القارئ خاصة المثقف وغير المتخصص في علم الحديث، والأمانة العلمية تقتضي خلاف صنيع معالي الدكتور.

الوقفة العاشرة: أن ما نسبه للسلف الصالح من التابعين فيه نظر، وذلك أن استدلاله لهذا الأمر مبني على واقعة في سندها جهالة، فقد نقل معالي الدكور عن مؤرخ المدينة عبر بن شبة قوله:" قال أبو غسان، وقال لي غير واحد من أهل البلد" وهذه الجهالة كافية في إسقاط السند وعدم الاعتبار بهذه القصة.

وقد قال ابن حجر معلقا على هذه القصة:" ذكر البخاري المساجد التي في طرق المدينة ولم يذكر المساجد التي كانت بالمدينة، لأنه لم يقع له إسناد في ذلك على شرطه..."[21].

الوقفة الحادية عشر: استدلال معالي الدكتور بأن عدم الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الكراهة، لان  النهي عن  تتبع آثار الصالحين وآثار الأنبياء جاء صريحا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو ما عليه جُل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتزام سنة عمر أمر حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم.

وقد أجهد معالي الدكتور نفسه في تقرير هذه القاعدة مع العلم أنها لا تصلح للاستدلال في هذه المسألة التي نناقشها؛ لأن قول عمر رضي الله عنه الآنف الذكر حسم الموضوع، وهو قد قاله على مسمع الصحابة، ولم ينكره أحد حتى ابنه الذي كان يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء، وهذا يعد في عرف الأصوليين إجماعا سكوتيا.

الوقفة الثانية عشر: من أضعف ما استدل به معالي الدكتور في تجويز زيارة الأماكن المأثورة قوله:" الحديث المتصل لا يعارض بالحديث المنقطع"، قطع عمر للشجرة التي يظن أنها شجرة بيعة الرضوان أثر ضعيف منقطع لا يصلح الاستدلال به ولا التعويل عليه، وهذا مردود بما يلي:

1-يستغرب من معالي الدكتور حرصه على التصحيح والتضغيف هنا مع أنه طوال بحثه يستدل بالضعيف، وما لا تقوم به حجة، وقد بينت كل ذلك في موضعه، والمنهج العلمي يفرض عليه أن يكون دقيقا في موقفه من النصوص، إذ لا يصلح له أن يستدل بالضعيف ثم يرد قول خصمه، لأنه استدل بالضعيف مثله، إذ المفترض أن يقبل من خصمه ما قبله من نفسه.

2- أن المنازع لمعالي الدكتور في المسألة لا يعتمد على هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه بل يستأنس به، وأما المعتمد فهو ما رواه معرور بن سويد قال:" خرجنا مع عمر رضي الله عنه في حجة حجها، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم: اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فليمض" وهذا الأثر أخرجه أبن أبي شيبة في مصنفه(2/376)، وعبد الرزاق في مصنفه (1/118-119)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها(87)، وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في التوسل والوسيلة (161)، وصحح إسناده أيضا ابن كثير في مسند الفاروق (142)، وقد ذكر الحافظ ابن حجر  في فتح الباري(1/569)، أن هذا الأثر ثابت عن عمر رضي الله عنه، وبهذا يبطل قول معالي الدكتور، ويسقط بحث العلامة عز الدين الفلواري، لأن النقد انصب على رواية مقطوعة يستأنس بها، ولم يتعرض للرواية الصحيحة الصريحة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي هي نص في الموضوع.

ويتبين في نهاية هذا العرض أن معالي الدكتور يرجح القول الثاني سواء اعترف بذلك، أم لم يعترف وصنيعه يدل على ذلك صراحة، وهذا لا يهم القارئ كثيرا، إنما المهم أن ينتبه القارئ لما يلي:

1-أن محل النزاع هو زيارة الأماكن التي تزار بنية التعبد والقربة، أما التي تُزار من أجل السياحة، أو من غير نية القربة أو التعبد  ، فلا خلاف بين العلماء في جواز زيارتها.

2-أن أدلة المجيزين لزيارة الأماكن المأثورة بنية التعبد والقربة التي ذكرها معالي الدكتور هي بين أمرين: إما ضعيفة لا تصلح للاستدلال ولا يعول عليها، أو هي في غير محل النزاع، وخارج دائرة بحث المسألة.



[1] الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (134).

[2] أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ رقم (1356).

[3] أخرجه البخار، كتاب الجزية، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب (3167)، وأبو داود، كتاب الحدود (4452).

[4] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (134.

[5] أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب أكل الجمار (5444).

[6] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (134).

[7] أخرجه الإمام أحمد في المسند من حديث العرباض بن سارية، (17606)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (4269).

[8] انظر: فتح الباري (1/738).

[9] أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب التحصيب، (2012)، والإمام أحمد في مسنده برقم (4828)، وقال شعيب لأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[10] أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب دخول مكة ليلا أو نهارا (1574).

[11] أخرجه أحمد في المسند،  (4596)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

[12] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (756-757).

[13] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (135-136).

[14] أخرجه البخاري،كتاب الحج، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (القيق واد مبارك) رقم (1534).

[15] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (135-136).

[16] أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة (6401).

[17] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (136-137).

[18] المرجع السابق (137).

[19] المرجع السابق (137).

[20] التاريخ الكبير للبخاري (3/55)، الطبقات الكبرى لابن سعد (4/292).

[21] انظر: فتح الباري (1/738).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
رأي المؤيدين لزيارة الأماكن المأثورة في مكة المكرمة وأدلتهم.doc doc
رأي المؤيدين لزيارة الأماكن المأثورة في مكة المكرمة وأدلتهم.pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى