مجالات التحرك الصوفي

مجالات التحرك الصوفي





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ إنَّ المتأمل للنشاط الصُّوفي المعاصر يجد نفسه أمام تيارٍ جديدٍ، صوفي المشرب، متحضِّـر الأدوات، واسع النَّظرة، يتعامل مع الواقع السِّياسي، ويتبنَّى العمل التربوي المنظَّم من افتتاح حلقات تحفيظ القرآن واللقاءات المنظمة، واستخدام الدعوة الفردية، إلى تهيئة رحلات ودروس خاصة للمريد، مع لقاءات تُتلى فيها البُردة في حلقات فلكلوريَّة يردَّد فيها لفظ الجلالة إلى حد الفناء والجذب، إلى تنظيم الأنشطة الرياضيَّة التي لا يشارك فيها إلا مريدوهم بل وجلب الدعاة من الصُّوفية كي يتبنوا الدَّعوة المنظَّمة ومتابعة المريدين والتأكيد على الأنشطة المصاحبة.

وقد وصل خطرهم إلى الأوساط النسائيَّة، فهم يتحركون على شكل مجموعاتٍ تدعو لما تعتقده في أسلوبٍ مبرمج فـ(تختار هذه الجماعة من المريدات الفتيات الصغيرات رقيقات المشاعر، وتعتمد في دعوتها على الإثارة الوجدانية البعيدة عن العقل والتفكير، وتظهر عُضوات هذه الجماعة اهتمامها الزَّائد بكل فتاةٍ حتى تشعر كأنها هي المقصودة بالدَّعوة لوحدها، وتظهر شدَّة الاهتمام بكثرة الزِّيارات والاتصالات، ومن الأمور المعروفة أنَّ الإنسان يميل بطبعه إلى من يهتمُّ به ويمدحه ويعجب به، في هذه الفترة يتم التركيز على أشياء محبَّبة للنفس مثل حفظ القرآن، الذكر، الإكثار من ذكر صفات الجنَّة والترغيب في قيام الليل.

وخلال اجتماعاتهم يظهر التقديس والتعظيم للآنسة -الشَّيخة- ثم يصبح هذا سلوكهن أيضًا بالتَّدرج حتى تصل الواحدة منهن إلى حبِّ هذه الآنسة وتقديسها بطريقة غير طبيعيَّة، وقد يفسِّرون هذا التعظيم بأنَّه كاحترام العالم لما عندها من العلم الشّـَرعي وغير ذلك من الأعذار الواهية، وخلال الاجتماعات وحلقات الذكر يكون التَّعارف والوصول إلى هذه العلاقة، ولا ينكر أنَّهم خلال هذه الاجتماعات يحفظون القرآن وقد تحفظه الطَّالبة؛ لأن الآنسة طلبت منها ذلك وحبًّا لها تفْعَل ما تريد، وقد تحرص الطَّالبة على العبادة والإكثار منها والالتزام بما تقوله الآنسة رغبةً في حصول رضاها، فتكون شُغلَها الشَّاغل حتى أثناء العبادة نفسها، وتصلُ الطالبة إلى هذه الحالة بعد مراحل من الرَّقابة التي تُفرض عليها ومتابعة أعمالها وعباداتها.

وخوفًا من تيقظ هذه الطالبة أو المريدة بصورة عامة ومن ثمَّ يخسرون فردًا من أتباعهم، فإن الشَّيخ أو الآنِسَة يؤكدون على أتباعهم عدم الالتفات لأي معترض ولو كان والديهم، وقد يوهم الشَّيخ أو الآنِسَة التَّابع أو الفتاة بأنَّه يعلم بما يفعله وإن كان غائبًا عنه وذلك عن طريق الكشف والإلهام وادعاء بعض الكرامات، وهذا ما يجعل محبة الله تزول بالتَّدريج، فلا يبقى منها إلا الادعاء، وأما حقيقة الخوف والمحبة والمراقبة فهي لهذا الشَّيخ أو هذه الآنِسَة فتضمحِّل شخصية التَّلميذ فيصبح كما أرادوا (كالَميتِ بين يدي مُغَسِّلِه) فلا حقَّ له في الاعتراض أو الاحتجاج أو السُّؤال حتَّى تصل الحالة بالمريد أو المريدة أن يبرر تصـرفات شيخه ولو كان مخالفًا للشريعة بحجَّة أنَّه معصومٌ لا يخطئ أو أنَّها أشياء تُلقى في قلبه يتلقاها بالكشف)([1]).

وتُلخِّص مجلة البُحوث والدِّراسات الصُّوفية شروط مسير المريد مع شيخه فتقول:

1- الصَّبر في مراحل صحبة الشَّيخ.

2- الطَّاعة وعدم العِصيان وحسن الامتثال للأوامر والنَّواهي.

3- التَّسليم وعدم الاعتراض وعدم المبادرة بالسؤال عن شيء([2]).

تقول الكاتبة أمل زاهد وهي ترصد الخطاب الدعوي في السُّعوديَّة بتصنيفاته المتعدِّدة ومنه الخطاب الصُّوفي: (تلعب الحلقات الاجتماعيَّة دورًا بارزًا في النَّشاط الدَّعوي لدى الصُّوفية، فالنَّشاط الدَّعوي النِّسائي الصُّوفي لا يستطيع أن يمارِس نشاطَه إلا من خلال الحلقات الخاصَّة، ويستمدُّ الخطابُ الدَّعويُّ النسائيُّ الصُّوفيُّ من خطاب محمَّد عَلَوي مالكِي وتلاميذه والحبيب عمر بن حَفِيظ والحبيب علي الجَفْري حاليًا)([3]).

وفي دراسة ميدانيّة أُعدَّت من قِبَل موقع الصُّوفية الإلِكتروني([4]) تبيَّن أنَّ العمل النَّسوي الصُّوفي في إحدى محافظات اليمن – الحُديدة - هو على النحو التالي:

التواجد

الكوادر الموجودة

نوع النشاط

57% من المناطق المشمولة بالدِّراسة بها تواجد صوفيٌ نسويُّ

فقيهات، مدِّرسات عاميَّات

موالِد، زيارات، تحفيظ قرآنٍ، دورات صيفيَّة

مجالات التحرك الصوفي:

إنَّها تحركات دعوية صوفيَّة مستمرَّة، قوامها: الشَّـريط والكتاب والقُرص الإلكتروني والبثُّ الفضائي ومواقع الإنترنت ودعاة في الأرض يتجولون في كلِّ مكان يبشِّرون بدعوتهم وهم متحمِّسون أشدَّ الحماسة، وللأسف الشَّديد قد يجدون سِنةً من أهل السُنة، فهم يعملون من خلال([5]):

1- الأربِطة والزَّوايا:

إعادة الاهتمام بالطُّرق الصُّوفية والزِّيارات البدعيَّة والأربطة والزوايا، وذلك بما يلي:

أ- تشجيع ما هو قائم.

ب- إقامة أربطة جديدة، فالطُّرق الموجودة الآن في الحُديدة على النحو التالي:

الشاذليَّة، التجانية، النَّقْشَبنديَّة، القادريَّة، الدسوقيَّة، البُرهانيَّة، الميرغنيَّة.

2- الكليات والمعاهد الشرعيَّة:

التي تدعم هذا التوجه مثل (دار المصطفى) بتريم في جنوب اليمن، (معاهد كفتارو) في سوريا؛ علمًا بأنَّ هذه المعاهد تمَّ مؤخرًا اعتماد اللغات الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والأسبانيَّة فيها؛ وذلك لإمداد أوروبا بالمدِّ الرُّوحي -الصُّوفي- الإسلامي، (كلية دار العلوم الشـرعية) باليمن، (الأكاديميَّة الصُّوفية) بمصر وغيرها، ولا شكَّ أن هذه الدُّور العلميّة تضمن استمراريَّة النَّشاط الصُّوفي في تلك المناطق بل وتزايد أعداد المنتمين لهذا الفكر، فافتتاح الجامعات والمراكز الصُّوفية ثم إعطاء الفرصة للطُّلاب القادمين من البلدان البعيدة سواء كانت من دول العالم الإسلامي أو من غير دول العالم الإسلامي سوف يصنع انتشارًا ثقافيًّا صوفيًّا، وعلاقاتٍ ممتدة، وتواصيًا على دعم التَّصوف وتثبيته، وقد ذكرت الدِّراسة التي شملت إحدى وعشرين منطقة من محافظة الحُديدة باليمن، وعدد من شملتهم الدراسة (1.278.000) أنَّ (583.650) من الذين شَملتهم الدِّراسة ينتسبون للتَّصوف، وبمعنىً آخر أنَّ التصوف هناك يأخذ نسبةً مئويةً قدرها (46%) ولا شكَّ أنَّ هذا الرَّقم يستحقُّ منَّا كل التَّأمل.

المناطق المشمولة بالدراسة

عدد المشمولين بالدراسة

عدد المنتسبين للتَّصوف

النَّسبة المئوية

21 منطقة

1.278.000

583.650

46%

3- الجمعيات الخيرية:

حيث قامت الصُّوفية في الحُديدة- اليمن - بإقامة مؤسَّسة دعويَّة خيريَّة تحت اسم (دار الخير) ومن أبرز أعمالها:

أ - طباعة النَّشرات التي تؤيد ما هم عليه كنشرة (نعم نحتفل - عن المولد).

ب - إقامة المراكز الصيفيَّة، وقد أقيمت بالحديدة أربعة مراكز صيفيَّة في أماكن مختلفة.

ج - إقامة المسابقات الثَّقافية والرِّياضيَّة، وقد أقاموا عددًا منها في مدينة الحُديدة.

4- الأنديَة الرياضيَّة والثقافيَّة:

حيث اتَّجه الصُّوفية إلى طبقة الشَّباب ونشطوا في دعوتهم نشاطًا كبيرًا، ومن ذلك إقامة أندية رياضيَّة وثقافيَّة تحتضن الشَّباب، ومن أبرزها في مدينة الحديدة (نادي العِلْم والإيمان) والذي يقوم بالعديد من الأنشطة الرياضيَّة والثقافيَّة والعلميَّة والدَّعويَّة، وكلها تصبُّ في ترسيخ وتوطيد الفكر الصُّوفي في عقول الناشِئة والشَّباب.

5- مدارس تحفيظ القرآن الكريم:

وذلك بإقامة عددٍ من المدارس على مستوى البنين والبنات وتشجيع القائم منها، حيث يوجد في الأحياء التي هي مركز العمل لهم ويوجدون بكثرة فيها، وهي: (حيُّ الحوك) و(سوق الهنود) و(حارة اليمن) ما يزيد على ستِّ مدارس للبنين والبنات.

6- المساجد:

وذلك بالحرص البالغ على أن تكون المساجد تحت سيطرتهم حيث أنَّ (60%) تقريبًا من مساجد الحُديدة تحت أيدي الصوفية، بل توجد حلَقَة مترابطة لِسلْسِلَة أحياء تبلُغ عشرة أحياء لا يوجد فيها مسجدٌ واحدٌ لأهل السنة وهي: الحوك - حارة اليمن - سوق الهنود - الكُرنيش - الصديقية - الشحاريَّة - كَوكَبان - باب مشرف - الصباليَّة.

 والمساجد التي تحت أيديهم يتم تفعيل دورها وإقامة الأنشطة المختلفة فيها، ففي مسجد (ذهب) بمدينة الحُديدة أقيم مركزٌ دعويٌّ كبيرٌ بُذِلَ فيه جهدٌ عظيم وسخرت جميع قدراته لإحياء الفكر الصُّوفي وترسيخه في المجتمع.

7- المراكز القياديَّة والمناصب السِّياسيَّة:

الحرص على تولِّي زمام الأمور والمشاركة السِّياسيَّة، وذلك بتسلُّم المراكز القياديَّة في المجتمع ومواطن التأثير في الناس، فمثلًا: في مصر منصب الإفتاء، وكذا في سوريا والمغرب، وزارة الأوقاف في الإمارات والكويت.

 لقد شهد هذا القرن في المغرب تطورًا مهمًّا في ما يتعلق بتدبير السِّياسة الدِّينية بالمغرب وهو تنصيب أحد المتصوفة من مريدي الزاوية البوتشيشيَّة المغربيَّة على رأس إحدى وزارات السِّيادة في المغرب وهي وزارة الأوقاف والشُّئون الإسلامية لتدبير الشَّأن الديني في المغرب وتنفيذ السِّياسة الدِّينية المرسومة من طرف النظام المغربي في بداية الألفيَّة الثالثة.

هذا القرار لم يكن اعتباطيًّا فالنظام السِّياسي المغربي الحالي تميَّز عبر تاريخه بتحركات مدروسة بشكل يضمن توازنًا سياسيًّا بين فاعلي السَّاحة السِّياسية والدِّينية، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول الأسباب الكامِنَة خلفه هل هو عودة إلى التحالف من جديد مع الزَّاوية الشَّريك السَّابق؟ أم هو استباقٌ للأحداث؟ أم هو صناعةٌ لحقلٍ دينيٍّ سياسيٍّ جديدٍ مختلفٍ عما عَرَفه المغرب في القرن السَّابق؟

هذه التَّساؤلات تدفعُنا إلى البحث في خصائص وأدوار الزَّوايا المغربية بشكل عام والزَّاوية البوتشيشية بشكل خاص.

8- وسائل الإعلام المختلفة:

محاولة السَّيطرة على الإعلام، فهُمْ أكثر من يدير ويُشرف على القضايا الدِّينية والفتاوى في الإعلام المسموع والمرئي جملةً، أما المواقع التي على الشَّبكة العالميَّة فحدِّث ولا حرج كثرةً وحسنًا في العرض وجمالًا في الترتيب والتبويب، دع عنك المحاضرات الصوتية والأقراص الإلكترونيَّة التي توزَّع في الكليَّات والمدارس بل ومع مجلات الحاسب الآلي([6]).

ولنا أن نقول: إنَّ التصوف بطرقه ورجالاته ومريديه وأربطته لم يعدْ حالةً من الزُّهد والتعبُّد الفردي كما بدأ؛ بل صار مؤسَّساتٍ ضخمة لها امتدادٌ عابرٌ للقارات، بعضها يجتهد في أن يلعب دورًا دينيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، وبعضها تماهى في الفلكلور وتم اختزاله إلى ظاهرة احتفاليَّة بعد أن التصقت بثوب التقليديَّة، وتكلَّست عن إنتاج أي ممارسات سياسيَّةٍ إيجابيةٍ إلا ما تستفيد منه السُّلطة في تكريس نفسها([7]).

وثمة طرق صوفيَّة تواكب الحداثة وتنخرط في العمل العام حتى تتمكن من دفع رموزها إلى قمَّة الهرم السِّياسي مثل ما هو الحال في تركيا، ولكنها مع وصولها إلى قمَّة الهرم السِّياسي نجدها تفقد مقوِّمات الإسلامية فيها([8])، وبناءً على هذا فإنه لا يصح شرعًا ولا واقعًا أيضًا جعل الصُّوفية والمنتسبين إليها في سلَّةٍ واحدةٍ أو أن نحكم عليها بحكمٍ عامٍّ يشمل جميع المتصوِّفة لا من جهة المواجهة ولا من جهة الحكم الشرعي التوصيفي، ولا يصح أيضًا التعامل مع ظاهرة الحركات الصوفية، كحالات عابرة هامشية، فهي ذات جذور عميقة وأثبتت قدرتها على الديمومة والاستمرار ضمن عدة عصور من التجربة الإسلامية التاريخية حتى الآن على الأقل، فلابدَّ -إذن- من معرفة الواقع الذي تعيشه هذه الجماعات حتى يتمَّ الحكم والتعامل معها بناءً على أُسسٍ علميَّةٍ جليَّةٍ.

إنَّنا أمام مفارقة تأريخيَّة تحتاج إلى الرَّصد والمتابعة.

الهوامش



([1]) انظر: كتاب الصوفية عقيدة وأهداف، (ص:38) وما بعدها.

([2]) مجلة البحوث والدراسات الصوفية (288).

([3]) انظر: مجلة المجلة في (24/11/2005م) من مقال بعنوان: (الداعيات السعوديات مجتمع خفي وخطاب محجب).

([4]) أُعدت هذه الدراسة عن محافظة الحديدة باليمن www.alsoufia.com.

([5]) سنعرض أكثر أعمالهم من خلال دراسة ميدانية أعدت من قبل موقع الصوفية حول واقع الصوفية في محافظة الحديدة باليمن، وهي تقع شمال وغرب الجمهورية اليمنية ومتاخمة للحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية.

([6]) وزع -مجانًا- مع أعداد من مجلة عالم الكمبيوتر عدة أقراص إلكترونية لبرامج معدة حول التصوف.

([7]) انظر مقال: الصوفية وجوه وتجارب، عمار حسن، إسلام أون لاين.

([8]) ذكرت صحيفة الشرق الأوسط الجمعة الموافق: (29/7/2005) العدد: (9740) أن حزب العدالة والتنمية الصوفي النقشبندي قرر في عام (2004م) عدم اعتبار الزنا جريمة مع أن هذا يعد مخالفة صريحة لنص القرآن.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
مجالات التحرك الصوفي.doc doc
مجالات التحرك الصوفي.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى